خطة كيري ومبادرة بلير والتنمية المفقودة (1-2)

تابعنا على:   13:36 2013-10-31

د. مازن صلاح العجلة*

يبدو أن الفكر الصهيوني مولع بالترويج الاقتصادي للمشاريع السياسية، خاصة إذا كانت مرتبطة بفلسطين، فنحن الآن أمام خطة اقتصادية جاءت في سياق التشجيع للانخراط في المفاوضات مع إسرائيل، وقد يكون ذلك تماهيا مع أفكار نتنياهو حول السلام الاقتصادي. وللتذكير فقد تم الترويج لأوسلو اقتصاديا، حينئذ، لدرجة أنهم تحدثوا عن سنغافورة جديدة في قطاع غزة ! وقبل ذلك توقع شمعون بيرس في كتابه " الشرق الأوسط الجديد" الذي صدر بالتزامن مع مؤتمر مدريد، ولادة شرق أوسط جديد تسوده الرفاهية والازدهار! وبهذا المنطق الاقتصادي " النفعي" روجت الصهيونية في القرن التاسع عشر للاستيطان في فلسطين تحت شعار " تحويل الصحراء إلى مزارع غناء" الذي ارتكزت عليه الدعاية الصهيونية للتملك على أرضية الفعالية الاقتصادية المغلفة بالأحقية التاريخية المزعومة.
نعود لخطة كيري التي أطلقها في فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2013 الذي عقد في الأردن في مايو من هذا العام، وسلمها رسميا للسلطة في سبتمبر الماضي بعد بدء المفاوضات بأسابيع قليلة. وطلب كيري من موفد الرباعية طوني بلير بوضع خطة اقتصادية أطلق عليها بلير فيما بعد " المبادرة الاقتصادية لفلسطين". تندرج خطة كيري الاقتصادية، وفقا لتصريحاته، في إطار بناء الثقة من أجل تهيئة أجواء مواتية لبدء المفاوضات واستمرارها. وهي تأتي أيضا، بعد نجاح كيري في بدء المفاوضات مع عدم وقف الاستيطان تماهيا مع الشروط الإسرائيلية ورؤيتها الرافضة لإقامة دولة فلسطينية متصلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس، والاستمرار في السيطرة على منطقة الأغوار، وفزاعة الاعتراف بالدولة اليهودية. 
ولمن لم يطلع على فحوى هذه الخطة، فهي تتضمن ضخ أربعة مليارات دولار خلال ثلاث سنوات، عبارة عن استثمارات عبر القطاع الخاص، من شأنها – والكلام لكيري وبلير- أن تزيد الناتج المحلي الفلسطيني بنسبة 50% خلال المدة المذكورة، وتخفض البطالة بنسبة الثلثين، من 21% إلى 8%، وتزيد متوسط الرواتب بنسبة 40%، بالإضافة إلى السماح للسلطة باستخراج الفوسفات من البحر الميت، وتفعيل استخراج الغاز من الحقل الفلسطيني المكتشف في المياه الإقليمية الفلسطينية أمام شواطئ قطاع غزة، وهو ما كانت إسرائيل تمنعه طوال هذه السنوات. هذا إضافة إلى توسيع نطاق سيطرة السلطة في المنطقة "ج" وتطوير بنيتها التحتية، وما يرافق ذلك من إزالة بعض الحواجز العسكرية وتسهيل حركة التنقل. لاحظ قبل أن ندخل في تفاصيل التحليل والمناقشة أن كل بند في هذه الخطة مرتبط بموافقة إسرائيل وإشرافها!
* غموض السياسة والاقتصاد
لقد حاول كيري مرارا أن يبدد المخاوف الفلسطينية التي أبدتها السلطة وأصحاب الرأي والخبرة، حول التركيز على البعد الاقتصادي فقط، من خلال الخطة الاقتصادية، وإهمال البعد السياسي الذي يمثل المبدأ الأساس عند الفلسطينيين والذي من خلاله يأملون في التوصل إلى اتفاق يترتب عليه إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة. في هذا الإطار، وتبريرا للخطة الاقتصادية، أكد بلير(انظر مقاله عن المبادرة الاقتصادية على الموقع الالكتروني للرباعية) أن نجاح المفاوضات السياسية يجب إن يكون مدعوما بالنمو والتنمية. ولكنه شدد في الوقت ذاته على أولوية وأحقية المبادرة الاقتصادية "خطة كيري" على حساب المسار السياسي كشرط لنجاح الأخير. واستخدم بلير في استعراضه لخطة كيري وأهدافها، الكثير من المستدركات اللغوية مقتربا تارة ومبتعدا تارة أخرى عن ضرورة التوازي بين المسارين، وهو ما ترغب به السلطة الفلسطينية، فكان الالتباس والغموض سيد الموقف ومازال، خاصة أن إسرائيل أكدت أكثر من مرة أن الخطة الاقتصادية لن تكون مرتبطة بالتقدم السياسي بين الطرفين. وهذا يعزز الشكوك الفلسطينية حول هذه الخطة كبديل اقتصادي على حساب الحل السياسي.
*هل يمكن تنفيذ الخطة وتحقيق أهدافها الاقتصادية؟
لا شك أن ضخ أربعة مليارات دولار في اقتصاد صغير الحجم، لا يتجاوز ناتجة المحلي نهاية 2013 السبعة مليارات دولار، خلال ثلاث سنوات، سيشكل دعما قويا لنمو اقتصادي عالي المستوى من المتوقع أن يؤثر في مختلف المؤشرات الاقتصادية الكلية. بيد أن هذا القول يجلله قدر كبير من الشك والريبة في إمكانية نجاح خطة كيري الاقتصادية في تحقيق أهدافها، لعدة أسباب، لعل أهمها، أن الاقتصاد الفلسطيني يعاني من مشكلة رئيسية اقتصادية سياسية تتمثل في تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي في إطار السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية ومواردها ومقدراتها بل وقرراها الاقتصادي الذي كبله الاحتلال بشبكة من الإجراءات والقوانين المرتبطة باتفاق باريس. والسيد كيري والعراب بلير والمؤسسات الدولية جميعها تدرك هذه المشكلة جيدا، وبالتالي يدركون مدى تهافت الطرح الاقتصادي كمسار لترقيع الوهن الظاهر في المسار السياسي. لقد تلقى الاقتصاد الفلسطيني ما يناهز 21 مليار دولار منذ العام 1994 وحتى الآن. فما هي النتيجة؟ مزيدا من التبعية والإلحاق للاقتصاد الإسرائيلي، ومزيدا من تدهور كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية من فقر وبطالة وارتفاع حجم الدين العام إلى ما يزيد على أربعة مليار دولار، وانخفاض معدلات النمو، والاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية والإنفاق الحكومي كرافعة للنمو بدلا من القطاع الخاص الذي بات في حكم الغائب الحاضر فاقدا لدوره الهام في التنمية، بسبب الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية. بمعنىً آخر، إن مشكلة التمويل ليست لها الأولوية لتحقيق تنمية حقيقية في الحالة الفلسطينية.
والسبب الثاني، وهو مرتبط بالأول، فمحصلة عدة عقود من التبعية والسيطرة أفضت إلى اقتصاد ضعيف البنية يعاني من اختلال هيكلي حاد في سوق العمل وفجوة الموارد والقطاعات الإنتاجية والمالية والنقدية. فاقتصاد بهذا الوهن والجمود من الصعب أن يستجيب، من خلال بعض التمويل، لإحداث تغيرات تقود إلى تخفيض معدل البطالة 5% سنويا لتصل بعد ثلاث سنوات إلى 8% حسب خطة كيري. من جانب آخر كيف يمكن تصور أن مستوى الأجور سيرتفع بنسبة 40% خلال نفس الفترة؟ إن إمكانيات القطاع الخاص، وطبيعة هيكل الأسعار والطلب، وتوفر عناصر الإنتاج، ومدى المرونة، فنيا، كلها عوامل تؤكد صعوبة الوصول إلى هذا المستوى من الزيادة في معدل الأجور، ناهيك عن خطورة تحقيق ذلك بسبب الارتفاع الكبير المتوقع في معدلات التضخم المصاحب لذلك في مثل هذه الحالات. وتستهدف الخطة كذلك، زيادة الناتج المحلي بنسبة 50% خلال الثلاث سنوات من عمرها، أي بمعدل سنوي يصل إلى حوالي 17% سنويا. وهو معدل من الممكن تحققه، نظريا، وعلى صعيد الناتج المحلي الاسمي وبافتراض ضخ مليار دولار سنويا. لكن هذا المعدل لن يكون نابعا من قدرة حقيقية للاقتصاد في ظل ضعف القطاعات الإنتاجية. ومن المشكوك فيه، أيضا، أن يؤثر على تخفيض معدلات البطالة والفقر بشكل جذري وحسب المستوى المستهدف، فمثل معدلات النمو هذه، والناتجة عن حقن الاقتصاد بالمساعدات، لم تحقق مسبقا تغيرا هيكليا، وهي لا تستطيع ذلك الآن، فالجسد المثقل بعلل خطيرة من الصعب أن يتعافى بعيدا عن معالجة العلة الأساسية التي تعصف به، السيطرة والتبعية.
في الجزء الثاني من المقال سنناقش الأسباب الأخرى بما فيها مدى جاهزية المحتل الإسرائيلي للاستجابة لخطة كيري.

*باحث ومحاضر في الاقتصاد - فلسطين

اخر الأخبار