التفاوض والاتفاق طريق إلى لبنان مستقر

تابعنا على:   08:14 2019-12-03

أمد/ يقف اليوم الطرفان الرئيسيان في لبنان أسيرين لعدم المبادرة بطرح أفكار خلاقة تحقق أرضية مشتركة تستوعب بعض مطالب الجميع ومصالحه، تمنع تصاعد الأحداث ووصولها إلى مرحلة الصدام.

في تطورات الأحداث المتلاحقة في لبنان، من الصعوبة تجاهل تزايد التعقيدات التي حالت دون التوصل إلى حلّ مقبول. فمع مرور الزمن وتوالي الأيام تتصاعد السخونة وينسد الأفق أمام الحلول السياسية الناجعة.

لقد جذب الحراك اللبناني اهتمام العالم، حيث كان لبنان بعيدا عن توقّع مثل ذلك الحراك الذي انساب بقوة وأناقة على أراضي ذلك البلد الجميل. وتتوالى الاحتجاجات؛ أفواج من شباب وشابات ومتوسطي عمر، طلبة وطالبات، شيوخ ونساء، في الجبل والسهل، من مختلف الطوائف والألوان، ينشدون العدل ويطلبون المساواة في الوطن والمواطنة.

وأفواج أخرى أيضا، تدين وتقاطع أنشطة وأهداف ذلك الحراك وتتمسك بالنظام القائم الذي منح لبنان سنوات طويلة من السلام المجتمعي والاستقرار السياسي.

ركّزت الأنشطة في بداية الحراك وتجمعاته على مضامين تتعلق بالتوظيف والضرائب والكهرباء وارتفاع الأسعار والفساد، لكن أهداف التظاهرات تحوّلت إلى أهداف سياسية جريئة تتعلق بالنظام اللبناني بكامله، عبّرت عن ذلك بقوة التظاهرات الغاضبة والرافضة للعودة إلى النظام القديم.

لم يمض وقت طويل قبل ظهور حراك معارض مؤيد للرئيس اللبناني ميشال عون وبعض الأحزاب المشاركة في الحكم، يمكن أن يأخذ البلاد إلى خانة أصعب من التجاذبات. وكانت المظاهرات المؤيدة ردا على الحراك الرافض حافلة بالمشاركين المتحمّسين. وقد تكون وضعت حدّا لأحلام التغيير والتجديد والتفاؤل التي سادت شوارع وساحات مدن وقرى لبنان، لأنها وجهت جرس إنذار لما يمكن أن تنحدر إليه الأمور.

بالرغم من نجاح الحراك المعارض في التحشيد والتظاهر والتماسك، إلاّ أنه فشل في تشكيل قيادة معلومة له حتى الآن. قيادة تقود الجماهير التي ملأت طرقات لبنان، وتنظم خطواتها التالية وتضع مخططا لنظام سياسي جديد للبلاد. وتحدّد المطالب التي يعمل الحراك على التوصل إليها لإعادة الثقة للجماهير في عدالة النظام السياسي لتشكيل الحكومات وتحديد الأهداف السياسية والاقتصادية في ظل تطورات وتحالفات تعصف بدول الشرق الأوسط.

من الملاحظ أن مطالب أصحاب الحراك الحالية متعددة ومتضاربة ومتناقضة، وتعكس تدريجيا تنازلات عن بعض مطالبهم السياسية التي كانت واضحة. وركّزت على مطالب اقتصادية ومالية ومحاربة الفساد واسترجاع المنهوبات.

كما أن بعض أنشطتهم تبنّت المطالبة بتسريع تشكيل الوزارة الجديدة بديلا لمطالبهم في بداية الحراك بإسقاط الحكومة. ولم يبرز خلال تواصل أنشطة الحراك أي شخص أو مجموعة أشخاص، كما حصل في بلدان عديدة، تدّعي القيادة أو التنسيق في هذا الحراك. الأمر الذي يستوجب تلافي هذه الثغرة التي تريد القوى الحاكمة النفاذ منها، للتدليل على أن الحراك يفتقر للرؤية والأجندة العملية.

قد يخسر الحراك اللبناني كثيرا بسبب عدم تصعيد قيادة فاعلة وموحّدة، وربما يكون ذلك بسبب ترسخ القيادة السياسية للطوائف وتاريخها وتعوّد المواطنين عليها لفترة طويلة من الزمن. ويبدو أن النظام الحالي الذي كان هدف الحراك التخلّص من سيطرته هو الذي يرسم اليوم النظام اللبناني القادم. وهنا تكمن المشكلة.

فشل أيضا قادة النظام السياسي الحالي في تقديم صيغة إصلاحية ومقبولة لتطوير النظام اللبناني القائم على تقاسم السلطات بين الطوائف. وبدت محاولاتهم تهدف إلى تعديل مبدأ التقاسم الطائفي وليس الإلغاء، كما بدت معالم الخلاف بين الأطراف التي تشكّلت منها الحكومة الماضية ظاهرة في تصريحات وتبادل اتهامات جارحة.

لم تنجح تأكيدات الرئيس اللبناني وحده على طمأنة الجماهير الغاضبة بجدية النظام في تجديد وتحسين أدواته عن طريق تشكيل حكومة تعتزم الإصلاح الحقيقي. ومن الواضح أن التأجيل المتتالي لتشكيل الوزارة الواعدة يعود إلى التخوّف من فشل الطلقة الأخيرة في جعبة النظام للخروج من الأزمة الخانقة، أو يقوم الزمن بامتصاص حماس المحتجّين مع مرور المزيد من الوقت، كما حصل مع محتجّي السترات الصفراء في فرنسا.

وعدا بعض الأفكار المتبادلة والتفاهم الغامض على تشكيل حكومة جديدة من الكفاءات، حيث تكون الوزارة مؤهلة لتحمل مسؤولية الإصلاح المالي والاقتصادي ومحاربة الفساد واسترجاع الأموال لصناديق الدولة المالية، عبّرت الأحزاب اللبنانية عن عزمها على دعم الإصلاحات والمشاريع التي تتبناها الوزارات المعنية لتحسين الوضع الاقتصادي للبلاد، وتعهد الرئيس اللبناني بدعم جهود الحكومة الجديدة، محليا ودوليا، لإنجاز المهمة التي أوكلت إليها. وهي إشارة ليست كافية لانتهاء الأزمة، لأن الحراك ملّ جميع عناصر الطبقة الحاكمة حاليا.

قد يكون حلّ الحكومة الرشيدة، لو نال موافقة جميع الأطراف، فاتحة لعمل نيابي لبناني جديد وواعد، خاصة إذا التزمت القوى المختلفة بفكرة الركيزتين الأساسيتين اللتين أشار إليهما الجنرال ميشال عون من قبل، وهما: تنفيذ الورقة الاقتصادية التي اقترحها الرئيس سعد الحريري، وبدء البرلمان في دراسة قوانين إصلاحية لدعم الاقتصاد ومحاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة.

ما يدعو إلى التفاؤل بخصوص هذه الروزنامة المدعومة من مراكز السلطة والتشريع، هو ديناميكية الاقتصاد ومهارة رجال الأعمال اللبنانيين وتجمعاتهم في مختلف بقاع العالم، واستعداد الدول والبنوك الدولية للمساعدة والدعم للخروج من الأزمة.

يقف اليوم الطرفان الرئيسيان في لبنان أسيرين لعدم المبادرة بطرح أفكار خلاقة تحقق أرضية مشتركة تستوعب بعض مطالب ومصالح الجميع، تمنع تصاعد الأحداث ووصولها إلى مرحلة الصدام، لأن مرور الزمن وعدم التوصل إلى حلّ مقبول يمكن البناء عليه، يمثّل العدو المشترك للشعب اللبناني.

إن المساس بالتوازن الدقيق الذي يستند عليه النظام اللبناني يقود، كما حدث في العام 1974 إلى صدام داخلي لا يريده أو يعمل لإذكائه أحد.

إذا كان الحراك في لبنان يهدف إلى إلغاء نظام التقاسم الطائفي بالقوة فذلك سيقود إلى صدام أهلي. وإذا كان هدفه فقط تغيير قادة الطوائف فهذا أيضا سيقود إلى صدام أهلي. وإذا كان هؤلاء سوف يتمسكون بالقرار والتنفيذ والحكم المباشر وغير المباشر فهذا أيضا سيقود إلى صدام أهلي. فقط التفاهم والتفاوض والاتفاق هي الطريق إلى لبنان آمن ومستقر.

اخر الأخبار