التدمير الذاتي للقوة الأمريكية

تابعنا على:   15:17 2019-08-20

عبد المنعم سعيد

العنوان «التدمير الذاتى للقوة الأمريكية» مستعار من عنوان مقال مهم للكاتب الأمريكى الأشهر «فريد زكريا» الذى هو فى الأصل عالم سياسى مرموق، ولكنه ممن كانت له قدرة التواصل مع الجمهور العام من خلال رئاسة تحرير مجلة «النيوزويك» ثم من خلال برنامجه «جى. بى. إس أو GPS» أى الميدان العام الكونى Global Public Square فى شبكة سى.إن.إن التلفزيونية. بشكل ما فإن الرجل يشكل مقلوب «توماس فريدمان» الذى جاء من عالم الصحافة والإعلام إلى عالم الفكر، وحتى الأكاديميا، بكتاباته عن مسيرة العالم؛ أما هو فقد جاء من عالم الأكاديميا والجامعات إلى العالم الواسع للاتصال والتواصل حول ما يدور فى العالم أيضا. الأول ينظر فى القوى التحتية، وخاصة التكنولوجية والاجتماعية التى تغير الدنيا؛ والثانى ينظر إلى الدنيا أيضا ولكن من زاوية القوى الحاكمة أو النظام الدولى وتوازنات القوى فيه. والمقال المشار إليه بذات العنوان نشر فى دورية «الشؤون الخارجية» بتاريخ ١١ يونيو الماضى، وكان له عنوان فرعى «كيف أضاعت واشنطن لحظة القطب الأوحد». والحقيقة أنه ليس من الصعب تخيل ما جاء فى المقال ليس فقط لأن ما جاء فيه ورد فى عدد من المقالات والكتب السابقة للمؤلف؛ وإنما لأن فكرة تراجع القوة الأمريكية كانت واردة منذ لحظة انهيار الاتحاد السوفيتى وساعتها كان السؤال عما إذا كان انهيار القوى العظمى واردا فلماذا ينطبق ذلك على القطب السوفيتى ولا ينطبق على القطب الأمريكى؟ وكما حدث مع القطب الأول حينما بدأت الشروخ تتوالى فى جسده، فكان أنصاره من الماركسيين والشيوعيين يجزمون بأن الانهيار ليس واردا- وكان ذلك فى زمن جورباتشوف- وأن الإصلاح سوف يأتى لا ريب فيه، وفى الوقت المناسب أيضا. بداية القصة جاءت مماثلة فيما يتعلق بأمريكا، حيث كانت الحرية والديمقراطية والرأسمالية مبشرة بقيادة العالم بالعلم والتكنولوجيا والأفكار حتى «نهاية التاريخ».

.. كيف دمرت أمريكا نفسها وهى التى خرجت من الحرب العالمية الثانية قائدة للعالم، وهى أولى الدول التى امتلكت القنبلة الذرية واستخدمتها، وهى أول من وصل إلى القمر، وعندما انهار الاتحاد السوفيتى باتت القوة العظمى الوحيدة فى العالم. الأسباب التى أتى بها «فريد زكريا» متوقعة، ففى الوقت الذى وصلت فيه أمريكا إلى القمة خلال التسعينيات من القرن الماضى كانت هى ذات اللحظة التى ظهرت فيها الصين كقوة عظمى محتملة. لم تكن لا الشيوعية ولا الديكتاتورية ولا الحزب الواحد عائقًا أمام تحقيق أعلى معدلات النمو التى عرفتها البشرية فى تاريخها. وحينما بدا أن الدنيا قد استقرت لواشنطن فى قيادة العالم وليس فقط حلف الأطلنطى بما راحت تقوم به لإعادة ترتيب الأوضاع فى أوروبا بتوحيد ألمانيا، وتوسيع الاتحاد الأوروبى، والتدخل العسكرى لتفتيت يوغوسلافيا، وتوسيع حلف الأطلنطى لكى يصل إلى الحدود الروسية؛ فإن لحظة القمة ربما كانت لحظة التراجع وفقدان لحظة «القطب الأوحد». جرى ذلك فى الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ حينما جرى تدمير برجى مركز التجارة العالمى فى مشهد مروع ورهيب فتح الباب لحرب ضد الإرهاب لا تزال معنا حتى الآن. كان رد فعل جماعة «المحافظون» الجدد الحاكمين لأمريكا فى مطلع الألفية بقيادة جورج بوش الابن أن القيادة الأمريكية لم تكن حازمة بما يكفى فكانت الحرب فى أفغانستان، وعندما لم تكن الأهداف هناك كافية للقوة الأمريكية، فكان غزو العراق. ذهب المحافظون الجدد، وذهب جورج بوش، ولا تزال الولايات المتحدة لا تعرف ماذا تفعل مع العراق، أو أفغانستان، وهل تستمر فى الحرب ضد الإرهاب أم تغلق الأبواب على ذاتها، فلا يأتيها إرهابى ولا مهاجر. ولم يمض وقت طويل على أية حال حتى عادت روسيا مرة أخرى تحت القيادة الحازمة لفلادمير بوتين الذى سرعان ما خلص روسيا من فوضاها، وبعدها كان السعى لاستعادة الهيبة مرة أخرى، فكان التدخل العسكرى فى حورجيا، ثم ضم شبه جزيرة القرم، وضغط على أوكرانيا حتى بات مستحيلا انضمامها إلى حلف الأطلنطى، وحينما حل التدخل الروسى فى سوريا باتت موسكو تمسك بمفاتيح الحديث والترتيب مع تركيا وإيران وإسرائيل؛ وحتى باتت لديها القدرة للتدخل فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية ٢٠١٦!

ولكن الصين والإرهاب وروسيا لم تكن أكثر العوامل خطورة فى تقويض القوة الأمريكية وحرمان الولايات المتحدة من إمبراطوريتها الدولية الواسعة حتى باتت أقصر الإمبراطوريات عمرا فى التاريخ؛ وما كان أكثر خطورة كان تولى «دونالد ترامب» الإدارة الأمريكية فانتهى الأمر بالدولة الأمريكية للتراجع وراء حدودها بالحماية الجمركية، وبالأسوار، وبالحاجز النفسى بين الشعب الأمريكى وبقية العالم. أصبحت أمريكا فى حالة حرب باردة مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبى وأنواع مختلفة من التوتر مع اليابان ودول الخليج العربية وكوريا الجنوبية وحتى كندا وأستراليا.

الثابت على أية حال أن الإمبراطوريات الكبرى لا تنهار بسبب غزو من الخارج، أو حتى فشل خارجى مروع، وإنما حينما يكون التآكل داخليا، فلم يكن ترامب ظاهرة أتت من خلف الغمام، وإنما كان ظاهرة نبتت وازدهرت كما حدث لمثيلاتها فى كثير من البلدان الغربية. ترامب كان جزءا من موجة كبيرة عادت أصولها إلى اللحظة التى سميت فيها أمريكا «القطب الواحد». وهنا فإن «فريد زكريا» لا يذهب بعيدا إلى ما بات شائعا الآن باسم «أزمة الديمقراطية» التى أشار لها الزميل والصديق د. محمد كمال فى مقال له فى «المصرى اليوم»، وكذلك الزميل الأستاذ عبد الله عبد السلام فى «الأهرام»، والتى باتت الآن ظاهرة فى الكثير من الدوريات والكتب الغربية. فالحقيقة أن كاتبين مثل «فريد زكريا» و«توماس فريدمان»، على قدر علمهما، يتحملان جزءا من المسؤولية فى توفير الاندفاع الفكرى والأخلاقى لإمكانيات تغيير العالم وقلبه رأسا على عقب. ولكن الواقع فى العالم كان مختلفا، والدول والأمم لها طرقها فى التغيير، بما فيها حتى الولايات المتحدة التى لم تعد تتحمل المزيد من الحرية والليبرالية التى كان عليها مواجهة تقاليد وأعراف وأخلاقيات جماعية لم تقبل البعثرة ولا الانتقاص. وفى الوقت الراهن بات العالم ثلاثى الأقطاب، وبينما يجرى الزلزال فى قطب منها انتظارا للانتخابات القادمة فى ٢٠٢٠، فإن الصين تنظر بركن عينيها إلى «هونج كونج» المختلفة فى حالها التظاهرى عن الحالة القديمة فى «ميدان السلام السماوى». روسيا هى الأخرى يجرى لها الكثير ليس فى سوريا أو أوكرانيا وإنما فى موسكو. وعلى هامش القوى الثلاث فإن اليابان بدأت خلافا مع كوريا الجنوبية أما الاتحاد الأوروبى فإنه يواجه «البريكسيت» ليس كخروج بريطانى من الاتحاد، وإنما كإشارة إلى مصير الاتحاد نفسه. هل يكون العالم أفضل حالًا بدون القوى العظمى، أو وهى مجروحة ومضطربة، أم أن ذلك سوف يكون إيذانًا بيوم القيامة؟!

عن المصري اليوم

كلمات دلالية

اخر الأخبار