مجتمعات بلا ثقافة لا مستقبل لها!

تابعنا على:   20:59 2019-11-08

نبيل عودة

أمد/ لا يمكن فصل ظاهرة التعثر الثقافي عن فساد الانظمة وغياب المساحة الحرة الضرورية لجعل المشهد الثقافي مؤثراً على مجمل المشاهد السياسية والاجتماعية والتربوية.

طبعا انا اطرح الجانب الإبداعي من ادب وفنون، دون تناول الجانب الأخر انتاج الخيرات المادية الذي يعتبر مركبا هاما في كل مفهوم الثقافة. ومن الواضح ان هناك ترابطا اندماجيا بين الجانبين الأدبي الإبداعي والتطور الاقتصادي. من يظن ان مئات المليارت المكدسة في البنوك الأجنبية لدول النفط العربي تنتج ثقافة هو واهم، لا تنتج الا تفاهات وانحرافات خلقية. ونحن شهود على العديد منها. من هنا عنوان مقالي باصطلاح الثقافة يشمل الجانبين، الابداع الأدبي وإنتاج الخيرات المادية.

امام هذه الحالة نرى ان ثقافتنا اصبحت منقسمة على ذاتها، بين "ثقافة رسمية" تدافع عما يسمى زورا " المصلحة العامة " وثقافة متمردة على هذه الوصاية ... تواجه ليس الرفض الثقافي الرسمي من الاوصياء ومدعي الثقافة، وانما القمع الرسمي ايضا، او القمع الحزبي بحالات أخرى!!

من هنا أرى ان المشهد الثقافي العربي مليء بحالات التكلس التي تمنع تدفق "الدماء الثقافية" وتجعل ثقافتنا تعاني من التوقف والانقطاع عن التواصل مع جمهورها المفترض.

صحيح انه في حالة ثقافتنا العربية في اسرائيل، الحالة مختلفة بعض الشيء، لكن تأثيرات الحالة العربية العامة تمتد وتشكل عائقاً على الفكر الثقافي عندنا ايضا ً. ان ما تطلبه الانظمة من مثقفيها لا يختلف عما تطلبه القيادات العربية المحلية من "مثقفيها". او عن الخانة المخصصة لهم ... وكأنهم لاعبين يؤدون دوراً ما في سيرك، من ظواهر هذه الحالة في قترة ما كان ظهور فئة المثقفين "الوصاة" المحسوبين على القيادات الحزبية، دون ان يواجهوا بحقيقتهم، انهم اهانة للثقافة والمثقفين، وانهم مجرد مهرجين في المشهد الثقافي ومنافقين لأصحاب السطوة والـمتزعمين !!

من ظواهر هذه الحالة منع توزيع عدد غير قليل من الكتب في دول عربية مختلفة، وتعرض عدد من الكتاب الى التهديدات والضغوطات الفظة، ومحاولات القتل والقتل أيضا. وفي حالتنا الحزبية تتويج ملوك للثقافة وخلق أوهام العظمة، بحيث ان لقب الكاتب الكبير يجب ان يسبق اسمهم.

هذه الحالة تعبر عن واقع سياسي مريض... حقاً نحن بعيدين عن انظمة القمع السياسي والثقافي. وكم تبدو الأحاديث عن الاصلاح الديمقراطي مقطوعة من جذورها حين تقارن بالفساد العربي. انا ادعي ان الفساد العربي له امتداده المحلي ايضاً ... وهذا يبرز بقوة في توقف تدفق الدماء في جسد ثقافتنا، وفي تحول الثقافة الى الشيء الزائد غير الاساسي في ممارستنا السياسية وفي واقعنا الاجتماعي، وعبر عملية الفصل بين السياسي والثقافي والاجتماعي!!

ان الفصل بين الثقافي والسياسي يقود الى التعثر والانكفاء ... تعثر ثقافي وانكفاء سياسي. والفصل بين الاجتماعي والثقافي يقود الى الخواء الفكري والتفكك الاجتماعي وشيوع السلبيات في حياتنا وممارساتنا اليومية والعامة.

هذه هي الحالة المرضية لثقافتنا ولسياستنا ولمجتمعنا، حيث تتحول السياسة الى لعبة صراع بين مجموعة من الديوك لإبراز قوة مناقيرهم، والوان ريشهم وتوهمهم انهم الاوصياء الذين لا تسير الامور بدونهم. بكلمات اخرى يمارسون عملية النفي للرأي المختلف وللعقل الآخر النقيض لمنهجهم ألاستعلائي ولتيجانهم الوهمية، ويرون بكل مبادرة اجتماعية، أو سياسية، أو ثقافية، تجاوزاً لمكانتهم وخطراً يهدد امتيازاتهم. ان العداء المتأصل بين القيادات السياسية والثقافية، هي أبرز تعبير عن الضرورة في التغيير والاصلاح الاجتماعي والسياسي، في هذه الحالة الحل يكون بإحداث انتفاضة ثقافية تنهي الابتذال والوهن، تنهي الطغيان السلطوي والفساد السياسي. تنهي العداء المتأصل بين القيادات السياسية والثقافية، بصفتها أبرز تعبير عن الضرورة في التغيير والاصلاح الاجتماعي والسياسي، وهذه المعادلة تصلح لواقعنا السياسي والثقافي ايضاً رغم اختلاف العديد من المعاير.

مجتمع مأزوم وادب مأزوم

الواقع الثقافي هو المعيار الصحيح للواقع الاجتماعي. المجتمع المأزوم لا ينتج الا الأدب المأزوم. هذا لا يعني ان حركة الابداع تتوقف انما يزاد التسيب الثقافي، ويسود الفقر الثقافي، ويطغى على الساحة الأدبية. لا يتوهم أحد ان الدرجات العلمية التي تسبق بعض الاسماء تختلف او تتميز بأفضلية ما. التجربة الثقافية في العقد الاخير على الاقل تشير الى اتجاه سلبي تماماً.

اصحاب الالقاب هم أكثر مروجي ثقافة الفقر وثقافة الهبوط والتذلل ... ثقافة التسول والميوعة، ربما لأن بعضهم "اكتشف" ميوله الأدبية بعد التقاعد وضمان أمن المعاش، أو بعد ان بات متأكدا ان خطر التعبير عن وطنيته لم يعد يواجه بغضب السلطة!!

في الثقافة العربية داخل اسرائيل هناك عوامل عمقت الواقع الادبي المأزوم، وهذا انعكاس للأزمة الاجتماعية والفكرية الخانقة التي يواجهها مجتمعنا العربي داخل اسرائيل، والتي تتميز بغياب الثقافة الكامل عن الاجندة المطروحة على ساحة العمل السياسي والفكري، بمعنى الفصل بين الثقافي السياسي، بين الثقافي والفكر التاريخي، بين الثقافي والفكر الديني، لدرجة اننا أصبحنا مجتمعاً لا ثقافياً، لا يقرأ، لا يناقش، لا يشترك بالندوات الثقافية. لا يفكر ... يتلقى كل ما هو جاهز، يتعامل مع الثقافة كتعبئة فراغات في الصحافة، لدرجة ان اهم مجلة ثقافيه عرفها العرب في اسرائيل، ولعبت دوراً هاماً في بناء صرح الثقافة العربية للجماهير العربية داخل اسرائيل وصانت شخصيتهم الوطنية ولغتهم واقامت التواصل بينهم وبين الثقافة العربية في العالم العربي (وأعني مجلة "الجديد" التي اصدرها الشيوعيون في اوائل الخمسينات) غابت تماماً دون ان تثير اي ردود فعل لدى جمهور المثقفين ، او لدى القيادات السياسية التي ورثت هذا التراث العظيم فأهملته وانشغلت بتوزيع كعكة المكاسب المادية القيادية.

فهل من المستهجن الوضع لذي انحدرنا اليه؟ وهل من الغريب ان بعض "الجبناء" الذين لم نسمع اصواتهم حين كان للكلمة ثمن ندفعه من حرياتنا وحقنا بالعمل، أصبحوا في شيخوختهم وطنيين وشعراء وكتاب تافهين ونقاد وادباء ينصبون الملوك والامراء للشعر والنثر العربي في إسرائيل، ويجعلون من الثرثرات قمم في الابداع الادبي (ربما لتغطية ثرثراتهم؟) في الوقت الذي من الصعب ان نجد بمعظم ما يروجون له قصيدة أو عملاً نثرياً يستحق القراءة؟!

لا اريد ان يفهم من كلامي ان كل الابداع الادبي للعرب داخل اسرائيل مأزوم وفاشل، هناك ابداعات أدبية جيدة ومتوسطة نثراً وشعراً ونقداً ولكن السائد بنسبة شبه مطلقة هي النصوص التي لا شيء فيها من الابداع أو الذوق الادبي البسيط، والنقد السائد هو نقد التهريج وتحميل النصوص ما ليس فيها من نثر أو شعر.

ربما أكثر التعابير ملائمة للواقع الادبي والاجتماعي المأزوم وصفه بحالة المراهقة. هذه الحالة يمكن ملاحظتها في مستويين. الاول مستوى التفكير والدوافع التي تقف وراء الكتابة النقدية أو الإبداعية (انا اعتبر ان النقد كتابة ابداعية ايضاً، وعملية التفريق بينهما هنا من ضرورات شرح الواقع الثقافي المأزوم) والمستوى الثاني، على المستوى الشخصي، وهذا الامر لم اتوقعه ... حتى وقع بين يدي ديوان شعر لناقد وشاعر بلقب اكاديمي، فوجئت ان المراهقة، كمرحلة في حياة كل انسان، لم تغادر البعض رغم شيخوختهم، بالطبع هناك تداخل بين المستويين ... ينتج عنه العجب العجاب في ثقافتنا المسكينة، والويل لنبيل عودة، على "وقاحته" واقتحامه للممالك الخاصة التي اقامها البؤساء ثقافياً، وللأسف، أجد نفسي احمل السلم بالعرض، مواقفي حقاً تحظى بشعبية لدى الكثير من القراء والمثقفين، لكني مستاء جداً من انكفائهم واكتفائهم بالدعم المعنوي وكأن الثقافية العربية داخل اسرائيل لا تخصهم، والتسيب السائد لا يؤثر على تسويق ابداعهم، فيذهب الصالح بالطالح .

اريد ان ارى حركة ثقافية نشطة وغير متهادنة مع التهريج والفقر الثقافي، ليس لإعادة قيمة الابداع لحياتنا انما لدفع مجتمعنا نحو افاق انسانية جديدة، نحو تفكير عقلاني فكري سياسي واجتماعي، نحو التخلص من فكر الانطواء والانعزال القومي والطائفي والثقافي.

في سنوات الستين قال بن غوريون (اول رئيس لحكومة إسرائيل ردا على تخوف الجنرالات من هجوم عربي) انه ما دام العرب لا يقرأون فلا خوف على اسرائيل، واضاف، وحتى إذا بدأوا يقرأون فلن يفهموا ما يقرأون، لذلك لا خوف على اسرائيل.

لا اسوق هذا القول للاستنتاج السياسي، انما للاستنتاج الثقافي، ولأهمية الترابط بين الثقافي والسياسي بين الثقافي والاجتماعي وبين الثقافي ومختلف العلوم الاجتماعية والانسانية. مجتمع مشلول ثقافيا، هو مجتمع بلا مستقبل.

كلمات دلالية

اخر الأخبار