لبنان و"جبل" كونفوشيوس

تابعنا على:   12:34 2020-03-04

رفيق خوري

أمد/ على مدى التاريخ كانت "فرنسا تتغير دائماً وظهرها إلى الحائط"، كما يقول خبير فرنسي، ومن الإمارة إلى الجمهورية مروراً بالقائمقاميتين والمتصرفية، كان لبنان يتغير بقوة التحولات وموازين القوى الخارجية قبل الداخلية.

اليوم يجد الوطن الصغير نفسه محكوماً بأن يتغير ولا يتغير في الوقت ذاته، لأن التحولات في المنطقة لا تزال في سيولة لم تتبلور تماماً ولا نضجت، والقوى الداخلية مرتبطة بها. لبنان الرسمي وصل إلى الحائط في الهرب من الإصلاحات المطلوبة لمساعدته في الخروج من هاوية أزمة عميقة جداً، ولبنان الشعبي لا يزال في الشارع منذ الخريف الماضي يطالب بإصلاحات أكبر من التي يطلبها المجتمع الدولي، لا السلطة راغبة فعلاً في صنع الإصلاحات المطلوبة منها، خوفاً على مصالح النافذين، ولا الثورة الشعبية السلمية قادرة على أن تصنع بيديها الإصلاحات التي تطالب بها، أو هي حالياً في مرحلة الانتقال إلى فصل آخر من الثورة.

قبل عامين، عملت فرنسا كل ما تستطيع لترتيب مؤتمر دولي في باريس وضمان النجاح له في مساعدة لبنان، سُمّي مؤتمر "سيدر". الوفد اللبناني قدم برنامجاً للإنقاذ أو مجموعة مشاريع ضرورية، والمجتمع الدولي تعهّد بتقديم مساعدات واستثمارات بقيمة 11 مليار دولار شرط أن يقوم لبنان بإصلاحات فعلية وأن يشرف صندوق النقد والبنك الدوليان على تنفيذ المشاريع، لكن التزام لبنان المعلن بقي على الورق، فلا الإصلاحات حدثت بسبب الخلافات داخل السلطة، ولا الاستثمارات والمساعدات جاءت بالطبع، وإن كانت باريس تعمل لكي تبقى المساعدات حاضرة.

وما كان في السلطة مَن يمتلك إرادة الرئيس روزفلت الذي أخرج أميركا من أعمق أزمة مالية واقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي، والقائل "حاسبوني على أساس الأعداء الذين صنعتهم، لأنه إذا كان عليك تغيير الأشياء يجب أن تتوقع العداء من الذين يفيدون من الستاتيكو"، والذين يستفيدون من الستاتيكو في لبنان ليسوا قلة ولا ضعفاء، ولم يتبدل الأمر باستقالة الرئيس سعد الحريري وحكومته، وسقوط التسوية الرئاسية التي جاءت بالعماد ميشال عون إلى القصر الجمهوري، وأعادت الحريري إلى السراي.

فالحكومة التي جرى تشكيلها برئاسة حسان دياب وسُمّيت حكومة "اختصاصيين" هي حكومة "الثنائي الشيعي" و"التيار الوطني الحر"، وعلى طريقة التشنيعة العراقية عن لافتة مركز "الحزب الشيوعي العراقي لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي"، فإن اللافتة في لبنان هي "حكومة حسان دياب لصاحبها حزب الله". حتى الحقائب الأساسية فيها، بقيت في أيدي أحزاب اللون الواحد، ولو بأسماء أخرى. أما الإنكار المستمر، فإنه نوع من التأكيد.

ذلك أن حكومة "مواجهة التحديات" وجدت نفسها على الفور في مواجهة تحدّيين كبيرين: أولهما "جدولة" الدين العام، وثانيهما خريطة الطريق التي رسمتها "مجموعة الدعم الدولي للبنان".

في الأول، اكتفت باستشارة "فنية" من صندوق النقد الدولي، وفي الثاني، إذ المطلوب "استعادة الاستقرار الاقتصادي وصدقية القطاع المالي، ومراجعة موازنة 2020 بشكل نقدي يضمن الاستدامة، وتنفيذ الإصلاحات في القطاعات الأساسية، مثل قطاع الطاقة وإصلاح المؤسسات التابعة للدولة"، فإن الحواجز ارتفعت على الطريق. "حزب الله" أعلن، ومعه أكثر من طرف، رفض "الوصاية المالية" لصندوق النقد الذي تم وضعه في خانة "أدوات الاستكبار".

وليس الرفض مجرد خوف من "الخصخصة" وعلى "السيادة" بمقدار ما هو تعبير عن الرغبة في تغيير الموقع الجيوسياسي للبنان. لماذا؟ للانتقال من تقاليد العلاقات مع أميركا وأوروبا وطبيعة العلاقات مع الأشقاء العرب إلى التموضع في "محور المقاومة" الذي هو عنوان المشروع الإقليمي الإيراني، ولا أحد يتوقع أن تأخذ الحكومة قرارات يرفضها "حزب الله".

والمعادلة "المثلثة" واضحة أمام الجميع، وسط الاعتراف بأن الانهيار "واقعي وكارثي" كما يقول رئيس الحكومة: لا مساعدات عربية ودولية من دون إصلاحات، لا حلّ من دون المساعدات النقدية من صندوق النقد الدولي الذي هو مفتاح كل المساعدات الباقية، ولا حلّ بديلاً لدى رافضي الذهاب إلى صندوق النقد، ولا من الداخل لأنّ المال العام منهوب، والمال الخاص مهاجر، وأموال المودعين التي وظفتها المصارف في المصرف المركزي وسندات الدولة جرى وضعها في سلة مفخوتة يصعب ردّها. ولا عبر الذهاب إلى إيران وروسيا والصين، إن لم يكن ذهاباً إلى الحصار مع طهران، فكيف إذا كانت أميركا وإيران تريان لبنان من ساحات الصراع بينهما؟ وكيف إذا كان ما يطلبه "حزب الله" صاحب الحكومة هو العمل لـ"إخراج الوجود العسكري الأميركي من غرب آسيا"؟

من أقوال كونفوشيوس أن "الرجل الذي ينقل جبلاً يبدأ بحمل حجارة صغيرة"، لكنّ لبنان الثقيل الأحمال مطلوب منه إضافةً إلى ذلك، أن ينقل جبلاً بدل إخراجه من الهاوية.

عن إندبندنت عربية

اخر الأخبار