الْإِنْسَانُ عَقْلٌ مَفْتُوحٌ وَخَيَالٌ مُجَنَّحْ

تابعنا على:   23:24 2019-08-24

عبد الرحمن بسيسو

ثَمَّةَ، دَائِمَاً وَأَبَدَاً، أُنَاسٌ غَيَرُ إنْسَانِيينَ مِنْ النَّاسِ اكْتَفَوا، أو أُرْغِمُوا عَلَى أَنْ يَكْتَفُوا، بِكَونِهِمْ مَحْضَ كَائِناتٍ بَشَريَّةٍ لا تَرْقَى لِمَرْتَبَةِ الإِنْسَانِ، فَتَوَقَّفُوا، أو هُمْ أُرغِمُوا عَلَى أَنْ يَتَوَقَّفُوا، عَنْ إعْمَالِ العَقْلِ فِي تَضَافُرٍ صَمِيمِيٍّ مَعْ إِطْلَاقِ مَلَكَاتِ الخَيَالِ الإبْدَاعيِّ الخَلَّاقِ! وهَؤُلاءُ هُمْ كَثْرَةٌ تَتَكَاثُرُ  فِي عَالمَمِنَا الرَّاهِنِ عَلَى نَحْوٍّ غَيْرِ مَسْبُوقٍ، وِهِيَ كَثْرَةٌ لَمْ تَكُفَّ عَنِ التَّكَاثُرِ الأَرْنَبيِّ، فِي بِلَادِ العَرَبِ، مُنُذُ مَا يَربُو عَلَى أَلْفِيَّةٍ كَامِلَةٍ وَعِدَّة قُرُونٍ مِنَ التَّكَلُّسِ الْحَجَريِّ، والاسْتِرْخَاءِ الْقَدَريِّ الْعَاجَزِ عَلَى حَوائِطِ الزَّمَنِ الأُفُقِيِّ الرَّخُوِ!”

الْأَزْمَةُ الَّتِي تُمْسِكُ بِخِنَاقِنَا مُنِذِرَةً بِهَلَاكِنَا، بَشَرَاً وَحَضَارَاتٍ، هِيَ فِي التَّحِلِيلِ الأَخْير، أَزْمَةُ عَقْلٍ وَخَيَالٍ عُطِّلَا عَنِ الْعَمَلِ عَن قَصْدٍ، أَوْ كُبِّلَا بأَغْلَالٍ، أَوْ تمَّتْ إِقَالَتُهما كَيْ لَا يّذْهّبَا بَعِيدَاً فِي ثَرَاءِ عَطَائِهِما، أَوْ أنَّهُمَا قَدْ هُجِرَا فَتَكَلَّسَا وَتَحَجَّرَا، فَصَلُبَا أَوْ تَصَلَّبَا، فَفَقَدَا، فِي كُلِّ حالٍّ، القُدْرةَ عَلَى الاشْتِغَالِ الْفِعْلِيِّ فَانْعَدَمَتْ فَاعِلِيَّتَيْهِما، وَغَابَتْ فُرَصُ تَأْثِيرِهِما فِي تَجْدِيدِ الْحَيَاة، وَإثْرَاء الحَضَارةِ الإِنْسَانِيَّةِ، بِمَا يَسْتَجِيبُ لِحَيَويَّةِ الصَّيرورةِ، وأَشْوَاقِ الْوُجُودِ، وتَوَقِ الإنْسَانِ الْحَقِّ إلى إِبْدَاعِ حَيَاةٍ هِيَ الْحَياةِ الَّتي تُبْدَعُ وَتُعَاشُ وَتَبْقَى مَفْتُوحَةً عَلَى مُسْتَقْبَلٍ يَفتُحُ الُوجُودَ عَلَى أَسْمَى تَجْلِّيَاتِهِ وَأَعْلَاهَا!

ولَمٍ يَكُنْ لِذَلكَ كُلِّه، ولِغَيرهِ مِمَّا قَدْ يَنْبَثقُ عَنْهُ لِيَرتَدَّ إِلَيهِ مُتَقَاسِمَاً مَعَهُ الدَّوَافِعَ والمُسَبِّبَاتِ والذَّرَائعَ، أَنْ يُفْضِيَ إِلَى شَيءٍ سِوَى إِعْدَامِ مُحَفِّزَاتِ حَيَوِيَّةِ العَقْلِ وفاعِليَّتهِ وَاجِبَةِ الْوُجُودِ لِفَهْمِ مَغْزْى الْحَيَاةِ المَحْكْوَمةِ بِصَيْرورةٍ مُتَجَدِّدةٍ تَقَعُ بَينَ مِيْلادٍ وَمَوتٍ، ولإدْراكِ مَقْاصِدِ الُوُجُودِ الإنْسَانيٍّ الْعَاقِلِ فِي شَتَّى مَدَاراتِ الْوجُودِ، ولالْتِقَاطِ الإشَارَاتِ المُنْبِئَةِ بِتَعَرُّف كُنْهِ الْكَوْنِ، وذَلِكَ عَبْرَ مُتابَعةِ اسْتِيعَابِ، وفَهْمِ، مَا تبثُّهُ المُدْركاتُ الْعَقْلِيَّةُ المُؤَصَّلةُ، ومُعْطَياتُ الخَيَالِ الإنْسَانيِّ الطَّليقِ الخَلَّاقِ، مِنْ حَقَائِقَ خَالِصَةٍ، وتَبَصُّراتٍ، وَرُؤَىً، عَمِيقَةِ الْأَغْوارِ، وَاسِعَةِ الدَّلالاتِ، وذّاتِ إسْهَامٍ تَأْسِيسِيٍّ فِي بِنَاءِ بُيًوتِ الحَيَاةِ، وإعْمَارِ الْوُجُودِ، وَفي تَهْيِئَةِ أَحيَاز الأَرْضِ لَعَيْشٍ إنْسَانيٍّ مُشْتَرَكٍ، حُرٍّ وكَريمٍ، ومُنْفَتِحٍ، بِلا انْقِطَاعِ، عَلَى تَفَاعُلٍ إنْسَانيٍّ مُتَنَوِّعِ الحُقُولِ والْمَجَالاتِ، وَفِي مُبْتَدَئِهِ وصُلْبِهِ، التَّفاعُلُ الثَّقَافِيّ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْو شَامِلٍ ومُتكَامِلٍ وَمُتَّسِقٍ، يُعْلِي مِنْ شَأْنِ الُحَيَاةِ، ويُعْلُو بِقِيمةِ الإنْسَانِ، فَيَعْمُرُ الْوُجُودَ وَيُجَلِّي مَغْزَاهُ، ويَقُولُ دلالةَ أَنَّ الْجَنَّةَ المُمْكِنَةَ تَشْرعُ فِي الوُجُودِ في أيٍّ مِنْ أحْيازِ الأَرْضِ حيِنَ يَشْرَعُ الْإِنْسَانُ فِي إِعْمَالِ العَقْلِ وإِطْلَاقِ أَجْنِحَةِ الْخَيَالِ الْخَلَّاقِ، لِيَنْخَرطَ، في ضَوءِ تَواشُجِ عَطَاءِ أَنْوَارِهِمَا، فِي الْفِعْلِ الإنْسَانِيٍّ الْإِبْدَاعِيِّ الْفَرْديِّ والْجَمْعِيِّ، مُنْهِضِ الحَيَاةَ، ومَانِحِ الوُجُودِ الحقِّ لِلْإنْسَانِ الْحَقِّ: كَيْنُونَةً فَرْدِيَّةً وجَمَاعِيَّةً؛ أَفْراداً وشُعُوباً، وأُمَمَاً، وَكَيَانَاتٍ، وأُسْرَةً إنْسَانِيَّةً مُتَفَاعِلَةً، مُتَضَافرةً، مُتَكامِلَةً وَمُلْتَحِمَةَ الْوُجُودِ في وحْدَةِ حَضَارةٍ تَتأَسَّسُ لُحْمَتُها على الانْفِتَاحِ الإنْسَانِيٍّ الثَّرِيِّ، وَالتَّنَوِّعِ الثَّقَافيٍّ الْخَلَّاقْ.

وِفي وَاقِعِ حَالِ الْوَاقعِ القَائِمِ الْآنَ فِي بِلَادِ الْعَربِ، والَّذِي نَحْنُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَقْدِيمِ الْمَزِيد مِنَ الْبَرَاهِينِ الْحَضَارِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّة الَّتِي تُرَسِّخُ إِدْرَاكَنَا حَقِيقَةَ قَتَامَتِهِ، وَلَا إِنْسَانِيَّتِهِ، المَقْرُونَةَ بِحَقِيقَةِ أَنَّ أَيَّ تَجْدِيدٍ ثَقَاَفيٍّ يَتَوخَّى إِطْلاقَ نَهْضَةٍ حَضَاريِّةٍ شَامِلَةٍ ومُتَكَامِلَةٍ تَسْتَهْدِفُ تَغْيِيرَ هّذا الواقعِ اللَّاإنْسَانيِّ عَبْرَ السَّعْيِّ اللَّاهِب لإدْرَاكَ نَقِيضِهِ الْإِنْسَانيِّ، لَا يَبْدَأُ إِلَّا بِإِعَادَةِ النَّظَرِ فِي مَنْظُومَاتِ الْمَبَادِئِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَفَاهِيمِ والتَّصَوُّرَاتِ الْقَدِيْمَةِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُتَرَاكِمَةِ، وَنَقْدِهَا نَقْدَاً جَذْريَّاً رَصِيْنَاً؛ أَيْ أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ، ولَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ ذَا غَايَةٍ نَهْضَوِيَّةٍ مُمْكِنَةِ التَّحَقُّقِ وَذاتِ مَغْزىً، إِلَّا بِإِعَادَةِ النَّظَرِ فِي الثًّرَاثِ الثَّقَافِيِّ بِأَكْمَلِهِ، وَفِي جَمِيْع مُكَوِّنَاتِ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ، وَذَلِكَ بِإِعْمَالِ مَبَادِئِ الْعَقْلِ الْفِطْرِيَّةِ الجَوْهَرِيَّةِ وِفْقَ رُؤْيَةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ تَكَامُلِيَّةٍ، شَامِلَةٍ وعَمِيقَةٍ، وذاتِ مَنْهَجٍ تَحْلِيلِيٍّ عَقْلِيٍّ رَصِينٍ يُمَكِّنُ مِنْ إدْرَاكِ الْوَاقِع الْقَائِمِ مِنْ جِهَةٍ أُولى، وَمِنْ مُقَارَنَتِه بِالْوَاقِعِ المُمْكِنِ، المُتَطَلَّعِ إِلَيْهِ، مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَة.

وَبالطَّبْعِ، سَيكونُ لمنهج التَّحْليل العَقْليِّ الرَّصينِ مَقْرونَاً بالنَّقْدِ الجَذْريِّ ومَلامِحِ الرُّؤيَّة المُسْتَقْبَلِيَّة المُنِيْرَةِ، والقَابِلَةِ، فِي هَذَا السِّيَاق، لِلتَّطْوير وإِكْمَالِ الْبَلْوَرة والصَّوغِ، أَنْ يُتيحَ أوْسَعَ الإمكانِيَّاتِ وأعْمَقَهَا لِتَعرُّفِ الدَّور المُتَنَاقِضِ الَّذِي يُحْتَمَلُ لِهَذَا التُّراثِ الثَّقَافِيّ أَنْ يَلْعَبَهُ: كَبْحَاً لِلِانْتَقَالِ النَّهْضَوِيِّ وَتَكْرِيْسَاً لِلْجُمُودِ وَالثَّبَاتِ والرِّضَا الإِذْعَانِيّ بِالْحَالِ القَائمِ، أَوْ تَحْفِيزاً لِهّذَا لانْتِقَالِ، وَتَعْزِيزاً لِلْحَيَوِيَّةِ والتَّحَوُّلِ عَبْرَ مُوَاصَلَةِ الانْخِرَاطِ فِي صَيْرُورَةٍ نَهْضَوِيَّةٍ مُسْتَدَامَةٍ تُجَدِّدُ الثَّقَافَةَ، وتُنْهِضُ الوَعْيَ الْإِنْسَانيَّ الحَقِيقِيَّ المُؤصَّلَ عَقليَّاً وحَضَارِيَّاً، وَتَسْتَجِيبُ لِحَاجَاتِ النَّاسِ، ولِمُقْتَضَيَاتِ الْحَيَاةِ وَمُتَطَلَّباتِهَا المُتَجَدِّدَة، وَتُوَاكِبُ تَنَامي حِرْصِ النَّاسِ عَلَى الذَّهَابِ الدَّائِمِ صَوْبَ مُسْتَقْبَلٍ أَفْضَلَ وَأَجْمَلَ وأنْبَلَ؛ مُسْتَقْبَلٍ يُشْبِعُون فِي رِحَابِهِ حَاجَاتِهِمْ، ويُلَاقُونَ تَطَلُّعَاتِهِمْ وَأَشْوَاقَهُمْ وآمَالَهُم، تِلْكَ الْمَحْمُولَةَ عَلَى سَعْيٍّ لَاهِبٍ لإِثْراءِ الْحَيَاةِ وإِعْمَارِ الْوُجُودِ عَبرَ تَوسِيع مَدَارَاتِ الكَرَامَة والْحُرِّيَّةِ والسَّعَادةِ الْإِنْسَانِيَّة، وتَعْمِيقِ حُضُورٍ تَجَلِّيَاتِهَا المُتَنَوعِّة فِي أَحْيَازِ الحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ومَجَالَاتِهَا الْحَيَوِيَّةِ، وفِي فَضَاءاتِ الْوُجُودِ وآفَاقِهِ المُفْعَمَةِ بِوجُودِ حَيَاةٍ هيَ الْحَيَاة!

ثَمَّةَ، إِذَنْ، عَلَاقَةٌ تَرَابُطِيَّةٌ وَثِيقَةٌ لَا يُمْكِنُ فَصْمُهَا، أَبَدَاً، بَيْنَ مَبَادِئِ الْعَقْلِ الْجَوْهَرِيَّةِ وَقَانُونِ السَّبَبِيَّة الْجَوْهَرِيِّ أَيْضَاً. وَلَئنْ كَانَ لِلْأَخْيِلَةِ الْمَوهُومَةِ، غَيْرِ الإبْدَاعِيَّة، وَالْأَفْكَارِ الضَّارِبَةِ فِي مَتَاهَاتِ الْغَيْبِ المُغْرِقِ فِي حُلْكَتِه، وَالْعَقَائِدِ وَالْآيدْيُولُوجِيَّاتِ الْمُؤسَّسَةِ عَلّيْهِمَا، وعَلَى السِّحْرِ، وَالْخُرَافَةِ، وَالْكَهَانَةِ، والشَّعْوَذَةِ، واللَّاهُوتِ الارْتِزَاقيِّ الأَعْمَى، أَنْ تَسْتَبْعِدَ الْعَقْلَ اسْتِبْعَادَاً حَاسِمَاً ونِهَائيَّاً، فَتُلْغِي وُجُودَه فِي أَيِّ حَيِّزٍ يَكُونُ لَهَا أَنْ تُوْجَدَ فِيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ جَمِيْعَاً لَا تَتَوافرَ عَلَى إمكانيَّة النَّجّاحِ فِي إلْغَاءِ عَلَاقَةِ الْعَقْلِ، إنْ أَرَادَ إِنْسَانٍ عَاقِلٌ أَنْ يُدْركَ حُضُورَهُ فِيه ويُعْمِلَهُ، بِقَانُونِ السَّبَبِيَّة المَوْسُومِ بِرُسُوخ العَلَاقَة بَيْنَ الْعِلَلِ ومَعْلُولَاتِهَا؛ ومَا ذَلِكَ إِلَّا لِأنَّ تِلْكَ العَقَائِدَ الغيبِيَّةَ والْآيدْيُولُوجِيَّاتِ المُصْطَنعةَ، المُزَيِّفَةَ الْوَعْيَ الْإنْسَانِيَّ، تَظَلُّ عَاجِزةً، أَصْلَاً، عَنْ إِلْغَاءِ أَيٍّ مِنْ طَرفَي العَلَاقَةِ؛ أَيْ قَانُونَ السَّبَبِيَّةَ الَّذي بَاتَ رَاسِخَاً، إِلَى حَدِّ الْبَدَهِيَّة، فِي الْوَعيِّ الإنْسَانيِّ الْحَقِّ، وَالْعَقْلَ الَّذِي يَتَوَافَرُ عَلَيْهِ كُلُّ إِنْسَانٍ، والَّذي يُؤٍّسِّسُ إِعْمَالُهُ الأَصْلَ الجَوْهَريَّ الأَوَّلَ مِنْ أُصُولِ تَحْقِيقِ كَيْنُونَة الإنْسَانِ كّذاتٍ وُجُودِيَّة عبْرَ إدْراكِه مُكَوِّنَاتِ هُوِيَّتِهِ كَإِنْسَانٍ إِنْسَانٍ، واستمرارِهِ في تنزيلِ هَذِهِ المُكوِّناتِ حَقَائِقَ تَتَعيَّنُ فِي الْوَاقِع المَوْضُوعيِّ الْفِعْلِيِّ لُتُجَلِّي وُجُودهُ فيه. إنَّ الْإِنْسَانَ عَقْلٌ مَفْتُوحٌ، وخَيَالٌ طَلِيقٌ، فَإِنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِما تَعَصُّبٌ، أو تَطَرُّفٌ، أَو جّشَعٌ، أو تَكَلُّسٌ، مِنْ أَيِّ نَوعٍ، فإنَّ هَذَا الاستحْواذَ لَا يُغْلِقُهُمَا فَحَسبُ، بَلْ يُعِدِمَهُما الْوُجُود، فَيُفْقِدُ مَنْ أَغْلَقَ عَقْلَهُ الوَقَّادَ المَحْمُولَ على أَجْنَحَةِ خَيَالٍ طَلِيقٍ، وَمَنْ أَفْقَرَ خَيَالَهُ الخَلَّاقَ المُضَاءَ بِأَنْوارِ عَقْلٍ وهَّاجٍ، إِمْكَانيَّة الوُجُودِ الْفِعْليِّ كَإِنْسَانٍ إِنْسِانْ!

وَإِلَى ذَلِكَ، وَعَلَى غِرَارِ مَا يَتَحَقَّقُ فِي الزَّمَنِ الْأَسْودِ الَّذي يُسَوِّدُ عَيْشَ النَّاسِ فِي بِلَادِنَا الْآنَ، فَإِنَّ الْقُوَى الاسْتِبْدَادِيَّةَ والظَّلَامِيَّةَ والاستعماريَّة سَتُتَابِعُ سَعْيَها الْمَحْمُوم لِكَبْحِ العَلَاقَةِ الْحَيَوِيَّةِ، الْجَوْهَرِيَّة الْضَّرُورِيَّة، مَا بَيْنَ الْعَقْلِ وَقَانُونِ السَّبَبِيَّة، فَتُؤَجِّلُ وُجُوْدَ هَذِهِ العَلاقَةِ عَلَى أَمْلِ تَحْقِيقِ مَا سيَسْتَحِيلُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَهُ، مَهِمَا تَفَاقَمَتَ ضَرَاوَةُ عُنفِهَا وسَطْوَتِها،أَلَا وهو اجْتِثَاثُهَا تَماماً، كإمكانيَّة مُجَرَّدةٍ قابلةٍ للتَّحَوُّل إلى إمْكانيَّة فِعليَّة، ولا سِيَّمَا إنْ تمكَّنتْ تلكَ القُوى، لِسَبَبٍ أَوْ لِآخَر وَتَحْتَ ضَغْطِ ظُرُوفٍ وَأَوْضَاعٍ وَشُرُوطٍ وحَاجَاتٍ وَضَرُورَاتٍ قَاهِرةٍ، مِنَ اسْتِئْجَارٍ وتَوظِيف كَائِنَاتٍ بَشَريَّةٍ مَنْزُوعَةِ الوعيِّ، أَوْ مُزَيَّفَتَهُ، مَعِ احْتِجَازِ إِمْكَانِيَّةِ سَعْيِ أيٍّ من هَذِه الْكَائِنَاتِ المُسْتَأْجَرة لِإِدْرَاكِ شَيءٍ مِنْ إنْسانيَّته، أَوْ إنْ تَمكَّنَتْ مِنْ أَخْذِ هَذَا الكَائنِ البشَريِّ أوْ ذّاكَ، مِمَّنْ انْفَتَحَوا عَلَى مَسِيرَةِ إدْراكِ إِنْسَانِيَّتِهِم فَصَارَ وَاحِدُهُم إِنْسَانَاً سَاعِيَاً لإدراكِ كَمَالٍ إنْسَانيٍّ مُحْتَمَلٍ، إِلَى نَقِيضِهِ، وذَلكَ عَبْرَ أَسَالِيبَ تَرغِيبٍ وتَرْهِيبٍ شَتَّى، سَيَكُونُ لَهاَ أنْ تُفْضِيَ بِمَنْ يَعْجَزُ، لِسَبَبٍ أَوْ لِآخَرَ، عنْ مُقَاومَتِهَا، إِلَى تَعْدِيم عَقْلِهِ، وإِمَاتةِ خَيَالِهِ الخَلَّاقِ الْمَرْهُونِ اشْتِغَالِهِ باشْتِغَال عَقْلِهِ الْوَقَّاد، وإِلَى التَّجَرُّدِ الاستباقيِّ، أو رُبَّمَا الارْتِجَاعَيِّ، مِنْ مُقَوِّماتِ إنْسَانِيَّتَهِ الَّتي تَتَكَفَّلُ، وخْدَهَا، بِتَمْكِينِهِ مِنْ تجَاوزِ كَونِهِ “مَحْضَ كَائنٍ بَشَريٍّ” إذْ تَحَفِّزَهُ عَلَى بَلْوَرَةِ هُوِيَّتهِ الذَّاتيَّة كَإنْسَانٍ، والشُّروع في تَنْزِيلِ مُكَوِّنَاتِهَا فِي ذَاتِهِ الْعَمِيْقَة، ومُتَابَعَةِ الإِفْصَاحِ عَنْ تَجَلِّيَاتِهِا الْحَيَاتيَّةِ المُتَعيَّنة الَّتي تُمَرْئِي تَجَلِّيَاتِ كَيْنُونَتِهِ الوُجُودِيَّةِ الإنْسَانيَّةِ الْحَقَّة، تِلكَ المَفْتَوحَةِ عَلَى إدراكِ كَمَالٍ وُجُودِيٍّ إِنْسَانِيٍّ لا يَنْتَهِي، ولا يَتَناهَى!

وثَمَّةَ، دَائِمَاً وَأَبَدَاً، أُنَاسٌ غَيَرُ إنْسَانِيينَ مِنْ النَّاسِ قَدِ اكْتَفُوا بِكَونِهِمْ مَحْضُ كَائِناتٍ بَشَريَّةٍ فَحَسْبُ، فَتَوَقَّفُوا، أو أُوْقِفُوا، عَنْ إعْمَالِ العَقْلِ فِي تَضَافُرٍ صَمِيمِيٍّ مَعْ إِطْلَاقِ مَلَكَاتِ الخَيَالِ الإنْسَانيِّ الإبْدَاعيِّ الخَلَّاقِ! وهَؤُلاءُ كُثْرةٌ تَتَكَاثُرُ، وَمَا كفَّتْ عَنِ التَّكَاثُرِ الأَرْنَبيِّ فِي بِلَادِ العَرَبِ، مُنُذُ ما يَربُو على أَلْفِيَّةٍ كَامِلةٍ وقُرُونٍ مِنَ الزَّمَنِ الأُفُقِيِّ الرَّخُوِ! إنَّهُمْ يَسْدُرونَ فِي غَيْبَةِ الْوَعْيِّ، وَيُوغِلُونَ فِي دَيَامِيسِ الْوَعْيِّ الزَّائفِ، أو الْوَعيِّ اللَّاواعي، فَيَغْرَقُونَ في عَتْمَةِ انْعِدامِ الْعَقْلِ، ومَوتِ الخَيَالِ، وَجَفَافِ الْوجْدَانِ، وتَكَلُّسِ الضَّمِير، فِيْمَا هُمْ يَسُدُّونَ، بِأَمْرِ مُحَوْسِلِيهم ومُؤَجِّرِيْهِمْ مِنْ قُوَى الاسْتِبْدَادِ والاسْتِعْمَار والاسْتِغْلَالِ والْقَهْرِ، مَنَافِذَ النُّورِ فِي وجْهِ الإنْسَانِيينَ، الكُرَمَاءِ الْأَحْرَارِ، مِنَ النَّاسِ، ولَا يَكُفُّونَ عَنْ الإمْعانِ في تَزييفِ الْوَعْيِّ، وإِشْعَالِ حَرَائِقِ الْفِتَنِ عَلَى نَحْوٍ يُحِيْلُ واقعَ حَيَاةِ هَؤلاءِ النَّاسِ إِلِى جَحِيمٍ مُقيْمٍ لا يُغْلِقُ إمْكَانِيَّة وُجُودِهِم الْحَقِيقيِّ فِي الْوُجُود فَحَسْبُ، وإِنَّمَا يُحِيْلَهُم إِلَى مَحْضِ كَائناتٍ مَيْتَةٍ فِي دَيَامِيسِ حَيَاةٍ هي عَينُ الجَحِيم!

فَهَلْ لِإنْسَانٍ عَاقِلٍ مَسْكُونٍ بِأَنْوَارِ الْعَقْلِ وَوَهَج الخَيالِ المُجَنَّحِ، وبالتَّوقِ اللَّاهب إلى حَيَاةٍ تَفتَحُ أمامَ خَطوه شَتَّى مَدارات الوُجُود، أَنْ يُطْفِئَ تِلْكَ الأَنْوَارَ وَذَاكَ الْوَهَجَ، وأنْ يَكْسِرَ تِلْكَ الأَجْنِحَةَ ويَرْكُنَ إِلِى جَدَارٍ مَكْسُورٍ، لِيَتَمَاهَي بِعَتْمَةِ نَقِيضِهِ اللَّإنْسَانيِّ الْفَادِحِ بَأَنْ يَقْبَعُ تَحْتَ رَايَاتِ آيدْيُولُوجِيَّاتٍ ظَلَامَيَّةٍ، سَوْدَاءَ جَرْدَاءَ، غَلَّفَتْ نَفْسَهَا، أَوْ غُلِّفَتْ، بِالدِّيِنِ المُؤَدْلَجِ، أَوْ بِمَذْهَبٍ آيدْيُولُوجِيٍّ عُنْصُرِيٍّ، أَوْ سَيَاسَيٍّ، مُسْتَبِدٍّ، زَعَمَتْ أَنَّهُ مُسْتَمَدٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنْ أيِّ دِينٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، أو أنَّه هُو الدِّينُ الحَقُّ، كَيْ تُحَقِّقَ غاياتٍ هِيَ الأبعدُ نَأْيَاً عَنِ الْإِنْسَانِيَّة الحَقَّة وَعَنْ مَقَاصِدِ أَيِّ دِينٍ إنْسَانيٍّ أو إنْسَانيٍّ سَمَاويٍّ أَصِيلٍ؛ غَايَاتٍ هِيَ الأَشدُّ مُجَافَاةً لِلْحَيَاةِ الإنسَانيَّة الْكَرِيمَة الحُرَّة، ولِسَمَاحَةِ الأَدْيَانِ، وَنُبْلِ إِنْسَانِيَّتِهَا ورِسالَتِها، وَرَحَابَةِ فَضَاءَاتِهِا، وَفَيْضِ أَنْوارِ قِيَمِهِا، وَانفتاحِ مَبَادِئِهَا المُؤسَّسةِ على جَمَالٍ وسُمُوٍّ أَضَاءَا عَقْلَ الْإِنْسَانِ وأطْلَقَا خَيَالَهُ المُبْدِعِ، فَمَكَّنَاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَفْسهُ، وَمِنْ إِثْرَاءِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّهَاضِ الْحَضَاراتِ، وإِعْمَارِ الْوُجُود؟!

وَهَلْ لِكَائِنٍ حَيٍّ يُعَرِّفُ نَفْسَهُ، جَوْهَرِيَّاً، بِوَصْفِهِ إِنْسَانَاً، أَوْ يَتَلَمَّسُ فِي أَعْمَاقِ نَفْسِهُ بِذْرَةَ إِنْسَانٍ تِلْتَمِسُ السِّقَايَةَ والرِّعَايةَ كَيْ تَنْمُوَ وَتَسْمُوَ لِتُعَانِقَ تَجَلِّيَاتِ جَوْهَرِهَا الْإنْسَانِيّ الْعَمِيقِ، إِلَّا أَنْ يُعْمِلَ عَقْلَهُ، ويُطْلقَ خَيَاله المُجَنَّحَ، لِيَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنِ الْجَهْلِ وَالضَّيَاعِ وَالْعَتَمِ وانْعِدَامِ الفَضَاءَاتِ، وانْسِدَادِ والآفاق، وَعَنْ تِلْكَ الْآيدْيُولُوجِيَّاتِ الْمَقِيْتَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي لَنْ تَأْخُذَهُ إِلَى مَكَانٍ سِوَى أَقْبِيَةِ جَهْلٍ عَمِيمٍ ذَاتِ عُفُونَةٍ مُزْمِنَةٍ، وحَوائِطَ اتِّكَاءٍ مُتَكَلِّسَةٍ، وَرُطُوبةٍ لَزِجةٍ، وَإِلَى هَلَاكٍ مَجْانِيٍّ لَا قِيَامَةَ لَهُ بَعْدَهُ إِلَّا فِي جَحِيمٍ آخَرَ مِنْ هَلَاكٍ مُقِيمٍ لَا يَرى فِيْهِ، كَكَائِنٍ بَشَريٍّ أَعْجَزهُ الجَهْلُ عَنْ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانَاً، إِلَّا صُوْرةَ نَقِيضِ الإنْسَانِ الَّذِي اخْتَارَ لَهُ جَهْلُهُ، وَعَمَى بَصِيرَتِهِ، أَلَّا يَكُونَ إِلَّا إِيَّاهُ؟!

اخر الأخبار