حماس في مهب المتغيرات المصرية وأخطائها الذاتية

تابعنا على:   11:25 2013-10-29

أمد/ القاهرة – كتب حسن أبو طالب : لم تكن العلاقة بين مصر وحركة حماس في قطاع غزة، قبل سقوط مبارك أو بعده، ودية إلا نادرا. والاستثناء كان عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، الذي استغرق عاما، منذ تنصيبه رئيسا في 30 يونيو (حزيران) 2012 حتى عزله في 3 يوليو (تموز) 2013. عام يحلو لمراقبين وصفه بعام حماس الذهبي. فأنفاق التهريب تعمل بكفاءة نادرة في تهريب كل السلع المصرية المدعومة، والمسروقات من السيارات الحديثة التي يملكها مصريون، إلى قطاع غزة. ومن الأنفاق، يأتي إلى مصر جهاديون تكفيريون، وأسلحة مختلفة الأشكال والأنواع، وخبرات في تصنيع المتفجرات عن بعد، وسيارات الدفع الرباعي المحملة بالأسلحة، وغيرها مما يدخل في باب تهديد الأمن القومي لأي دولة.

بينما كانت حكومة حماس التي تسيطر على غزة تحصل الأموال تحت صفة جمارك على المهربات من مصر، وأموال أخرى مقابل التصريح بحفر نفق وعمله وخدمته، مما كان يدر عليها ما يقرب من 400 مليون دولار سنويا - كانت مصر تتلقى التهديدات وتواجه الإرهاب والترويع، بل والتدخل في شؤونها الداخلية.

بالقطع، لدى حماس تفسير ودافع لبقاء هذه الأنفاق بخيرها وشرها، وحتى زيادة أعدادها؛ فهي النافذة الكبرى المتاحة لمواجهة الحصار الإسرائيلي، المتمثل في غلق المعابر الستة التي تربط القطاع بإسرائيل، التي يفترض القانون الدولي أنها دولة احتلال مسؤولة عن توفير أسباب الحياة للقطاع المحتل.

وكما هو معروف، فإن الأمور، خاصة ما يتعلق منها بإسرائيل، لا تسير أبدا وفق القانون الدولي، بل وفق الأهواء الدولية، والمتغيرات والمعادلات على الأرض. ساعدت على ذلك، رغبة تل أبيب، ومن خلفها واشنطن، في التخلص النهائي من عبء الاحتلال، من خلال إلقاء عبء توفير الاحتياجات المعيشية على مصر، في مرحلة أولى. ثم في مرحلة ثانية طرح تصور يقضي باقتطاع جزء من الأراضي المصرية في شمال سيناء الملاصقة للحدود الجنوبية لقطاع غزة، ومبادلته بجزء أقل من أراض تخضع لإسرائيل في صحراء النقب يضم إلى الأراضي المصرية، على أن يتحول القطاع بعد إلحاق الأراضي المصرية به، إلى دويلة فلسطين، وينتهي بذلك الصراع التاريخي! وهنا، تتعدد التقارير والدراسات التي تشير إلى أن الرئيس الأسبق، حسني مبارك، رفض هذا الطرح الاستعماري بشدة وأغلق أي حديث حوله. لكن هذا الطرح، قبل بشكل سري، من قبل الرئيس الإخواني وجماعته، وبدعم أميركي كبير. ولما كانت حماس جزءا من جماعة الإخوان الكبرى، فالمرجح أنها وجدت في هذا التصور حلا مثاليا، أو لنقل مناسبا، للتحول إلى دويلة مستقلة تعيش في رعاية مصر الإخوانية.

الأنفاق.. معضلة أمنية وهدية إخوانية وفي الطريق إلى تحقيق هذا التصور الذي يقضي تماما على كل الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية للقضية الفلسطينية، لم تجد حماس أفضل من الابتعاد عن الارتباط بإسرائيل، وفي الوقت نفسه، وضع مصر أمام أمر واقع، يتمثل في توظيف الأنفاق، غير القانونية، في بناء شبكة مصالح مع قسم من أهل شمال سيناء، والالتفاف على حصار إسرائيل الاقتصادي للقطاع، ومن ثم تحميل مصر مسؤولية توفير أساسيات الحياة للفلسطينيين في غزة (ولو بطريق غير مباشر)، وجعل قرار هدم الأنفاق، حتى لو أرادت الحكومة المصرية ذلك كليا أو جزئيا، غير قابل للتنفيذ عمليا.

من جانبها، أنهت مصر في عهد الرئيس المعزول، تحفظاتها على استمرار تلك الأنفاق. وتغاضت عن كل التهديدات المحتملة التي قد تجلبها للأمن القومي المصري. وبينما كان العدد التقريبي للأنفاق في نهاية حكم الرئيس الأسبق مبارك، ما بين 500 إلى 400 نفق، وصل العدد التقريبي في زمن حكم «الإخوان»، إلى أكثر من 1200 نفق، بعضها كان مجهزا بالحوائط المسلحة وتسمح بمرور سيارات النقل متوسطة الحجم وسيارات نقل المنتجات النفطية المصرية المدعومة.

والمعروف أن القوات المسلحة المصرية بعد أن قامت جماعة تكفيرية إرهابية بقتل 16 جنديا مصريا خلال إفطار رمضاني صادف 3 أغسطس (آب) 2012، تبين لها أن الفاعلين يستغلون الأنفاق مع قطاع غزة، لجلب الأسلحة والهروب بعيدا عن الأجهزة الأمنية المصرية. وتبين أيضا، أن هناك تعاونا وثيقا بين الجماعات الإرهابية العاملة في سيناء وجماعات مشابهة لها، جرى تحت حماية حركة حماس في القطاع ورعايتها. وهو التعاون الذي أدى إلى قتل الجنود المصريين في هجوم خاطف، من دون مراعاة لأي قيم دينية أو وطنية أو قومية.

وكان قرار القوات المسلحة آنذاك، هدم الأنفاق أو بعضها، للتدليل على قدرة الدولة المصرية على السيطرة على حدودها. لكن الرئيس مرسي طلب من القوات المسلحة المصرية، آنذاك، أن توقف تلك العملية تماما، بما في ذلك عدم مواجهة الجماعات الإرهابية، ووقف البحث عن قتلة الجنود المصريين، بل فضل أن يجري التواصل مع هذه الجماعات من خلال مبعوث رئاسي ينتمي إلى الجماعة الإسلامية التي كانت مسؤولة عن عنف عقد التسعينات، للتواصل مع قيادة هذه الجماعات المسلحة لتهدئة الوضع الأمني في سيناء، باعتبار أن الحكم القائم في مصر هو إسلامي يتوافق مع المرجعيات الحاكمة لتلك الجماعات. وهذا ما ساعد بالفعل، على بناء تفاهمات سياسية كبيرة بين جماعة الإخوان وهذه الجماعات، تطورت لاحقا، إلى نوع من التحالف في مواجهة الدولة المصرية ومؤسساتها، خاصة الأمنية. وكان من نتائج هذا التحالف البغيض، أن هدأت الأعمال الإرهابية لكي تتوافر لحكومة الرئيس مرسي فرصة استكمال الهيمنة على المؤسسات المصرية، وفي المقابل، تمتعت هذه الجماعات بحرية حركة كبيرة سواء في سيناء أو في التواصل والتعاون مع نظرائها من الجماعات الأخرى في قطاع غزة.

علاقة استراتيجية جديدة وهكذا، تبلور أول ملامح علاقة استراتيجية جديدة بين مصر في ظل «الإخوان» وحركة حماس، ووراءها الجماعات الإسلامية المسلحة والتكفيرية والإرهابية العابرة للحدود، في الشهور الثلاثة الأولى من حكمهم. إذ تركت مصر الإخوانية لحركة حماس، الحبل على الغارب، فيما يتعلق بإنشاء المزيد من الأنفاق، وبأن تقوم أجنحة حماس المسلحة، خاصة كتائب عز الدين القسام، بنقل خبرات التدريب العسكري إلى الجماعات الإسلامية المصرية وغير المصرية التي تجمعت في سيناء. وفي السياق ذاته، اختفت تماما أي جهود مصرية لتحقيق مصالحة فلسطينية بين حكومة حماس في غزة والسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله. كما اختفى أيضا الاهتمام المصري بملف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. وتقلصت إلى حد كبير الاتصالات المصرية الرسمية مع السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس.

في ظل هذه التطورات، أعيد طرح الأسئلة ذاتها التي طرحت من قبل، حول طبيعة حركة حماس كحركة مقاومة، بينما هي تمارس سلطة حكومية على قسم من الشعب الفلسطيني يعيش على جزء مهم من أرض فلسطينية، خاصة منذ الاقتتال مع حركة فتح وإنهاء وجودها في القطاع صيف 2007، مما جعل القطاع خاضعا تماما لسطوة حماس وحكومتها التي لم يعترف بها أبدا.

هذه الأسئلة، كانت قد طرحت بقوة بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وفق إجراءات وآليات اتفاق أوسلو 1993 الخاص بالحكم الانتقالي والمرفوض تماما من الحركة، وقوامها هل يمكن الجمع بن السلطة الحكومية وما تعنيه من التزامات تجاه الشعب للبقاء والتطور، ومقاومة مسلحة تعمل سرا في غالب الأحوال، وذات هدف أصيل يتمثل في مواجهة الاحتلال وتحرير الأرض، ومن ثم بناء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة والمترابطة جغرافيا؟! تناقضات السلطة والمقاومة ورغم التناقض الجوهري بين التزامات الحكومة والسلطة التي تتطلب الانفتاح على العالم وتأمين الاحتياجات المعيشية للمواطنين وتطوير حياتهم، والتزامات المقاومة التي تتطلب الانخراط في أعمال عسكرية وشبه عسكرية، وبناء ظهير مجتمعي يحمي تلك الأعمال، ويتحمل التضحيات، ويمدها بالقدرات المادية والبشرية، فقد رأت حماس في نفسها القدرة على الجمع بين هذين الالتزامين، على الأقل من خلال التمسك بقدراتها العسكرية التي يمكن أن تستخدم بين الحين والآخر، في توجيه ضربات صاروخية ضد إسرائيل، التي عادة ما ترد بعمليات عسكرية كبيرة تخلف دمارا وشهداء كثيرين. وكذلك الانخراط في أعمال الدعاية ضد السلطة الوطنية ورئيسها ورفض منهج المفاوضات، مع تحمل نتائج ذلك دوليا. والنظر في الوقت ذاته، إلى فصل القطاع تماما عن الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية، والسيطرة عليه بقوة، على أنه خطوة نحو تحرير فلسطين، مع تجاهل التداعيات الخطيرة لهذا النهج على القضية الفلسطينية كقضية قومية تجمع بين تحرير الأرض والشعب. وقد أتاح ذلك لإسرائيل، فرصة ذهبية للتنصل من كل التزاماتها؛ سواء ما يتعلق منها باتفاق أوسلو أو التفاهمات الأخرى التي تلته، واستمرت كل حكوماتها في محاصرة القطاع، وبناء المستوطنات في الضفة، وبناء جدار عازل التهم مساحات واسعة من الضفة وقسمها إلى كانتونات صغيرة غير مترابطة، والضرب بعرض الحائط كل الجهود الدولية للدخول في عملية تفاوض جادة تنهي الصراع، مستندة في ذلك إلى التشرذم الفلسطيني وعدم وجود قيادة تستطيع اتخاذ قرارات كبرى يؤيدها غالبية الفلسطينيين.

نتائج كارثية لم تهتم حماس، سواء قيادتها السياسية التي كانت موجودة في دمشق أو حكومة الأمر الواقع في غزة، كثيرا بالنتائج الكارثية للتشرذم الفلسطيني. وتعاملت مع جهود مصر في سنوات حكم مبارك الأخيرة، لتحقيق مصالحة مع فتح، باعتبارها فرصا لإضاعة الوقت، والحصول، من ورائها، على اعتراف دولي بأنها سلطة حكومية متكاملة الأركان، وعلى بعض تسهيلات من مصر لمرور الأفراد والبضائع والتغاضي عن أنفاق التهريب.

ورغم وضوح أن نهج الجمع بين المتناقضات لا يؤدي إلى نتائج كبرى على الأرض، بل على العكس يحمل في طياته عناصر الفشل الجسيم، فقد ساعد حماس على الاستمرار في هذا النهج ارتباطها العضوي مع دول وقوى إقليمية شكلت ما اعتبرته جبهة الممانعة والمقاومة، أي ممانعة السياسات الأميركية ومقاومة القوة الإسرائيلية، وهي سوريا التي استقرت فيها قيادة حماس السياسية لفترة طويلة، وإيران التي قدمت الأموال والأسلحة بكثافة، وحزب الله الذي قدم الخبرات القتالية. وفي فترة المد التركي الأردوغاني، نالت حماس في غزة الكثير من التأييد الدعائي وبعض المعونات.

ظنت حماس ومؤيدوها الإقليميون أن مجرد استمرار هذه الصيغة هو عين النجاح، رغم أنها صيغة تضمنت فعليا وقفا كاملا وصارما للصواريخ الفلسطينية تجاه الأراضي الإسرائيلية، لا سيما بعد وقف العدوان الإسرائيلي على غزة المعروف بـ«الرصاص المصبوب» نهاية يناير (كانون الثاني) 2009، بعد تدخلات مصرية كبيرة لدى إسرائيل، وضغوط مارستها السعودية على الولايات المتحدة.

ومن المتناقضات الكبرى أن حماس عدت الوقف المتبادل للأعمال العسكرية مع إسرائيل، وتعهدها بالسيطرة على كل الفصائل الفلسطينية المسلحة العاملة في القطاع، وقيام الولايات المتحدة كجزء من التفاهم الكلي بما يلزم لمنع وصول الأسلحة إلى القطاع خاصة من البحر - انتصارا كبيرا، بل ودليلا على حيوية النهج المقاوم الذي تتبعه! وتناست حماس ومؤيدوها أن عملية «الرصاص المصبوب» خلفت خسائر رهيبة، كتدمير أكثر من 1500 موقع ومئات الشهداء وآلاف المصابين وتشريد ما يقرب من 40 ألف أسرة فلسطينية.

الأكثر من ذلك، فإن التفاهمات الخاصة بوقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، لم تتضمن أي تغييرات في طريقة عمل المعابر التي تربط بين القطاع وإسرائيل، وكذلك معبر رفح الذي أصرت مصر الإخوانية على استمرار الترتيبات التي كان معمولا بها إبان وجود السلطة الفلسطينية قبل صيف 2007 في القطاع، كأساس لعمل المعبر لعبور الأفراد وعدم السماح لتحويله إلى معبر للسلع، كما أرادت حكومة حماس.

لقد جسدت هذه التفاهمات والخسائر المادية والبشرية فشلا جسيما لنهج حكومة وحركة حماس، ومع ذلك لم تحدث أي مراجعات، بل جرى التركيز على أن مجرد استمرار حماس كحكومة في غزة، هو دليل الانتصار الناصع.

الربيع العربي وتداعياته حين جاء الربيع العربي وما حمله من تغييرات جذرية خاصة في مصر، بدا الأمر مبشرا وحاملا لخير كثير، فقد جرى التخلص من نظام مبارك، وافتقدت السلطة الفلسطينية الداعم الأكبر لها، وصعد نجم الإخوان المسلمين مصحوبا بحركة شعبية إسلامية ومدنية أرادت أن تغير كل شيء، باعتباره من تراث حكم الرئيس المعزول. بدا الأمر في أيامه الأولى كأنه يصب في مصلحة حماس جملة وتفصيلا، إلى أن مر الربيع العربي على سوريا، أخذ يتحول تدريجيا إلى دماء غزيرة للسوريين ومعارك حربية بين النظام والمعارضة التي باتت مسلحة، وإلى أفق سياسي مسدود. وجاء زمن رد الجميل ودفع الثمن. واتخذت حماس قرارها بالتخلي عن دعم دمشق ورئيسها بشار، وتجاهلت العلاقات الاستراتيجية والمالية والتسليحية مع إيران وحزب الله، وقررت الدخول بقوة في محور جديد بدا مبشرا، تقوده مصر ما بعد مبارك، وتدعم الأمر نهائيا مع وصول «الإخوان» إلى سدة الرئاسة المصرية. بعبارة أخرى، فضلت حماس تحالفات جماعة الإخوان الدولية التي نجحت في مصر وتقاتل في سوريا، وتنشط بقوة في عدد آخر من الدول العربية.

في ظل هذه التغيرات الإقليمية الجذرية، التي لم تتوقف بعد، لم تكن المقاومة في عرف حماس سوى البقاء في السلطة والحرص على التفاهم مع إسرائيل الخاص بمنع إطلاق الصواريخ. ومع وصول الرئيس الإخواني مرسي إلى رئاسة مصر، تدعمت ثقة حماس، وباتت ترى الأمور بعيون أخرى؛ عيون الطرف المنتصر بلا حدود.

المفارقة هنا، أن حماس، التي تعاملت مع هذه التغيرات باعتبارها انتصارا تاريخيا، واستندت إلى وحدة المرجعية الفكرية مع النظام المصري الإخواني الجديد، كانت تخسر كل يوم تعاطف الشعب المصري. ويكمن السبب الرئيس فيما عرف بدور حماس في الهجوم على عدد من السجون المصرية يومي 28 و29 يناير 2011، وما ترتب عليه من خروج قيادات جماعة الإخوان التي كانت في تلك السجون آنذاك، وآلاف عدة من السجناء الخطرين، ومقتل عدد من ضباط الشرطة والجنود. وهو الدور الذي ثبت في تحقيقات واحدة من المحاكمات الجنائية الشهيرة، التي استمرت قرابة العام، وهي محكمة جنايات مستأنف الإسماعيلية، التي طلبت الهيئة الخاصة بها قبل ما يقرب من شهرين من نهاية حكم الرئيس المعزول مرسي، من النائب العام تحريك دعوى جنائية، بحق من ثبت أنهم اتصلوا ونسقوا من جماعة الإخوان المسلمين مع حركة حماس، لاقتحام عدد من السجون المصرية لتهريب عناصر مصرية وعربية منها. وهو القرار الذي فهم كثيرون أنه يتيح محاكمة الرئيس مرسي نفسه بتهمة الخيانة، فضلا عن الهروب من السجن. وبالفعل، هناك محاكمة لعدد من قيادات الجماعة متهمة بالاتصال بالخارج والإضرار بأمن الوطن.

وبينما ينظر المصريون إلى حركة حماس باعتبارها شريكا في جريمة جنائية، وأنها وراء بعض عمليات القتل التي حدثت بعد ثورة 25 يناير، ظلت حماس تنفي دعائيا دون تقديم الدليل، وهو نفي لم يغير شيئا من القناعات الشعبية التي أخذت في الانتشار، وشكلت أحد أسباب خروج ملايين المصريين في 30 يونيو مطالبين بعزل مرسي وإنهاء حكم «الإخوان».

العدوان الإسرائيلي وتفاهم نوفمبر 2012 أدت ثقة حماس بتحالفاتها الاستراتيجية الجديدة، إلى التخفف من تفاهمات فبراير (شباط) 2009، خاصة منع إطلاق الصواريخ على إسرائيل. ومن هنا، تكررت حوادث إطلاق الصواريخ من القطاع، رغم أنها لم تكن تحقق أي نتائج ذات معنى. في الوقت نفسه، سعت إسرائيل إلى اختبار رد الفعل المصري في ظل الرئيس الجديد، واستعادة الردع تجاه حماس، إضافة إلى أجواء الانتخابات الإسرائيلية ورغبة نتنياهو في تحقيق انتصار عسكري يساعده في العودة إلى رئاسة الحكومة مرة أخرى، مما شكل بيئة داعمة لشن عدوان جديد على غزة، الأمر الذي حدث بالفعل في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2012. وهذا ما عد اختبارا لجماعة الإخوان ورئيسها مرسي وتحالفها مع حماس.

حرص الرئيس مرسي آنذاك على التعامل مع العدوان الإسرائيلي باعتباره مسؤولا عن القطاع، وقام بسحب السفير المصري، واتصل مرارا بالرئيس أوباما، وبعد ما يقرب من أسبوع من العدوان الإسرائيلي تبلورت ملامح تفاهم انتهى إلى النتائج السابقة ذاتها، أي الوقف المتبادل لإطلاق النار والصواريخ، من دون أي تغيير في قضية المعابر، مع خسائر بشرية ومادية في القطاع.

لكن الأمر المهم هنا، هو أن مصر في ظل «الإخوان» أصبحت الضامن لحماس في وقف إطلاق الصواريخ، وهو ما عد تغيرا جوهريا في سياسة مصر تجاه القطاع، وحماس تحديدا، ويعني اقترابا أكثر لفكرة مسؤولية مصر عن شؤون القطاع كبديل لإسرائيل في التزاماتها القانونية والإنسانية كقوة احتلال. ومع اتضاح الحقائق لاحقا، تبين أن هذا الدور المصري الجديد لم يأت من فراغ، بل كان جزءا من التزامات إخوانية تجاه الولايات المتحدة بالتوصل إلى حل تاريخي يتضمن تغييرا في حدود مصر وخريطة قطاع غزة، وبناء دويلة تحت اسم فلسطين، مع تخفيف القيود عن حكومة حماس. وفي الآن نفسه، فتح الرئيس مرسي المجال بلا حدود أمام حماس لإنشاء المزيد من الأنفاق السرية، رغم تحفظات وتحذيرات واعتراضات الأجهزة الأمنية المسؤولة عن هذا النهج.

المصريون لا يفرطون في الأرض من المهم هنا، تأكيد أن المصريين لديهم حساسية فائقة تجاه أي أفكار تمس الحدود المصرية من أي جهة كانت. لذا تنامى في مصر شعور بالدهشة الشديدة والغضب الجارف تجاه ما قيل عن قبول الرئيس المعزول وجماعة الإخوان التنازل عن جزء من أرض سيناء، مقابل إرضاء الأميركيين والإسرائيليين عن حكم «الإخوان»، ومنحه صك البقاء والاستمرار. وظهر غضب مصري شديد من نتائج الانفلات الأمني الذي تعانيه سيناء منذ فترة طويلة، وازداد عمقا وكثافة في فترة حكم «الإخوان»؛ فرغم قصرها الزمني، كان الثمن كبيرا، وتمثل في تحول سيناء، لا سيما منطقتي الوسط والشمال، إلى مناطق يرتع فيها التكفيريون والإرهابيون والقاعديون والسلفيون المسلحون، وكلهم ضد الدولة المصرية ومؤسساتها لا سيما الأمنية والدفاعية، وهذا ما تشهد عليه عمليات الاعتداء المتواصلة على الجنود المصريين وآلياتهم العسكرية ومعسكراتهم، إضافة إلى عصابات تهريب السلع والمخدرات والأسلحة والأفراد، سواء مع نظرائهم في القطاع أو مع المافيات الإسرائيلية.

وللتاريخ والحق، فإن جزءا كبيرا من حالة الانفلات الأمني في شمال سيناء، تعود إلى قلة أعداد القوات المصرية فيما يعرف بالمنطقة (ج) القريبة من الحدود مع إسرائيل، حيث تحظر معاهدة السلام لعام 1979 على القوات المصرية الوجود فيها إلا في شكل حرس حدود بأعداد محدودة وتسليح شخصي، إضافة إلى قوات شرطة. الأمر الذي ساعد على غياب قبضة الدولة عن مناطق كبيرة في وسط سيناء وشمالها، ومن ثم تحولت هذه المناطق، إلى جنة ذهبية لكل مهرب وخارج على القانون، ولكل تكفيري وإسلامي مسلح عنيف. وكما هو معروف، فإن ثورة 25 يناير 2011 أدت إلى انكسار جهاز الشرطة المصري، مما جعل الفراغ الأمني مسألة شائعة في أماكن كثيرة. وكانت سيناء أبرز تلك الأماكن وأكثرها معاناة من هذا الفراغ الذي استمر حتى نهاية حكم الرئيس المعزول محمد مرسي.

من جانب آخر، أسهم الحكم الإخواني في زيادة الطين بلة، نتيجة سعي جماعة الإخوان إلى بناء تحالفات قوية مع الجماعات الإسلامية بكل توجهاتها، وذلك على حساب مؤسسات الدولة المصرية ذاتها. وكانت قرارات العفو التي اتخذها الرئيس مرسي لكل عناصر الجماعات الإسلامية، بمن فيهم المتورطون المباشرون في عمليات إرهابية وقتل واستحلال دماء وأموال للمسلمين والأقباط في عقد التسعينات من القرن الماضي، الباب الواسع لخروج مئات من الإسلاميين ذوي الآيديولوجيات العنيفة، الذين وجدوا في شمال سيناء المأوى المثالي للبقاء وإعادة التنظيم والتجمع والاتصال بنظرائهم داخل غزة وخارجها، وهنا لعبت الأنفاق السرية مع القطاع الدور الأكبر في تسهيل التواصل الدائم وبناء تحالفات بين هؤلاء والجماعات ذات التوجه التكفيري والسلفي الجهادي في قطاع غزة، ونسج علاقات تكاملية في التدريب وتهريب الأسلحة والذخائر بين الجهاديين والتكفيريين المصريين و«كتائب القسام» التابعة لحماس.

وأسهمت وحدة الفكر والانتماء الآيديولوجي في تقوية هذه العلاقات ذات الطبيعة العسكرية، التي تصور الرئيس مرسي، في لحظة معينة، أن هذه التحالفات العضوية المسلحة، ستكون السند لحكمه في مواجهة مؤسسات الدولة المصرية، خاصة الأمنية. وهذا ما عبر عنه صراحة في آخر خطابين له، نهاية يونيو الماضي، حين قال بأن البديل لحكمه هو العنف والفوضى وسفك الدماء، وكذلك تصريح القيادي الإخواني محمد البلتاجي الشهير في منطقة «رابعة العدوية»، حين كانت خاضعة لسيطرة ميليشيات الجماعة، يوم إعلان عزل مرسي، بأن العنف في سيناء، الذي بدأ في اليوم ذاته بعد فترة سكون طالت طوال فترة حكم «الإخوان»، لن يتوقف إلا بعودة مرسي إلى كرسي الرئاسة.

تحولات حماس مرة أخرى جاء عزل مرسي ونهاية حكم «الإخوان» لمصر، بمثابة كابوس ثقيل بالنسبة لحماس. فقد اختفى الحليف الكبير، وفشلت الخطط الخاصة بتغيير طبيعة القضية الفلسطينية، وأصبحت حماس وحيدة في مهب الريح. وبحكم قسوة الصدمة، تصورت حماس أنها عبر المواقف الدعائية الفجة ضد السلطة السياسية الجديدة في مصر، يمكنها أن تغير واقع الحال. لكن حماس، فشلت مرة أخرى في إدراك طبيعة التحول السياسي والشعبي في مصر، بما في ذلك عدم إدراكها معنى الإجراءات الأمنية والعسكرية التي تقررت فعلا، من أجل السيطرة الكاملة على الحدود مع غزة، وإغلاق الأنفاق تماما، وأبرزها دخول آليات عسكرية وأعداد كبيرة من الجنود وطائرات هليكوبتر، رغم القيود التي تضمنتها معاهدة السلام مع الجار الشمالي. كان رد فعل حماس غريبا ويعبر عن غياب الرؤية. فقد هددت الجيش المصري، وبثت دعايات سوداء ضده، لم تبث إسرائيل مثلها، ولوحت بتحركات عسكرية نحو الحدود مع مصر، وأنكرت التضحيات المصرية التاريخية للقضية الفلسطينية، ورفضت المصالحة مع السلطة الوطنية. كما رفضت أي جهد يبذل من أجل استعادة المفاوضات. وأخيرا، قررت إعادة فتح قنوات الاتصال مع إيران وحزب الله، لعل ذلك يعيد الأموال والأسلحة الإيرانية إلى سابق عهدها.

لكن الرد الإيراني الأولي لم يحقق المطلوب. فقد طلبت طهران اعتذار حماس عن تقاعسها في دعم نظام بشار الأسد، كشرط لاستعادة العلاقة معها. كما طالبتها بإعلان وقوفها ضد ثورة الشعب السوري. الغريب أن تحرك حماس جاء في ظل دعاية تقول إنها ما زالت في معسكر المقاومة الذي لم يعد موجودا أصلا.

 

* استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

اخر الأخبار