سلاح الإعلام بين الحنكة وسوء الاستخدام

تابعنا على:   20:29 2019-07-13

شجاع الصفدي

دأبت ماكنة الإعلام الإسرائيلي بتوجيهات أمنية وسياسية على تضخيم قدرات الخصوم ، سواء الإقليميين الافتراضيين ، أو فصائل المقاومة الفلسطينية ، وتفننت في إبراز قدرات المقاومة أضخم من حجمها بمئات المرات ، وذلك على مراحل مدروسة جيدا وفق معطيات المصلحة الإسرائيلية ، فكانت تبرز خطر التهريب عن طريق الأنفاق بين قطاع غزة وسيناء لأسباب استراتيجية متعلقة بمصر والعلاقة الأمنية معها ، ثم تركز على التهريب عن طريق البحر أيضا وفق ما تتطلبه المصلحة .
لاحقا أصبحت الأنفاق التي تعبر من غزة إلى ما يسمى بمستعمرات الغلاف في بؤرة التركيز الإعلامي الإسرائيلي ، وبات يروّج لهذه الأنفاق على أنها الخطر الاستراتيجي الأكبر على دولة الاحتلال ، ليس فقط أمام الرأي العام العالمي وإنما أمام الرأي العام الداخلي الإسرائيلي ، وذلك لخلق أجواء مهيأة لعملية عسكرية كبيرة للقضاء على خطر الأنفاق، وتكون قد تمت تهيئة الرأي العام تماما لتقبل العواقب ، فيما يصب في خانة القائد المنقذ ، الذي يحرص تماما على اختيار الوقت المناسب للحرب حين يشكل العدو خطرا يستأهل الذهاب للمعركة .
ثم برزت على السطح الصواريخ المتطورة والتجارب التي تجريها المقاومة نحو البحر، ثم صواريخ الكورنيت الدقيقة التي شكلت هاجسا خلال جولات المواجهة المتعددة ، وصولا للحوامات المفخخة وطائرات الأبابيل وغيرها مما أعلنت الفصائل عن توافره لديها من أسلحة ، قام الإعلام الإسرائيلي بإظهارها على أنها أسلحة فتاكة ، وأن السكوت على وجودها في خاصرة دولة الاحتلال لا يمكن أن يستمر .
خلال هذه المراحل التي مرّت بها الحرب الإعلامية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ، كان هنالك من يعمل بقصد أو بدون قصد على ترسيخ كل ادعاءات الاحتلال بدلا من تفنيدها ، فمن يخدم الاحتلال دون قصد هو ذلك الذي يعتبر تضخيم قدرات المقاومة أمرا جيدا ، فيتساوق مع الرواية الإسرائيلية دون حكمة أو وعي ، ومن يخدم الاحتلال بقصد هو ذلك الذي يتعمد أن يؤكد ما يقوله إعلام الاحتلال ، ويسعى لإبراز كل ما لدى المقاومة متوعدا بزلزلة الأرض بصواريخ متطورة وعتاد لن تتوقعه إسرائيل في أي معركة مقبلة !! .
وعلى سبيل المثال من هذا النموذج أو ذاك ، قبل حوالي شهر، خرج أحد قادة المقاومة في لقاء مع مواقع محلية ، مطلقا على نفسه لقب " قائد سلاح المدفعية " ، هكذا تماما ، وقائد من فصيل آخر أطلق على نفسه قائد الوحدة الصاروخية !!.
كلاهما بالطبع صرّح بالكثير مما لا يجب التصريح به عن قدرات المقاومة وما تملكه ، ومدى دقة الصواريخ وقدرتها التدميرية ، وبالطبع لم يفوّت الاحتلال الفرصة ، فأطلق مصطلحا جديدا بدلا من المنظمات الفلسطينية ، وبدلا من منظمة حماس ، وأصبح رسميا " جيش حماس " ، في كل وسائل الإعلام الإسرائيلية وأينما ترجمت تلك الصفحات ، فإن هذا المسمى كافٍ تماما لإلغاء صورة المقاوم التقليدي الثائر ضد الاحتلال بقدراته المتواضعة ، ويبرز جيشا عدوا لدولة الاحتلال القوية ، والتي يتطلب منها حماية مواطنيها من هذا العدو المتربص ، واستخدام أكثر الأسلحة فتكا للقضاء على هذا الخطر الاستراتيجي المتنامي في خاصرة الأمن الإسرائيلي .
إذن ، ما زلنا نقدم للاحتلال كل ما يمكن من مساعدة لتضخيم قدراتنا وقوتنا ، لتسهيل مهمة القضاء علينا ، ومن يردد أن إسرائيل ليست بحاجة لمبرر لشن حرب على غزة مخطئ تماما ، فالحرب ليست لعبة ، وكل خطوة تتم دراستها بدقة ، والفشل ثمنه باهظ جدا بالنسبة لأي قائد إسرائيلي، وليس المقصود هنا الثمن العسكري ، فمهما كان الثمن والخسائر الإسرائيلية في أي حرب ، لن تتجاوز واحد بالمئة من خسارة الفلسطينيين من أرواحهم وممتلكاتهم .
كل ما يجري خلال الفترة الماضية كان دفعا للمقاومة لتبرز كل أنيابها ، ليسهل خلعها ، وحتى ردود الفعل الإسرائيلية لم تكن ذات قدرة تدميرية فتاكة ، لأن إسرائيل هذه المرة لا تريد حربا متعجلة ، بل تنضج الحرب على نار هادئة ، وتهيئ لها الظروف الداخلية والإقليمية والدولية ، ولا أبالغ إن قلت أنها تهيئ الظروف الفلسطينية أيضا ، فقد برزت العديد من الأصوات اليائسة التي تتعجل الحرب من أجل الخلاص من الوضع القائم ، وهذا مؤشر خطر جدا لا تلتفت الفصائل إليه أبدا للأسف ، وأقصى ما يمكن فعله هو اتهام هذه الأصوات بالعمالة للاحتلال ، بدلا من البحث في أسباب وصولهم لهذه المرحلة البائسة .
أعتقد أن أوان التصحيح قد فات تماما ، ولا يمكن أن نفكر بعودة صورة الضحية ، الصواريخ والجيوش والعتاد والاستعراضات العسكرية ومحاولة تقمص صورة حزب الله ، كل ذلك لم يترك الباب مواربا لعودة المقاتل الثوري التقليدي للمشهد أمام الرأي العام العالمي ، ووسائل الإعلام العالمية تتناقل الصور والعروض والتصريحات العنترية الخطيرة ، وإسرائيل مستمتعة جدا بالمتابعة ، وتغذي عبر إعلامها كل ما يمكن أن يجعل المقاومة الفلسطينية ديناصورا .
وبما أن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة فشلت ولم يستطع نتنياهو تشكيل حكومته اليمينية ، وستعاد الانتخابات خلال شهرين تقريبا ، فإن نتنياهو هذه المرة ليس مستعدا للخسارة ، وليس مستعدا لأن يستمر ليبرمان في التحكم بمصيره ، ولذلك على الفصائل أن تفهم المرحلة جيدا وتدرك حيثيات المصالح الإسرائيلية ، ولا تعتقد أن الضغط على تننياهو انتصار عظيم ، فلا يجب أبدا أن تجرب أن تضع ذئبا جائعا متوحشا في زاوية الغرفة وتريد وخزه بإبرة ولا يمزقك إربا ، ولذلك أعتقد جازما أن نتنياهو يخبئ ورقة الحرب في جيبه لتكون " الجوكر " الذي يحسم معركته الانتخابية ، وكل الظروف مهيأة تماما الآن عربيا ودوليا لأي حرب ضد غزة مهما كانت قدرتها التدميرية ، وإذا لم يجد نتنياهو سبيلا ممهدا ومضمونا لكسب المعركة الانتخابية ، سيخرج بهذه الورقة ، ويصفع بها ليبرمان واليمين كاملا، ويطلق يد الجيش تماما ، فإن كسب الحرب وحقق إنجازا ، فقد كسب الانتخابات أمام جمهور إسرائيلي متعطش لدماء الفلسطينيين دائما ، وإن لم تحقق الحرب إنجازا واضحا ، لن يكون أمام ليبرمان وخصوم نتنياهو الكثير لقوله ضده ، ويمكنه أيضا الوقوف على الحافة والفوز بالانتخابات بنسبة تضمن له تشكيل الحكومة .
علما بأن الجمهور الإسرائيلي يميل لنتنياهو لأن الوحيد الذي بخبرته لم يعط الفلسطينيين شيئا ، وماطلهم أعواما طويلة جدا دون تحقيق أي مكسب سياسي أو اقتصادي ، ودون أن يتعرض لأي ضغوط دولية أو عربية ، بل سارت الأمور بعكس ذلك ، وأصبح التطبيع مع إسرائيل رائجا جدا ، والعرب يتهافتون لتقوية العلاقات وتطويرها .
وأخيرا ، ليت قادة فصائل المقاومة تفهم أن الإعلام سلاح ذو حدّين ، يمكنه أن يتسبب بسحق غزة دون مبرر ودون أن يكون للحرب هدف سوى الحرب والدمار ، وعليهم أن يدركوا أن عليهم الرفق بشعبهم الذي طحنته الحروب ، وأن كثرة التصريحات والتهديدات تنقص من شأن المقاومة وليس العكس ، فدائما السلاح الخفي أقوى بكثير من السلاح المكشوف في أي معركة .

كلمات دلالية

اخر الأخبار