الشعب و السيسى و الدعم

تابعنا على:   12:32 2014-07-17

د. قدري حفني

الاقتصاد علم متعدد الفروع؛ ورغم أن ثمة فرعا من فروع علم النفس يهتم بقضايا الاقتصاد من منظور العوامل النفسية التى تؤثر على قرارات الفرد الاقتصادية؛ فإن تخصصى فى علم النفس لا يتيح لى بحال الخوض فى تقييمات فنية لقرارات اقتصادية، فقد أخذت على نفسى منذ عهد بعيد أن أتجنب الخوض فيما لا أتقن. لقد أثارت القرارات الاقتصادية الأخيرة المتعلقة برفع الدعم جدلا مفهوما ومقبولا بين المتخصصين؛ وطرح بعض من عارض تلك القرارات عدة اقتراحات بديلة لها، كما وافق البعض على اتخاذ تلك القرارات مع التنبيه على ضرورة استكمالها بإجراءات أخرى تتضمن الشفافية والتنمية والعدالة الاجتماعية إلى آخره؛ ونظرا لأن تضارب الفتاوى لا ينبغى أن يفتح الباب لفتاوى غير المتخصصين؛ فإننى بحكم تخصصى العلمى لست فى موقع يسمح لى بالمفاضلة بين تلك الاقتراحات؛ باعتبارى واحدا من جمهور غير المتخصصين فى الشأن الاقتصادي.

ورغم أنه مفهوما ومقبولا أيضا أن يشكو الجمهور من ارتفاع الأسعار؛ فمن غير المفهوم أن يبادر الكثيرون من غير المتخصصين أمثالي - لتقديم اقتراحات اقتصادية تفصيلية متخصصة وعرض إحصائيات لا سند لها؛ كأن يقول أحدهم أن القضاء على الفساد يوفر للخزانة أضعاف المليارات التى يوفرها رفع الدعم؛ أو أن يعرض أحدهم بكل بساطة لإحصائيات تشير إلى أن عبء ارتفاع أسعار وقود السيارات سوف يقع على كاهل الفقراء الذين يمتلكون السيارات، ولعلها المرة الأولى التى أعرف فيها أن فقراء مصر يمتلكون سيارات؛ وربما كان صاحبنا يقصد ملاك السيارات من أبناء الطبقة الوسطى ولكنه وجد تعبير الفقراء أكثر إثارة.

القرارات التى اتخذها الرئيس السيسى مؤخرا بشأن تقليص الدعم وما ترتب عليها من ارتفاع الأسعار قرارات بشرية تحتمل الخطأ والصواب؛ وقد حاولت خلال الأيام القليلة الماضية أن أتابع ما استطعت متابعته من آراء النخب المصرية المنشورة على صفحات الصحف والبرامج الحوارية التليفزيونية وعلى صفحات التواصل الاجتماعى؛ وهم جميعا بمن فيهم شخصى المتواضع لا نمثل بحال جماهير المصريين وخاصة الفقراء منهم رغم أننا جميعا قد أعطينا لأنفسنا حق الحديث باسم هؤلاء الفقراء دون حصولنا على توكيل منهم؛ وكان حديثنا فى أغلب الأحيان هجوما صارخا على تلك القرارات المجحفة بالفقراء؛ وكثير من مقدمى البرامج الحوارية فى تليفزيوناتنا ذرفوا الدموع تعاطفا مع معاناة فقراء مصر الجياع، وفى أحيان قليلة كان حديثنا خافتا عن ضرورة تلك القرارات الاقتصادية الصعبة.

لقد أشار السيد الرئيس فى كلمته بمناسبة ذكرى العاشر من رمضان، إلى من حذروه من تكرار ما حدث فى يناير 1977؛ ولإنعاش الذاكرة وتبين الفروق فإن انتفاضة 18، 19 يناير 1977 حدثت بعد مرور ساعات قليلة فحسب على صدور القرارات الاقتصادية فى 17 يناير رغم أنه لم يكن هناك آنذاك إنترنت ولا الجزيرة مباشر ولا محمول وحتى التليفونات الأرضية لم تكن على ما يرام. إن الفارق بين «انتفاضات الجياع» و «الانتفاضات السياسية» أن الأولى تقوم فورا كرد فعل مباشر؛ فإذا تباطأت السلطة فى التراجع عن قراراتها الاقتصادية، اتجهت الجماهير الغاضبة إلى تحطيم ممتلكات الأثرياء للحصول على المال والطعام؛ أما «الانتفاضات السياسية» فتحتاج إلى وقت يتم فيه الإعداد والتنظيم والحشد والتمويل إلى آخره ويكون الهدف الإطاحة بالنظام.

ولم تتضح على الأرض حتى كتابة هذه السطور المواقف العملية لتلك الجماهير من الفقراء، وما إذا كانوا سيقومون بعد سويعات بانتفاضة الجياع؟ أم أنهم سيقفون إلى جانب الرئيس السيسى مستعينين بالصبر معتبرين أن ذلك الدواء المر هو الخطوة الصحيحة نحو الشفاء؟

وإلى أن تقول الجماهير كلمتها فإننى من موقعى كمتخصص فى علم النفس السياسى حين أحاول تفسير اتخاذ الرئيس السيسى للقرار أندهش اندهاشا حقيقيا؛ فليس من حاكم أو مسئول يسعى عامدا للمغامرة بشعبيته و اهتزاز كرسى الحكم من تحته ولم يمض على توليه الحكم سوى أسابيع قليلة؛ خاصة إذا كان مفتقدا لتنظيم حزبى يسانده؛ فى وقت يواجه فيه احتجاجات وتفجيرات يقوم بها أنصار تيارات الإسلام السياسى والتى سوف تستثمر و توجه غضب الجماهير المتوقع من الغلاء؛ ويواجه أيضا توجس طبقة من الأثرياء المتخمين تقلقهم تلميحاته التى تقترب من التصريحات؛ فضلا عن إحاطته بقنوات إعلامية و تليفزيونية على درجة عالية من الكفاءة تشن عليه هجوما شرسا دفاعا عن مصالح أصحابها.

السؤال هو ترى لماذا إذن لم يوافق الرئيس على الميزانية كما قدمت له ويحتفظ بشعبيته؟ لماذا لم ينتظر انتخابات مجلس الشعب ليصارح النواب بحقيقة الموقف الاقتصادى المفزع ويعلق الزيادات فى رقبتهم؟

ترى على ماذا يراهن السيسي؟ هل يراهن بالفعل كما قال - على الشعب؟ هل يراهن على أن جماهير مصر سوف تفهمه وتسانده؟ هل يقوم رهانه على أن قراءته للشارع المصرى ولردود فعل المصريين أكثر دقة من قراءة العديد من النخب المصرية؟ هل ستتكرر التنبؤات النخبوية الخاطئة يمينا ويسارا كما حدث فى يوليو 1952، و يونيو 1967، و نوفمبر 1977 وغيرها؟

ربما، وعلى أى حال فإن غدا لناظره قريب.

اخر الأخبار