"لبنة إضافية في حصن الذاكرة الفلسطينية"

تابعنا على:   15:16 2019-05-22

عيسى الشعيبي

كان ادوارد سعيد يدرك، ربما أكثر من نظرائه المثقفين الفلسطينيين، ان المعركة مع إسرائيل والصهيونية هي في جوهرها معركة تاريخية طويلة ذات نهايات مفتوحة، وهي ليست على الأرض فقط، وانما ايضاً على الرواية والذاكرة والوعي، على التاريخ والجغرافيا معاً، تتعدد فيها أدوات الكفاح الفلسطيني، بما فيها الإنتاج المعرفي والادبي، وتتنوع خلالها المواجهات الفكرية القائمة على البحث والتوثيق والتمكين.
ولعل هذا الادراك العميق لمتطلبات تحصن الذاكرة الجمعية، هو الذي حمل هذا الأميركي من الكاتب الصحفي: الأستاذ أصل فلسطيني، قبل فترة قصيرة من وفاته، على توجيه نداء حار لبني قومه، حث فيه كل واحد منهم على كتابة حكايته، مهما كانت متواضعة، وتدوينها بشكل منفصل، لعل هذا الجهد المتفرق، وغير المنسق بالضرورة، يصنع في نهاية المطاف الرواية المشتركة لشعب بات في خط الدفاع الأخير، يناضل ضد التهميش والشطب والامّحاء. 
من غير المرجح ان يكون الدكتور محمد خليل، وهو أحد رجال الرعيل الأول من جيل النكبة، قد سمع بنداء ادوارد سعيد آنف الذكر، الا ان هذا الفلسطيني المولود في طيبة حيفا عام 1925، كان في ذلك الوقت يقوم من تلقاء نفسه، وبدوافع مختلفة، بكتابة حكايته الشخصية الممتدة على مدى 93 عاماً من حياة جد فيها واجتهد، اخذ منها وأعطى الكثير، ونال في غضونها قسطاً وافراً من التعليم والحظ والحظوة، في وقت مبكر من ذلك الزمن الفلسطيني الضائع.
دوّن الدكتور محمد خليل (موضوع هذه المطالعة) سيرته الذاتية ومسار حياته العامة، في مذكرات اسماها "محطات ومواقف على دروب النضال" غطت أكثر من 1800 صفحة موزعة على مجلدين، طاف فيها بنا، وقص علينا حكايته من عهد الطفولة في بلدته الطيبة، الى فترة تعليمه الثانوي في القدس، ومن ثمة دراسته الجامعية في بريطانيا، وذلك كله قبل النكبة، التي غيرت دروب الشاب محمد خليل، ومعه دروب ومصائر شعب بأسره.
واحسب ان هذه المذكرات الصادرة حديثاُ في عمّان، تُمثل أفضل استجابة ممكنة لنداء تحصين قلعة الوعي بالذات الفلسطينية، أتت في خضم سلسلة طويلة من مذكرات فوق شخصية، يواصل كتابتها قادة ومناضلون ورواة، لهم اسهامات متفاوتة الأهمية في بناء الحكاية المشتركة، منهم المرحوم محمد خليل، الذي لا يروي لنا عن نفسه فحسب، وانما يقص علينا ايضاً جانباً من حكاية شعب، كان أبناؤه يكافحون من اجل البقاء، ومن ثمة التمكن والانبعاث، لاستعادة الهوية المصادرة، واسترداد الشخصية الوطنية.
ولعل مراجعة سريعة لمجريات حياة الفتى محمد خليل، لا سيما بعد النكبة، توضح لنا مقطعاً عرضياً من سيرة فلسطينية عامة، وان كانت نخبوية، حيث نال هذا الشاب عام 1948 درجة البكالوريوس من بريطانيا، ثم الدكتوراة من هولندا عام 1952، ليشغل في العام التالي منصب المستشار القانوني في القصر الملكي الليبي، وبعدها يعمل في الدوحة مستشاراً لدى شركة شل، ومن ثم مستشاراً في وزارة النفط الجزائرية، وقبلها في وزارة النفط العراقية.
وليس كل ما سبق سوى جزء من رحلة اشمل لرجل اختصاص متمكن، تنقل بين عواصم عربية عديدة، وشغل مناصب استشارية رفيعة، كان آخرها منصب مستشار مجلس إدارة الهيئة القطرية للبترول عام 1977، وفي ختامها قاضياً غير متفرغ لدى منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط حتى عام 1985، الامر الذي يضفي أهمية استثنائية على مذكرات وصفها صاحبها انها "مذكرات لم تكتمل" رغم كل ما احتشد فيها من وقائع وقصص ومحطات ومواقف، تسهم في الإضاءة على الرواية العامة.
لا يتسع المقام لاستعراض حتى اهم ما حفلت به هذه المذكرات حديثة الصدور، وطويلة الصفحات، غير ان ما حكته عن زمن فلسطيني يكاد يكون مجهولاً، وما ورد فيها من حقائق غير شخصية تماماً، يجعل من مجلديها الاثنين خزانتين عامتين مليئتين بالأخبار الموثوقة، والتجارب الشخصية، والصور التاريخية النادرة، وهي تشكل في مجموعها مرجعاً يعتد به لكل باحث ومؤرخ، راغب في إعادة تكوين صورة بانوراميا، عن نحو مائة سنة فلسطينية

كلمات دلالية

اخر الأخبار