رؤية "إيرانية" للإقليم العربي الآسيوي الجديد
جهاد الزين
أتيح لي مؤخراً أن أستمع وأحاور بعض السياسيّين العرب (غير اللبنانيين) المتّصلين بأشكال مختلفة بمركز صناعة القرار في إيران. هنا بعض الملاحظات من حصيلة هذه الحوارات التي ركّزتُ أسئلتي فيها على ماذا تريد القيادة الإيرانية من المنطقة لا القيادة الأميركية.
يحدث تحوّلٌ عميق جدا في بنية المنطقة. التركيز على "إعادة معرفة" إيران أو ما أَسْمَيْتُهُ في مقال سابق افتتحتُ به هذه السلسلة(■) "إعادة صناعة إيران" في مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الغربية... هذا التركيز أكثر من ضروري في منطقتنا إعلاماً وبحثاً لأنه يترافق مع تشكيل جديد لخرائطنا وأنظمتنا ربما يتجاوز ما حدث بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 . بل هو يتجاوز ذلك فعلاً لأنه لا يتعلّق فقط بتغيير أنظمة كما يحدث في مصر وتونس ولكن يتعلّق بتغيير خرائط رسمي أو واقعي كما حدث في السودان أو كما يحدث في العراق وليبيا وربما في سوريا.
أحد أكبر معالم التغيير هو الدورالإيراني الإقليمي.
لقد جاء الاتفاق الأميركي الروسي وبالتوازي معه بدء الحوار الأميركي الإيراني ليدفع المرحلة الجديدة من الحالة الإيرانية المستمرة منذ العام 1979 إلى مفارقة – ذروة:
النظام الإيراني هو اليوم في أقصى وضع دفاعي لاسيما بعد بدء موجات "الربيع العربي" وفي أقصى وضع هجومي في آنٍ معاٌ.
لنلاحظ:
1 - من عناصر القوة الإيرانية الرئيسيّة القدرة على هزّ الاستقرار أكثر مما هي قدرة على أقامة أنظمة حكم ثابتة في حالات بلدان كلبنان واليمن والبحرين وغزة. فغزة -حماس "استثناءٌ" عن "النظام الفلسطيني، والحركة الحوثيٌة المتنامية استثناءٌ في التركيبة اليمنية، و حركة الاعتراض الداخلية في البحرين استثناء في الحالة الخليجية، وظاهرة سيطرة "حزب الله" العسكرية الأمنية السياسية الشعبية على الطائفة الشيعية في لبنان استثناء في النظام اللبناني. لذلك يمكن للمراقب أن يُقدّر أن أحد المطالب الرئيسية لإيران في الحوار مع أميركا هو اعترافُ واشنطن بمناطق النفوذ هذه وتحويلها إلى معادلات ثابتة في العلاقة الثنائية وفي النظام الإقليمي.
2 - نقطة الدفاع الأصعب لإيران في المحيط الإقليمي هي اليوم سوريا ولكن نقطة القوة الأكبر هي العراق حيث السلطة المركزية في بغداد تقع تحت السيطرة الثابتة لحلفائها من الأحزاب الشيعية (حتى لوكانت هذه الأحزاب وهي ثلاثة رئيسيّة تتنافس في ما بينها). وإذا كان الوضع السوري مركزا صراعيا دوليا وإقليميّا ضاريا فإن الوضع العراقي، بما هو سيطرة على السلطة في بغداد مدعومة ببنية ديموغرافية، هو موضع توافق مثير وثابت بين طهران وواشنطن. والأرجح عدا تماسك النواة العسكرية للنظام في سوريا والدعم الروسي لها أن "الخزان العراقي البشري والنفطي" هو مصدرٌ حاسمٌ لثبات النظام السوري يتجاوز بكثير أو سيتجاوز كل ما يقال عن دور "حزب الله" في هذا الصراع. فدور هذا الحزب اللبناني له طاقة محدودة بالنتيجة قياسا أولا بالكتلة العسكرية النظامية السورية المقاتلة ومحدودة تموينيا وبشريا قياسا بالكتلة العراقية الديموغرافية وطاقتها النفطية. لذلك نكرّر هنا توصيف العراق الحالي بأنه "دُرّة التاج الإيراني".
3 - ظهر ان العراق ما بعد 2003 بكل تنوّعاته وصعوباته هو مركز تفاهم ثابت بين طهران وواشنطن. ولربما تكمن الإجابة على هذا "اللغز"، الذي سبق الحوار الإيراني الأميركي بسنوات، في دراسة المصالح الضخمة للولايات المتحدة في النفط العراقي.
4 - أفغانستان هي أيضا دائرة تفاهم بين طهران وواشنطن ولو في إطار مختلف من حيث أن التعبير عنه لا يتم فقط في نوع من التوافق الأمني بل أيضا في دعم مشترك للسلطة الرسمية في العاصمة كابول والذي يعكسه وجودُ زعماء الأقلية الشيعية (الهزارا) في دور فاعل ضمن هذه السلطة (رئاسة حميد كرزاي). نائب الرئيس الأميركي جو بايدن هو صاحب الرأي الشهير بأن باكستان لا إيران هي أخطر دولة في العالم بسبب كونها دولة غير مستقرة ويُفرز مجتمعُها حركاتِ تطرفٍ خطيرةً فيما هي حائزة على السلاح النووي. ويُنسَب إلى مسؤول أفغاني في فورة غضب بعد عملية تفجير مؤذية قامت بها "طالبان" ضد جنود ومدنيّين أفغان... قوله: "إذا استمرّ هذا الوضع الداعم لـ"طالبان" بسبب التفتّت الباكستاني فالأرجح أن نستفيق بعد عشرين عاما وقد زالت دولة باكستان بينما دولة أفغانستان مستمرة". كلام في لحظة انفعال وإنما ذو دلالة! مع العلم أن الكثير من عناصر التماسك والانهيار تتداخل بين باكستان وأفغانستان مثل تداخلها بين لبنان وسوريا لاسيما حالياً مما يؤدّي إلى مصائر مشتركة أيضا.
5 - مناطق الامتداد الإيراني المستحدثة في الثلاثين عاما الأخيرة هي ضمن مناطق العالم العربي الآسيوية وجميعها كانت ولاياتٍ عثمانية سابقة ولاسيما بلاد الشام والعراق وبعض الجزيرة. هذا يدفع للسؤال حول نظرة تركيا وخططها بالضبط في هذه المناطق بالنسبة للمستقبل؟ لكن الملاحَظ أن المرحلة الأولى من الصراع في وعلى سوريا بعد 2011 شهدت تحالفا تركيا سعودياً مشتركا ضد إيران (وروسيا). لكن هذا التحالف اهتزّ في مصر فكم سيبقى منه في سوريا في ظل الصراع الذي يبدو كبيرا ومديدا بين السعودية و"الإخوان المسلمين" بكل حركاتهم؟
لهذا من الضروري جدا مراقبة كيف يرى الإيرانيون تناقضات محيطهم الإقليمي ولاسيما صراعات منافسيهم وكيف يوظّفونها في استراتيجيتهم التي تمثّل لاشك امتدادا جيوسياسيا للكيان الإيراني للمرة الأولى بهذا الشكل منذ القرن السادس عشر؟
■ ■ ■
لا بأس من أن نختم هذه العجالة برواية منقولة مؤخّراً من طهران:
أحد السياسيّين الإيرانيين روى لوفد غير إيراني التقاه في الخارج أن الخبراء الإيرانيين بعد أن درسوا كل وثائق ويكليكس المسرّبة الشهيرة اكتشفوا أن الجهة الوحيدة التي لم يأتِ أيٌ من مسؤوليها على ذكر إيران بأي سوء أو نقد خلال لقاءاتهم مع الديبلوماسيّين الأميركيّين هي... سلطنة عُمان!
عن النهار اللبنانية