وقفوني عالحدود

تابعنا على:   22:17 2019-11-25

نيروز قرموط

أمد/ وقفوني عالحدود .. قال بدن هوية قلتلن إنَ بيافا .. مخباييتها ستي

    وقفوني عالحدود .. قال بدن هوية

قلتلن إنَ بيافا .. مخباييتها ستي

انتظر دوري في مطار هيثرو بلندن.. مازال ضوء النهار يضرب وجوه المسافرين .. أحمل جوازي الفلسطيني .. جواز سفر .. أستمع لقرقعة في أحشائي .. كمثل الأكثر في القطاع عانيت من جرثومة تركت آثارها علي، فمياهنا لم تعد تلك المياه.. أنظر إلى الجواز وابتسم، إلى الخلف مني عجوز أمريكي يطعن في السن، يرتدي كاسكيت كحلي اللون، يبتسم لجوازي، أنظر إليه، ويسارع بسؤالي "إلى إدنبرة" .. أجيبه" نعم" .. يشرح لي بنفس مثقل بمشوار طريقه .. كم هو متعب .. وعن رحلته من تكساس إلى هنا " أوه طريق طويلة "، أسأله "ماذا لديك هناك"، يجيبني "مهرجان إدنبرة" لم أعلّق.

ما أن نظرت للخلف بعيدًا بعض الشيء، ألمح تلك اللحية البيضاء، والتفت للأمام سريعا، لثوان سريعة تشغل بالي صورة شخص يبدو أني رأيته، أعود وأنظر ثانية للخلف، أرى ذلك الهدوء يسرح في عينيه، تتملكني تلك الكلمات، أغنيها، أشعر بلحن يدق على قراقع أمعائي المتخمة ببكتيريات ماء اختلط بكل عوادمنا، أنظر للعجوز الأمريكي واللحن يهز برأسي " وقفوني عالحدود .. قال بدن هوية، قلتلن إن بيافا .. مخباييتها ستي"، أشعر بسخونة في وجهي، داخلي يكبر مني، انتفخ كبالونة ربطت إلى ريشة تطير أعلى سطح المطار .. لم أعد أحتاج طائرة، أعود لأحدّث أفكاري، آه يا صبية عانيت الأمّرين لتحملي جواز سفر، وهوية، كم كانت تعينك تلك الكلمات في الأغنية لتشعري بنشوة ما تفقدين، خمس وثلاثون عاما أقاتل من أجل سفر لم أطلبه، لكني قاتلت صمتا من أجل حرية من حق كل الناس، وبعد ذلك اكتشفت أن الكثيرين من جلدتك لا يفهمون ما معنى ألا تمتلك هوية فلسطينية، كل شيء يرقص كالبرق في رأسي، فلاشات تضيء وقفتي، لكن ماذا هذا المطار أشعر بالملل منه.

قبل ساعة من هذا الطابور  بينما أراقب الشاشة لموعد طائرتي، أب يرتدي ملابس تخبر عن عمل يشبه الصحافة أو لربما عمل آخر، إلى جانبه فتاة عيناها كما قصيدة محمود درويش.

عَيْنَان تَائِهَتَان فِي الأَلْوَان

خضْرَوَانِ قَبْلَ الْعُشْب

زَرْقَاوَانِ قَبْلَ الْفَجْر

تَقْتَبِسَانِ لَوْنَ الماء

يحملان حقائبهما، كما رحلتي يبدو أن رحلتهما تأخرت، نتبادل النظرات، ونجلس على مقاعد الانتظار، أشتهي فنجان قهوة، أنا متعبة من طول الطريق، انتظرت اسمي أكثر من مرة على معبر المسافرين في رفح، لكن ما أن امتلك موافقة حتى يتم إلغاءها، إلى أن اضطررت إلى دفع المال مقابل خدمة تسرع من الموافقة على سفري، عقبات تواجه مشوار كلماتي، أعداء لا أعلم وجوههم لكنهم يحاربون خطواتي يأخرونها يعبثون بطريقي، يسرقون مني الوقت يسرقون حريتي، أيام حتى وصلت كرسي انتظار في مطار، أشرب القهوة، والفتاة تحاول التقاط صورة سيلفي، لكنها لم تفلح بالتقاط الصورة الأجمل، يحاول والدها مساعدتها، تضحك  تتحدث الانجليزية " والدي لم تعجبني، أنظر كيف أبدو!"، أبادر وأطلب منها هاتفها "سألتقط لك صورة"  تصوّب نظرة ثابتة إلى عيني وتناولني هاتفها الجوال، أطلب مرة أخرى منها تلك الابتسامة العفوية، تبتسم، التقط الصورة، تعجبها كثيرا، تريد صورة أخرى، ما أن عدت لإعدادات الهاتف لفتح الكاميرا، انتبه لتلك الحروف العبرية، ابتسمت في داخلي، والتقطت صورة أخرى، لا أخفي أن دهشة ممزوجة بالسكون أغدقت على حواسي، لكنه ذلك الأب بعد أن جعلته ابنته ينظر إلى جمال صورتها، أخذ يتفحصني على مهل، بداخلي " هل علم عن هويتي" لكني ابتسم، نتململ كلينا، أعيد إليه طمأنينته" إلى أين وجهتك" يجيب " إلى جلاسكو" ويعقب" لقد طال انتظارنا هنا" أقول له " وأنا كذلك" . ونصمت.

في تلك الطريق الى بوابة الطائرة، صاحب اللحية البيضاء، إنه خلفي مباشرة، فرحة تغمرني، لست بارعة كفاية لأبدأ بتعارف ما، فلطالما تملكني الخجل، أقول له "مارسيل خليفة!" يجيبني نعم. وإلى جانبي ذلك الشخص بخدوده الممتلئة، ويبدو متعرقا، وآثار طريق أخرى لم تمحى بعد من هيئته، " من أين؟" يسألني" من فلسطين أسافر من غزة، وأنت؟" " من سوريا، أنا الكاتب خالد خليفة ذاهب إلى إدنبرة ." يتملكني كل الحنين إلى بلد ولدت فيها، أريد أن احتضن طفولتي في رائحة ذلك العرق الذي يفسد قميصه، يبادلني الحديث "لم أجد وقتا لتبديل ملابسي، الطريق متعبة".

في مخيلتي لبنان، سوريا، فلسطين، دموع تغتسل حنينا وقهرا وانتماء في ذاكرتي. لقد وصلنا، مارسيل يسير نحو مقعدي، نقف سويًا، ماذا تفعلين " أكتب" يسألني " من أين من فلسطين؟" أجيبه "غزة" يأخذ نفسًا عميقًا " آه غزة"، يكمل "ستجدين تذاكر مجانية لحفلتي مساء غد،" يبتسم "قد تعطيني بعض الكلمات لأغنية ما."  أصمت طويلًا.

مترجمة كتابي مصرية وتحمل تلك الملامح الفرعونية الأصيلة، وذلك الكحل في عينيها، دهشت بسمراء بشرتها، كم هو مثير، تلك الأمومة مازالت تنضح من جسدها ولباسها الأسود، بعد أن وضعت طفلتها بينما نعمل على ترجمة الكتاب، امتلكت الفرصة لمقابلتها بعد سنوات من العمل المتواصل دون لقاء، كانت قد بعثت لي برسالة قبل وصولها "سأصل متأخرة بعد منتصف الليل، لن أجد رحلة قبل ذلك من باريس" أرسل لها "كنت سأدعوك إلى حفل موسيقي لمارسيل خليفة، امتلك ثلاث تذاكر "، ترد مسرعة " أوه أحبه كثيرا".

لا يطيق النظر إلي، ولربما أنا كذلك، غضب يشيد أسوار عالية بيننا، رسالة منه" علينا النقاش حول غدًا، هل أنضم لك والمترجمة في جلسة عمل"، أكتب له " لا مشكلة، لكنها لا تستطيع الوصول هذه الليلة، ما بالك في مرافقتي لحفل لمارسيل خليفة، هو مغني اللبناني" يرسل إلي "أوك".

نسير تحت المطر، تنهمر القطرات بغضب فوق وابل من غضب يلفه الراحة، والمظلة تتأرجح والرياح، فتاة تصرخ في وجه صديقها، بينما ترتدي ذلك النايلون حماية لها من المطر، يعلّق " يبدو أنها قد أسرفت بالشرب"، حذائي جديد أوه لقد غرق بالماء، تتعرقل مظلتي بأحدهم، ويعتذر هو عني، القاعة كبيرة، نجد لنا مكانًا في تلك المدرجات " يا بحرية هيلا هيلا" وحناجر الجمهور تتدفق وتردد سويًا هيلا هيلا، " شدوا الهمة الهمة قوية جرح بينده للحرية " ووين بحرك يا غزة، ألعنك من كثر ما أحب بحرك.

أختي عبر الهاتف، لا تصدق أريد أسطوانة موقعة منه، طابور طويل ينتظر توقيعه، عيون لبنانية مهاجرة تتفحص اللبنان في لحيته البيضاء، يتقدم نحوي يهديني اسطواناته ويوقعها" مع كل الحب"، يعرفني إلى ابنه رامي، يبتسم صديقي وناشري الإنجليزي من عملت معه لسنوات طويلة، ويلتقط لنا صورة.

كلمات دلالية

اخر الأخبار