لبنان والحراك السياسي المخادع

تابعنا على:   07:26 2019-10-29

أمد/ ليس المطلوب اليوم من الحراك اللبناني إسقاط الهيمنة الطائفية التي هي سمة النظام السياسي اللبناني منذ عهود طويلة، لأنه ببساطة لا يستطيع ذلك. المطلوب اليوم لا يتجاوز ما اقترحه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والبطريرك الماروني.

ما هو السبيل للخروج من المأزق الحالي

منذ بدء الحراك الشعبي في العالم العربي، وهناك خمس بلدان عربية تقريبا انقسمت على نفسها، وأصبح الانقسام واقعا ملموسا وطنيا وإقليميا وربما دوليا. لكن الانقسام الذي يتبلور الآن في فلسطين واليمن وليبيا، والانقسام الشديد في كل من سوريا والعراق لا يمكن تحقيقه في دولة صغيرة المساحة مثل لبنان، ولا بوجود العديد من الأحزاب السياسية المعتمدة على نظام التقاسم الطائفي الديني والمذهبي.

ومن الصعب توجيه الحراك اللبناني العارم لتحقيق ما تم في السودان وتونس وربما الجزائر لأسباب مختلفة، ولذلك قد يكون الحراك مخادعا من الناحية السياسية حتى تكتمل أركانه.

اعتمد الحراك الناجح في بعض الدول العربية على أحزاب وقوى لها تأثير واضح في توجيه المتظاهرين نحو حلول ممكنة التطبيق. وكان ذلك نتيجة لتحالفات تلك الأحزاب والقوى التي مكّنت من التوصل إلى أهداف وحلول متفق عليها.

لعبت القوات المسلحة الدور الرئيسي في منع التدهور في دوّامات الفوضى، وتمت إزاحة القيادة القديمة بالاستناد على مجالس سيادية متفق عليها من أحزاب وقوى تقدمت لقيادة الحراك وتحويله من مظاهرات غضب إلى إرساء نظام سياسي أفضل، لأنه لا يمكن التغيير بوجود القيادات ذاتها التي تسببت في غضب ورفض الجماهير، ودفعتها إلى اللجوء لحل الحراك الشعبي.

قام الوضع السياسي والمجتمعي منذ إنشاء الدولة اللبنانية الحديثة على تقاسم السلطة والمراكز، وتم تدوين ذلك بشكل واضح في الدستور والقوانين. وأعطي هذا التفاهم والتوافق على تسليم السلطة المطلقة للأحزاب والتجمعات اللبنانية المعتمدة في انطلاقاتها وتصرفاتها وتحالفاتها وخلافاتها على الأسس الطائفية، وشمل ذلك منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، والوزراء، ورئاسة المجلس النيابي والأعضاء وقادة الجيش والشرطة.

كان الداعم الأول والأكبر لهذا التقاسم الطائفي هو الشعب اللبناني ذاته، بغض النظر عن وجود أحزاب عقائدية ومجموعة من المفكرين والمثقفين المعادين لحكم الطوائف.

يعلم المتظاهرون في شوارع بيروت ومدن لبنانية عدة أن وظائفهم أو أعمالهم واحتياجاتهم قد تحققت، وسوف تتحقق مستقبلا، من خلال قادة طوائفهم، ويعتمد مستقبل إيجاد عمل لأولادهم وبناتهم على علاقاتهم بقادة الأحزاب الطائفية التي ينتمون إليها.

لا ينال أول الناجحين في الامتحانات العامة أو الخريجين في الجامعات فرصة الفوز في منحة دراسية إلا بتدخل ودعم قادة الأحزاب الطائفية، ولا يتم قبول شاب لبناني في الكلية العسكرية إلا ضمن التوزيع الطائفي، ودعم واحد من قادة الأحزاب الطائفية، وقد لا ينال مواطن حق العلاج الحكومي المجّاني أو رخصة بناء أو تهرب من ضرائب من دون وساطة قادة الأحزاب الطائفية. ولكل جمعية أو ناد رياضي أو مجتمعي داعم من قادة الأحزاب الطائفية.

وتوجد حفنة من النواب المستقلين في البرلمان اللبناني مرتبطين بطائفة أو زعيم، ولا يوجد وزير مستقل في الوزارة اللبنانية إلا محسوب على قائمة أو حزب طائفي. ويتقاسم قادة الأحزاب الطائفية مناصب السفراء اللبنانيين في الخارج، ومناصب نواب الوزراء والمديرين العامين والقضاة. وتسبب ذلك العرف السياسي، مع تداخل التواجد الفلسطيني، في الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت منذ عام 1974.

في تلك الحرب التي استمرت حوالي خمسة عشر عاما، لم يتواجد مسيحي في خندق مسلم، ولا شيعي في خندق درزي، ولا تحالف سني لبناني مع ماروني، ولا أرمني مع بروتستانتي.

وقفت كل طائفة تدافع عن شوارعها ومساكنها، وفق مصالحها وتحالفاتها، إلى أن نجحت المملكة العربية السعودية في عقد مؤتمر الطائف في مايو عام 1989، الذي اشترك في أعماله ممثلون عن كافة الأطراف والتنظيمات والطوائف اللبنانية ليتوصلوا إلى اتفاق سلام قائم أساسا على المشاركة الطائفية في حكم لبنان الصغير والجميل.

تضمّن اتفاق الطائف قرارا بإنهاء النظام السياسي الطائفي في لبنان خلال خمس سنوات. واليوم وبعد ثلاثين عاما على صدور اتفاق الطائف لا زال الشعب اللبناني ينتظر تنفيذ هذا القرار.

إن الحكم الطائفي في لبنان ليس بدعة أو خروجا عن الدستور أو القوانين، بل هو نظام اختاره اللبنانيون وله تاريخ وإنجازات، وصمد ليشكل أمرا واقعا عاشت به ومعه الدولة اللبنانية منذ ثلاثة وسبعين عاما.

والحكمة وراء ذلك النظام الانتخابي والسياسي الذي أفرز الدولة اللبنانية في عام 1946، هي حماية الأقليات المتعددة التي تعايشت في لبنان من سيطرة المسلمين السنة والمسيحيين المارونيين.

تغيّرت اللعبة اليوم ليصبح الخطر نابعا من الهيمنة الشيعية المتحالفة مع الجارة سوريا المدعومة من إيران مهد الشيعية السياسية. وحقق تحالف قيادة الطائفة المارونية والطائفة الشيعية القوية وصول الرئيس اللبناني ميشيل عون إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية. أين وكيف عبّر الشعب اللبناني عن رغبته في إلغاء المشاركة الطائفية؟

فعل الشعب اللبناني ذلك، عندما استعر الفساد وانتشرت السرقات وجاعت الأسر وعمّ الفقر، ولم يكن ذلك نتيجة للحكم القائم على مشاركة الطوائف رغم سلبياته ونواقصه، لكن بسبب انتهاك القوانين ونهب الأموال العامة.

لم يكن في تونس أو الجزائر أو ليبيا أو بلاد أخرى نظام قائم على تشارك الطوائف في حكم طائفي كما في لبنان، لكن الشعوب هناك ثارت من أجل الحكم الرشيد والعادل والتوصل إلى قيادة يختارها الشعب في انتخابات نزيهة.

لا تسقط الأنظمة القائمة على التقاسم الطائفي للسلطة بالمظاهرات البريئة والسلمية، ودون طليعة موحدة تضع الأولويات والخطوات اللازمة للتوصل إلى الهدف المنشود كما حصل في تجربتي السودان وتونس.

ليس المطلوب اليوم من الحراك اللبناني الذي أذهل العالم إسقاط الهيمنة الطائفية، التي هي سمة النظام السياسي اللبناني منذ عهود طويلة، لأنه ببساطة لا يستطيع ذلك. المطلوب اليوم لا يتجاوز ما اقترحه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والبطريرك الماروني.

سوف ينضم لهؤلاء العديد من ممثلي الأحزاب والسياسيين بعد تصريحات حسن نصرالله، زعيم حزب الله، الأخيرة، من اعتماد الإجراءات المقترحة لوقف الفساد واسترداد الأموال المنهوبة، والتعديل الحكومي ومن ثم إجراء انتخابات نيابية جديدة.

المهمة الحقيقية للحراك اللبناني، هي الاستعداد عن طريق تشكيل أحزاب وتجمعات سياسية شعبية واسعة للمشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة ببرامج سياسية تعتمد التغيير وتفرض مبدأ الصوت الواحد للمواطن الواحد على أساس المواطنة والانفتاح وليس الطائفية والانغلاق، وهناك وقت طويل للاستعداد لذلك.

يعيد القفز إلى الانتخابات البرلمانية اليوم وفق التقسيم الطائفي وقبل تحقيق الخطوات المقترحة، انتخاب نفس الوجوه التي تسيطر على البرلمان والحكومة، لأن المواطن اللبناني اعتاد أن ينتخب الأقرب وليس الأفضل، وبعضهم ضد الطائفية اليوم وقد يكونون جنودا لها غدا.

ليس من المتوقع أن يتم اتفاق حول الخروج من المأزق الحالي، إلا باتفاق قادة الأحزاب الطائفية الحاكمين اليوم، حيث لا تتواجد تجمعات سياسية وأحزاب تدعو إلى التغيير، سلميّا وبشكل منظم ومقنع.

إن القيادة العاقلة والمسؤولة هي الفارق بين الحراك السياسي الهادف وبين الفوضى، لأنه إذا كانت المواطنة والمساواة أساس الحكم سوف تَسقط مخاوف المواطن اللبناني ولجوؤه إلى أمان الطائفية والانغلاق.

كلمات دلالية

اخر الأخبار