الجزائر و تونس والسودان تجارب مختلفة

تابعنا على:   10:34 2019-09-16

صالح عوض

السباق الانتخابي في تونس و الاستعراض في الدفع بالمنافسة الى سطح الإعلام في مشهد غير مسبوق في الدول العربية لا يعني انه نموذج قابل للتكرار فهو طبعة تونسية خاصة مرتبطة بحجم تونس ودورها المقبول وموقعها الجيوسياسي في المنطقة العربية..صحيح ان الربيع العربي انطلق من تونس واجتاحت رياحه العديد من الدول العربية، الا انه سقط فيها بعد ان أصابه الإخفاق في مصر والتمزق في ليبيا والموت في سورية والاغتيال في اليمن.. و في تونس ظل يواجه الأعاصير حتى الآن فهل هناك عوامل أخرى حمته من السقوط؟ وفي السودان رغم تأخره كثيرا زحف الربيع نحو النظام الا انه تمخض عن نمط مختلف عما آل إليه في البلدان العربية الأخرى و قدم نموذجا مختلفا عن مخرجات الربيع في الدول الأخرى حيث حقق النظام تحالفا مع الربيع تحت وطأة ميزان القوى الداخلي ومراعاة الضغوط الخارجية وتم التوصل الى اتفاقية لتسيير الأمور الى حين عقد انتخابات تشريعية ورئاسية واستطاع الالتفاف على هيجان الرييع العربي ان ينقذ البلد من ما رسم لها في مزيد من التقسيم.. وهذه تجربة خاصة غير قابلة للتكرار أيضا.
المختبر التونسي:
نجح المختبر التونسي في صياغة ربيع عربي حافظ عليه التوانسة رغم ان فشلا ذريعا رافقه في سنواته الثمانية السابقة على صعيد بناء الجمهورية الثانية ومؤسساتها وتركيز الاهتمام على الاقتصاد والتنمية والمجلات الحيوية الأخرى السيادية والأمنية.. فرغم انه لم يحدث انتكاسة في مسيرة الربيع العربي في تونس إلا ان حالة من الفوضى وانفلات الأمن وتدهور الاقتصاد و معدل الفقر كانت هي السمة الأكثر بروزا بجانب تحول تونس الى مزود كبير لحالة الإرهاب في المشرق العربي بضخها عشرات الآلاف من المقاتلين المتشددين في ساحات المواجهة لاسيما في سورية الأمر الذي يعني مباشرة اليأس من إمكانية إحداث تطورات جوهرية على صعيد حياة الناس.
وواجهت تونس في ظل الربيع العربي اختراقات كبيرة لاقتصادها وسيادتها وأصبح الحديث طبيعيا ومتكررا عن صندوق النقد الدولي واشتراطاته والتقرب من الكيان الصهيوني والمؤسسات الصهيونية في الولايات المتحدة و تحول الساحة التونسية الى أنشطة أمنية مشتركة مع أجهزة أمنية معادية للأمة.. ولم يجد ثوار الربيع العربي في تونس سبيلا سوى اللجوء لوجوه النظام البورقيبي باستعارة احد رموزه ليقود تونس الأمر الذي يعني فشل الثوار والحركات المعارضة عن تقديم بديل حقيقي برؤية اقتصادية وثقافية وسياسية..
المختبر التونسي يتحرك في دائرة المسموح به في تدوير الأزمة واجتراح أفكار لإشغال الناس في حمى التنافس السياسي ليصبح إظهار المتنافسين على الحكم على مسرح الاستعراض انجازا في حد ذاته.. وبالنظر الى المرشحين البارزين لا يفوتنا رؤية العامل المشترك بينهم جميعا أنهم يتصارعون إيديولوجيا ولم يرتقوا الى مستوى أزمات الدولة وحل مشكلاتها التي تضرب المجتمع التونسي بعمق.. وفي الدوائر الاستعمارية يرون كل ما يتم انما هو في دائرة المسموح به حيث تتجنب كثير من الأحزاب الفاعلة ساحات المواجهة مع الغرب المتمثلة في الكيان الصهيوني وأوضاع حقوق المرأة على الطريقة الغربية وحقوق المثليين والارتهان الى اشتراطات الصندوق الدولي والتنسيق الأمني واللوجستي مع المخطط الأمني الغربي الأمريكي..ثم ان ضخ الحياة من جديد في التجربة التونسية وقد عزلت عن حركة الربيع العربي لا يعني أكثر من تضخيمها وإغراقها في اشتراطات الحكم وشهادة حسن السلوك القادمة من الدوائر الاستعمارية.. وهنا لابد من النظر الى محدودية تأثير الدور التونسي على الإقليم.. فليس في تونس الآن إشعاعات ثقافية او اقتصادية وليس لها كتلة سكانية او تجربة ثورية كما يتمتع جوارها.
التوافق السوداني:
تجربة مختلفة عاشها السودان خلال الأشهر الفائتة.. ولا يمكن عزل هذا الحراك السوداني عن السياق المحموم لموجات من العمل المنظم لتقسيم السودان على عدة دول فبعد حروب دامية أشرفت عليها الدوائر الاستعمارية اشتد وطيسها بعد ان وصل الإسلاميون الى الحكم بعد ثورة الإنقاذ.. وبدعم من دول الجوار فتحت الجبهات على السودان من حدود تسع دول جعلت مقرا لتحشيد قوى المعارضة وتدريبها وتسليحها وكان الكيان الصهيوني صاحب السبق في تكوين جيش جنوب السودان لتبلغ المؤامرة ذروتها في إحداث أول سابقة في الوطن العربي بخضوع الحكومة السودانية للتنازل عن جنوب السودان الغني بالثروات.
في السودان لعب الجيش دوما دورا حاسما في تغيير مسارات الحكم ورغم ان السودانيين يتمتعون بنخبة متعلمة في مستويات عليا سبق لها ان أسهمت في تطوير دول الخليج على مستوى الدساتير والقوانين الا ان السودان ظل باستمرار رهين الإرادة العسكرية وقد جربت كل القوى الإيديولوجية في السودان انقلابات عسكرية وكلما يثور الشعب ياتي الجيش يحمي الشعب وشيئا فشيئا يستعيد الحكم في البلاد..
السودان بلد خطير في موقعه الجيوسياسي فهو حلقة وصل الوطن العربي بإفريقيا في القرن الإفريقي وهو بلد يعتبر سلة العرب الغذائية وفيه من الثروات الحيوانية والمعدنية والنفطية ما يؤهله للعب دور كبير في حماية ظهر العرب من جهة إفريقيا وليصبح عمقا استراتيجيا لشمال افريقيا العربي..
فكان الحراك الذي كاد يودي بالبلاد.. وبلاشك هناك من أخطاء التسيير على الصعيد الاقتصادي في ظل الحصار والعقوبات الأمريكية ما جعل تنامي المعارضة أمرا منطقيا كان يمكن استيعابه بإجراءات سريعة في شتى المجالات الا ان تداعي الصدام أسرع ليجعل الجميع على حافة الهاوية فكان التوافق العسكري مع مجموعة من المعارضة السودانية لتأسيس حكومة وخوض مرحلة انتقالية يكون الجيش فيها القوة الحافظة والمؤمنة للمسيرة.. بلاشك كان مهما جدا عدم فلتان الأمور والانزلاق نحو تلك النهايات المفجعة كما في العراق وسورية وليبيا.
المختبر التونسي والتوافق السوداني خاصان:
إنهما نموذجان خاصان يحفظان ولا يقاس عليهما.. فلا يظن أحد ان أيا منهما قابل للتكرار في الجزائر او مصر او سواهما.. فالجزائر ليست تونس وليست السودان.. والنموذج الجزائري خاص تماما وله سمات خاصة ذات علاقة بالموقع والدور والتجربة التاريخية والمسئولية الجغرافية.. ففي الجزائر لا يمكن العبث واللهو بثوابت الأمة العقائدية والسياسية فهنا في الجزائر سيظل الإسلام هوية ودين وشرائع مقدسا لا يمس بسوء وهنا في الجزائر لا اعتقالات سياسية ولا حرمان من التعبير عن الرأي وهنا في الجزائر تظل فلسطين والحفاظ على السيادة الوطنية والخط السياسي المستقل ثوابت مقدسة.. كما ان صياغة المجتمع الجزائري بعد الثورة وتجاربه العديدة لها خصائص متميزة عن سواها في المجتمعات العربية الأخرى.. فللشعب هنا حضوره المتميز الجاد كما ان هناك إمساك بعدة اوراق في ان واحد تجعل من التجربة الجزائرية حالة خاصة فالجزائر لن تكون رهينة الصندوق الدولي ولن تبيع من مبادئها لأجل رضي الدوائر الاستعمارية التي خبرت قوة الجزائر وعنادها.
بلاشك الأمة كلها تنتظر نتائج التفاعل الجزائري الذي يؤسس لطريق تصحيح المسيرة و الاستفادة من الثروات ومن التجربة التاريخية ومما تؤهله الجغرافية لدور خاص.. كما ان التحديات التي تحيط بالحراك الجزائري سينخفض منسوبها بمقدار تقدم الجزائريين بعزيمة مشهودة لهم للخروج من المراوحة التي يحاولها البعض اليائس نحو تكريس واقع جديد يفتح للبلد أبواب الأمل في بناء مؤسسات تشريعية وتنفيذية ومؤسسات اقتصادية وانتاجية تكرس الشفافية والمصلحة العامة وتطوير الإمكانات بحجم عظمة ثورة الجزائر وقدراتها وسيكون حينها الاثر المباشر على الكل المغاربي لاسيما تونس وليبيا والجوار الإفريقي.. كما ستتقدم الجزائر على المسرح الإقليمي والعربي والإسلامي والدولي بما يتناسب مع رسالتها ودورها التاريخي.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون

كلمات دلالية

اخر الأخبار