عندما يحاصر الموت اللاجئين الفلسطينيين

تابعنا على:   17:05 2013-10-31

نافذ غنيم*

ليس سهلا على المرء أن يعيش مشردا ومشتتا في المنافي، فعندما يسكن الوطن في كل أشيائنا، ولا نجده واقعا تجسده الأيام شيئا فشيئا، فان الأمل في المستقبل يغزوه القلق، وما يعيننا على ذلك، الحلم الذي نواصل التمسك به والعيش من اجله جيلا بعد جيل إلى أن يتحقق ذلك أو نفنى دونه .

كانوا قد انتزعوا من أرضهم رغم عنهم، ليبدءوا رحلة المعاناة، كان أملهم في ارض تحتضنهم، وبحياة كريمة ولو بحدها الأدنى، هم ارتضوا ذلك مؤقتا على أمل العودة يوما ما لأرض الوطن، اختلطت أحلامهم وأمانيهم بتقلبات المراحل، ولم يكن ببالهم أن تضيق بهم الدنيا مرة أخرى ليركبوا رحيل آخر هربا من الموت إلى أمل الحياة .. هذه المرة لم تكن وجهتم الأرض التي حلموا بالعودة لها، ولا حتى العودة المنقوصة لأحد أجزائها .. بحثوا عن عنوان جديد، وأمل جديد لعله يسعف ما تبقى من أحلامهم .. هنا يُقتل اللاجئ مرتين، الأولى، عندما لا يرحل صوب الوطن لأنه يشعر بان العناوين تغيرت، وأصبح البؤس والإحباط والقلق راية كل بيت فيه، حتى أهله الصامدين فوق أديمه بات الكثير منهم يفكرون بالهجرة عنه، والثانية، عندما يحاصره الموت من كل جانب بسبب رداءة المرحلة، وتلك الصراعات التي صارت عنوانا اسودا في تاريخ المنطقة .. ليصبح القتل ارتباطا بالجنسية والدين والطائفة، او بمزاج هذا او ذاك ممن تجردوا من إنسانيتهم ..

مرة أخرى يلملم هؤلاء اللاجئون ما تبقى من أحلامهم، ليركبوا البحر نحو بلاد هي ليست بلادهم، لكنها بلاد تحترم الإنسان، وتأخذ بيد من يستجير بها .. هم يهربون إلى وطن ليس وطنهم، لكنه يعطيهم أمل جديد، ومستقبل يجد فيه أطفالهم ما يمكن أن يحقق أحلامهم.. لم يأبهوا إلى ما يمكن أن يواجهوه في عرض البحر، كان كل همهم أن تأخذهم الأمواج إلى مرفأ جديد يرتبون عليه أمالهم وأحلامهم .. كانت عيونهم وعيون أطفالهم شاخصة نحو الأفق تراقب مرور الزمن، فمع انطواء كل لحظة يكبر الأمل، وترتسم الأحلام الوردية على صفحات البحر، حلموا ببلد يحترم آدميتهم، وبلقمة عيش كريمة غير مغمسة بالذل والهوان .. حلموا بحرية تستجيب لإنسانية الإنسان ولا تبقيه مهانا، وبفرصة عمل طالما بحثوا عنها ولم يجدوها عند الأقرب لهم، بحثوا عن مستقبل آمن لأطفالهم ليطمئنوا لعلاجهم، والى تعليمهم، والى إكسابهم كل ما يعزز فيهم قيم سوية غير مشوهة .. كان أملهم أن يجدوا كل ذلك في وطنهم الذي ما زال يغتاله قتلة المرحلة الذين كانوا سببا في تهجيرهم عنه .. وكانوا كما غيرهم جاهزون للتضحية بالكثير للعودة على احد أجزائه، والتنازل عن بعض من أحلامهم، لكن بعضنا أراد لرياح الوطن أن لا تشتهيها سفن العودة، لتشرع من جديد باتجاه هذه الغربة بكل أمالها وعذاباتها ..

تفاجئهم أمواج البحر لتقلب أحلامهم كما قلبت سفينتهم ، وليهرب الحلم من عيون أطفالهم الذين اتسعت خيالاتهم لكل المرح الطفولي .. كانوا يحتضنون أطفالهم وهم يستشعرون بان نهايتهم قد اقتربت .. كم صعب على الإنسان أن يتصور تلك اللحظات .. عندما تعيش مفارقة الأمل الذي كنت تنتظر، ولحظة الموت التي تفقدك كل شيء، وما يزيد الشعور غصة، عندما تعيش لحظة احتضان أطفالك وتكون عاجزا عن عمل أي شيء وهم يموتون غرقا، أو أن تستصرخك شريكة حياتك، ولا تستطيع أن تحرك ساكنا لإنقاذها، لتعيش لحظة بلحظة واقعة رحيلها ... ولا ندرى كم كان وجع تلك الطفلة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة .. تبحث عن الهواء فلا تجد إلا الماء مستقرا في جوفها .. أكانت تتصور وجه أمها الذي لم يفارقها منذ أن أبصرت النور على هذه الحياة ؟ أم كانت تتخيل رسم عروستها التي كانت تحتضنها أينما ذهبت لتداعب بأصابعها الطرية شعرها الأصفر المسدل على كتفيها ؟ هي كثيرة تلك المشاهد الإنسانية المؤلمة التي تعتصر القلب آلما، وتمزق الوجدان حسرة على هذا الواقع الوحشي الذي بات يسرق من اللاجئ كل شيء، حتى أحلام أطفاله البريئة .

أحلام وردية تتحول في لحظات إلى كابوس مفزع .. فمن فارق الحياة فقد طوى معه أحلامه إلى غير رجعة، أما الباقون على قيدها، فقد تشوه كل ما فيهم بعدما عاشوا هذه المعاناة المركبة .. معاناة تجعلك من جديد لاجئا مع ذاتك ووجدانك ومشاعرك، ما أصعب ذلك، وما أقسى أن يحاصر اللاجئ من كل جانب.. فهو الفاقد للوطن، وللحقوق، وللعيش الكريم، وهو الفاقد لنفسه ولأسرته عندما حاول أن يبحث عن مأوي جديد وحياة تحميه من الموت، وهو الذي قد انسدت أمامه طريق العودة للوطن الذي حلم به ... ذاك الوطن الذي انغرس حلما جميلا في عقله وقلبه ووجدانه .. كان يحدثه أبيه وجده عن أيام زمان، عن البيدر والحاكورة .. عن العيش الكريم بعرق الجبين.. عن نقاء الناس وطيبتهم ومحبتهم .. عن الألفة وليالي السمر .. هم حلموا هناك، ونحن حلمنا هنا فوق أجزاء من ارض الوطن .. لكنهم في غربة ونحن كذلك .. هم يحاصرهم الموت ونحن كذلك.. هم يحلمون بالعودة حتى المؤقتة لأرض الوطن، لكن أبناء جلدتهم حجزوها عنهم بسبب سلوكهم ومواقفهم وسياساتهم التي لا تجد للعودة طريق، أما من هنا، وللسبب ذاته، فقد بات الكثيرون منهم يرنون للرحيل إلى بلاد جديدة وعناوين جديدة، أملا في بلاد يتنسموا بها عبير الحرية، والشعور بالكرامة، والحصول على ما يعينهم لتوفير حاجات أسرهم، وما يفتح الطريق أمام مستقبل واعد لأبنائهم الشباب الذين انقطعت بهم كل السبل..

كنت أتمنى أن يجد لاجئو بلادنا - وبرغم كل ممارسات الجلاد العنصرية- طريقا لعودتهم إلى أي بقعة من ارض الوطن، وتمنيت أن نحتضن هؤلاء بكل محبة ودفء ومسئولية كي يتشجع الجميع لاحتضان الوطن واقعا ملموسا، وليس الهرب إلى هناك .. تمنيت كل ذلك، لكن وبكل أسف ما زالت سلوكياتنا تأكيد يوما بعد يوم بان قضية لاجئي شعبنا صارت في ذيل الاهتمامات، وأضحت محلا للمزايدة السياسية، وبأنها لا تتعدي حشوة مناسبة لمن يهوى رفع الشعارات وإلقاء الخطب دون إقران ذلك بالعمل الجاد والمخلص لهذه القضية الوطنية السامية والنبيلة ببعديها السياسي والإنساني ..

غزة/ 31-10-2013م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

•         عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني

[email protected]

اخر الأخبار