غربوفوبيا وإسلاموفوبيا

تابعنا على:   08:49 2019-08-27

نبيل فهمي.. وزير الخارجية المصري السابق

خرجت أغلب الدول العربية من وطأة الاحتلال الأجنبي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، أغلبها من دول استعمارية أوروبية غربية، وتأثرت دولنا العربية سياسياً وثقافياً ومؤسسياً بدرجات وأشكال مختلفة حسب ظروفها، ومنهجية عمل المستعمر.

وطغت اللغة الفرنسية على اللغة العربية لدى أجيال من المواطنين العرب في شمال أفريقيا، وأصبحت الدول الناطقة باللغة الفرنسية في أوروبا الملتقى الأكثر جاذبية للدارسين العرب من المغرب العربي، أو للباحثين عن  أوضاع اقتصادية أكثر طموحاً وسيولة، على الرغم من أن الكثيرين من الدارسين والمثقفين لعبوا أدوارا بطولية في مكافحة الاستعمار الأوروبي.

وأثر الاستعمار البريطاني كثيراً على هيكل ومؤسسات الدولة المصرية، مع مزيج من الثقافة الفرنسية على المنظومة القانونية والتشريعية، رغم أن الريادة السياسية المصرية المثقفة صاحبة مرجعية قانونية عميقة كانت اللبنة الأساسية لثورة 1919 والدعوة إلى استقلال البلاد من الإنجليز.

وشهد تاريخ المشرق مزيجا من الاستعمار الأوروبي، فتركت فرنسا آثارها على الشام، في حين كانت آثار بريطانيا أكثر وضوحاً بالأردن والعراق، وامتداداً منها إلى دول الخليج العربي، قبل أن تناضل تلك الشعوب من أجل الاستقلال من الاستعمار الغربي.

وكان لكل ذلك انعكاسات مختلفة على الشعوب العربية، فمن جانب مالت الفئة المقتدرة إلى الاستفادة من ثقافة المستعمر ونظام تعليمه على وجه الخصوص، وفي نفس الوقت كانت نفس هذه الفئة في أغلب الأحيان الطرف الفاعل في تحفيز المجتمعات ضد المستعمر والمطالبة بالاستقلال والتمسك بالهوية الوطنية.

وأعقب ذلك مشهد الاستعمار الحديث وغير المباشر "neocolonialism"، والذي تزعمته الولايات المتحدة، ليس من خلال فرض وصاية رسمية على الدول، وإنما بالتأثير عليها بقوة الرسالة الأميركية وجاذبية الحلم الأميركي وإمكانياتها وثروتها، وبتحفيز الشعوب على تبني الممارسات الأميركية الخاصة بالرأسمالية واقتصاد السوق والليبرالية السياسية، وهو فلسفة جاذبة في المقام الأول، قبل أن يكون فارضا لقوته كما شهدنا في الماضي من الاستعمار الأوروبي المباشر.

وقد امتد هذا الاستعمار الفكري والاقتصادي الناعم بعيداً، ولم يقتصر على الدول العربية أو النامية، حتى أن وزير الثقافة الفرنسي السابق، جاك لانج، اشتكى من الرسالة الأميركية مستنكرا تفوق "ثقافة مطاعم الهامبرغر" على الثقافة الفرنسية، رغم أنه كان من أكثر المتحمسين للتمسك باللغة الفرنسية والعمل على انتشارها.

وينطبق نفس الشيء على دول كبرى مثل روسيا، بإعلان الرئيس بوتين انقضاء الليبرالية، والصين بإعلان رئيسها استعداده قيادة منظومة الإصلاح الاقتصادي العالمي، مع تنامي تطلع شعوبها للعوائد المادية الشخصية، واقتناء السلع على النمط الغربي الاستهلاكي، وبخاصة الأميركي، فضلا عن أننا نشهد أعدادا وفيرة من المواطنين في دول العالم يصطفون أمام القنصليات الأميركية والغربية للحصول على تأشيرات دخول إلى الغرب.

ويبدو هذا متناقضاً من قبل شعوب العالم غير المنتمية للعالم الغربي في رفضها وتطلعها للغرب في آن واحد، وإنما الأمانة تقتضي المصارحة بأن الامتعاض العام والتلقائي من المواقف الغربية مرجعه أساساً رفض نظرة التعالي للمستعمر القديم، الذي كان ولا يزال يعتبر أن حضارته الأنغلوساكسونية أرقى من الحضارات الأخرى شرقاً وجنوباً، وكان يدفع في الماضي بأن الاستعمار مفيد للشعوب النامية بخاصة في مجال التعليم والثقافة والتنمية، والآن تنطلق الولايات المتحدة من قناعة راسخة بخصوصية وتميز أوضاعها على بقية العالم "American Exceptionalism"، وهو ما يستثير المجتمع الدولي غير الغربي، النامي والصناعي، ويشكك تلقائياً في كل ما هو غربي بما يسمى "غربوفوبيا".

وأناشد الولايات المتحدة والدول الغربية مراجعة رؤيتها المتعالية تجاه بقية العالم حتى قبل تعديل سياساتها، وأدعو الدول العربية إلى بناء القدرات الذاتية بما يمكنها من تقييم الاستفادة من تجارب الآخرين، بما يتفق مع أهدافها ومصالحها، بدلاً من الرفض التلقائي غير المفيد أو المنطقي لكل ما هو غربي أو من خارج مجتمعاتهم.

وهناك ظاهرة أخرى مماثلة، تمارس من قبل الغرب والدول الصناعية، وتستهدف الدول الإسلامية والعربية، وهي الإسلاموفوبيا، حيث يغفل أو لا يعلم المجتمع الغربي والصناعي المعاصر أن كثيرا من إنجازاته في العلوم والرياضة والطب والأدب استندت إلى حد كبير إلى إسهامات لمواطنين ومفكرين وعلماء وأطباء من المجتمعات الإسلامية، بنت عليها وطورتها الدول الصناعية الحديثة، وانتقلت بها إلى مرتبات أعلى وأكثر تطورا.

ونجد العالم الغربي والصناعي ينظر بقلق عميق وريبة لكل ما هو إسلامي العقيدة والفكر، بل حتى الملبس، والتعامل معه في حالات كثيرة بعنصرية، رغم تفاخر الغرب والدول الصناعية بحقوق الإنسان والمساواة والعدالة والديمقراطية، وقد شهدنا تصاعدا في الممارسات بعد تنامي نشاط جماعات الفكر المتطرف من الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، والتي أول الأمر كانت بالعنف والإرهاب ومحاولة فرض آرائها بالخوف والترهيب، أول الأمر في العالم الإسلامي والعربي، ثم امتد نشاطها مع عصر العولمة إلى دول أخرى وساحات أوسع عبر العالم.

في نفس الوقت لا يتردد العالم الغربي والصناعي المتقدم في السعي الدؤوب للاستفادة من الخيرات الطبيعية لعالمنا الإسلامي والعربي، والثراء ورأس المال المتوفر لديهما، أو العمل على الاستفادة من أسواقنا لبيع سلعها ومنتجاتها، وهم على دراية كاملة بحجم الطاقات الإسلامية والعربية، وما قد يعود عليهم من فوائد ومزايا، وعليه فهم أيضاً يمارسون سياسات متناقضة من حيث التردد والقلق التلقائي في ممارسة الإسلاموفوبيا، مع مواصلة الاستفادة مما قد توفره لهم المجتمعات الإسلامية من فرص وفوائد.

ودون الوقوع في خطأ الدفاع عن هذه الممارسات الغربية أو تبريرها، فتقتضي الأمانة الاعتراف أيضاً بأن الإرهاب واللجوء إلى العنف أضرّ بالعالم الإسلامي وأثار مخاوف بداخله أكثر من أضراره وتأثيره على العالم غير الإسلامي، وليس هناك مبالغة في القول إن الضحايا إنسانيا وماديا في المجتمعات المسلمة أكثر بكثير مما تكبدته المجتمعات غير الإسلامية، وذلك من ممارسات تتناقض وتتعارض مع أصول الدين وسماحته ومفاهيمه الحقيقية، والسبب الرئيس في ذلك تجنب أو تأخر مجتمعاتنا الإسلامية في التصدي للفكر الرجعي ولجماعات التطرف مع بداية ظهورها والتردد في الدفع بالاجتهاد الديني نحو التحضر، مما يتناقض مع ما ندفع ونتمسك به بأن ديننا الحنيف شامل وكامل لكل العصور.

من هذا المنطلق أدعو عالمنا الإسلامي إلى رفع صوته بقوة ضد التوجهات الإرهابية والتصادمية، أياً كان الغلاف الإسلامي الديني التي توضع فيه، وأدعو عالمنا الإسلامي إلى التمسك بتفكير حضاري انفتاحي على الغير، دون التنازل أو التناقض مع أصول ديننا الإسلامي والتي تشكل عناصر دعائم أقوى وأشمل من تفسيرات واهية فارغة جزئية وفرعية برفض كل ما هو جديد وغريب.

وفي هذا السياق أيضا، أدعو العالم الغربي والصناعي إلى إعادة التفكير في أسلوب تعامله مع المجتمعات الإسلامية، ورفض العنصرية، لنخدم بعضنا البعض في عصر العولمة، الذي أسقط الحواجز والأسوار بين المجتمعات، مما يجعلنا أكثر قدرة على التعاون سوياً على التصدي للمتطرفين والخوارج، كانوا في مجتمعناتنا الإسلامية أو من مجتمعات مختلفة.

بلا غربوفوبيا ولا إسلاموفوبيا، وعودة للتنوير والتآخي.

كلمات دلالية

اخر الأخبار