
حول إعادة تعريف "الإنسان" و "الوحش"

عبد الرَّحمن بسيسو
يتأسس مقترح قدَّمناه في مقال سابق، ويتعلَّق بالحاجة الوجودية الماسَّة إلى إعادة تعريف كُلٍّ من "الإنسان" و"الوحش"، على معطيات وحقائق مؤَّصلة تضمَّنها ذلك المقال، أو كانت مقالات، أو تبصُّرات، أخرى تناولت مسألة "العُنف العدواني" سبق نشرها في صحف ومواقع عديدة، قد أسهمت في بلورتها وتوضيحها على نحوٍ يُبيِّن مدى حاجة البشرية الحقَّة، والمُعذَّبة، إلى الوقوف طويلاً أمام مراياها، كي تتملَّى وجهها؛ فتحسن إدراك كينونتها الحقيقية، وتعيد تعريف نفسها: ماهيَّةً، وهُويَّةً، ورسالةً، ومغزى وجودٍ في الوجود!
ولعلَّ الحقائق والمعطيات التي بيَّناها بجلاء، أو التي ألمحنا إليها في تلك المقالات والتبصرات، أو التي يمكن لإنسان يعمل عقله أن يتبينها إِنْ هو أمعن في تأمُّل الأمر، ألا تفارقَ خلاصةَ تبصُّراتٍ وتحليلات علمية مؤصَّلةً مؤداها أنَّ العنف العدواني لم يكن يوماً، ولن يكون في أيِّ يوم، سمة فارقةً، أو خاصِّية ماهويةً، أو مكوناً جوهرياً ثابتاً في ما قد يُدْعَى بـ "طبيعة الإنسان"، وذلك على نقيض ما يراه أصحاب النظرية التي تقول إنَّ "العنف هو العلَّة الأولى" وأنَّه هو، وحده، ما يُفسِّر التَّاريخ البشري، وهي النظرية التي يتكئُ بعض المُؤدلحين اللاهوتيين وأضرابهم على مقولاتها ليتخذوا منها مُسوِّغاً لإدانة العنف بإطلاقٍ تعميميٍّ مُخلٍّ، ومن غير تبصُّرٍ أو تمييز بين أنواع العنف وأشكاله ومستوياته، وأسبابه ودوافعه، وأهدافه وغاياته، أو إدراكٍ لحقيقة أنَّ "الإدانة المُطلقة للعنف"، والتي قد تكون مسكونةً بدوافع إنسانية، سلمية ومسالمة، خالصة وصافية وصادقة، قد تُفْضِي إلى تسويغ الخُضُوع المُهين لمُمَارسي العنف العدواني المسكونين بجشعٍ لا ينتهي ولا يتناهى، وذلكَ على نحو يأخذ هؤلاء "الإنسانيين" المُسَالمين إلى ما يُناقضُ ما يسعون إليه من حفاظٍ على "إنسانيتهم"، أو ما يغمرهم من تلهُّفٍ لرجوع آخريهم، الموغلين في ممارسة العنف الأسود ضدَّ "آخريهم" من النَّاس، إلى "إنسانيَّتهم" التي ناقضوها تماماً تحت وطأة نزوع بهيميٍّ لإشباع جشعٍ لا يُشْبَع، أو لتلبية صُراخ غرائزَ بهيميَّة منفلتةٍ من كُلِّ عِقَال، أو لكليهما معاً!
قَدْ قِيلَ في تعريف الإنسان إنَّه "حيوانٌ عاقل"، كما قيلَ إنَّه "حيوانٌ سياسيٌ"، أو "حيوانٌ مُتمدِّن"، أو "حيوانٌ اجتماعي"، أو غير ذلك من عبارات توصيفيَّة توخَّت اقتناص السِّمه الفارقة ما بين الإنسان والحيوان، ولا نقول ما بين الإنسان والوحش؛ إذْ ليس للأخير إلا أنْ يفارق عالمي الحيوان والإنسان لحظة ذهابه إلى التَّوحش المسكون بنزوع جارف إلى توسُّل العنف العدواني لإشباع ذلك الجشع أو تلك الغرائز، فإنه لا يكونُ حيواناً ولا يكونُ إنساناً وإنما يتحوَّلُ، من فوره وفي صُلب كينونته، إلى كائنٍ استئثاري جحيميِّ الوعي والماهيَّة، والهويَّة، والجوهر، الدَّور، ودلالة الوجود، وذلك على الرَّغم من أنَّ تجلياته الظَّاهرة، وأشكال عرضه لنفسه بنفسه، أو من قبل صانعيه و"مُحوسليه" وأشباهه من مستخدميه ومُرَوّجي حضوره، في مرايا وسائل الإعلام ستتراوحُ ما بين أعلى درجات المعرفة التقانيَّة، واللُّطف والوسامة والأناقة، والدُّبلوماسية، وحسن التعريف بالنفس عبر إجادة انتقاء الألفاظ، وأدنى درجات الجهل، والخشونة، والقبح، و الفجاجة، والقذارة، والتَّوحُّش الظلامي الأعمى.
ولا يأتي ذلك كُلِّه إلَّا في سياق إدِّعاء زائفٍ، ووفق تراتبات هرميَّة ومصالح وأدوار يُوجبها السَّعي المحموم من قبل قوى التَّوحُّش الاستغلالي الاستعماري العالمي، وملحقاتها وتوابعها من القوى الاستغلالية والسياسية المحلية المُؤَجِّرة نفسها إليها، لإشباع ذلك الجشع الأسود حسب طبيعة الهدف المقصود، ووفق تصوُّرات أغبياء البشر منزوعي العقول ومؤجَّلي الوجود الإنساني، المجنَّدين ليكونوا أحطاب محارقِ إشباعِ ذلك الجشع، وبما يستجيب لمتطلَّبات شتَّى وسائل العنف العُدوانيِّ وأدواته الموظَّفة لإشباعه مع الإمعان في تعميقه وتوسيعه على نحو قد لا ينتهي ولا يتناهى!
تفصحُ الصُّور المتواترة في وسائل الإعلام، العديدة والمتنوعة والتي يخضع أغلبها للقوى الاستغلالية الاستعمارية العالمية وملحقاتها من القوى لمحلية المهيمنة، لأشكال حضور "المتوحشين" وتجليات حضورهم المتنوِّعة، عن توافرهم على "ثقافة" تتباين درجاتها من أعلى علوٍّ تقانيٍّ، أو علميٍّ، متاحٍ، إلى أدنى دناءةٍ ظلاميَّة لم يسبق تصورها؟!
ولكنْ، أيُّ نوعٍ من "الثَّقافة" و"التقانة" و"العلم" هو هذا الذي يتوافرُ عليه هؤلاء "المتوحِّشون "؟
وما الذي يجمعُ المخطِّطِين و"المُحَوسِلِين"* الوسيمين القاطنين أعالي ناطحات السَّحاب، بأحطاب المحارق "المُحَوْسَلِين"* من "أغبياء البشر" القابعين في دياميس كهوفٍ معتمةٍ بلا قاع؟! وما الذي يدفعُ الأخيرين إلى الانصياع لإرادات الأولين وتلبية أوامرهم؟ أهي ثقافةٌ مُشتركةٌ أم هو شيء آخر؟!
لعلَّ للتأمُّل في السؤال الأخير أنْ يعيدنا إلى بدء المقال، وأنْ يفتحَ المقترح الذي قدَّمناه على المدخل الوحيد الملائم، في هذا الزَّمن المتوحِّش، لإعادة تعريف كُلٍّ من "الإنسان" و"الوحش"، وما ذاك إلا المدخل الثَّقافي الذي سيخلص، فيما نحسب، إلى البحث في إمكانية تعريف الإنسان باعتباره "كائناً ثقافياً" وإلى تأكيد فرضيَّة أنَّ "الوحشَ"، وإنْ تجلَّي في هيئة "إنسان" أو بدا مرتدياً قناعه وهو يتوسَّل العنف العدواني المُدجَّج بالتِّقانة العالية والتوظيف الوحشي للعلم، إنما هو نقيضُ "الإنسان"، وهو لا يرقى، أبداً، إلى مرتبة "حيوانٍ" مُستأنس أو غير مُستأنس!
* الحَوْسَلة: مصطلح صكه عبد الوهاب المسيري للدلالة على عملية تحويل الكائن البشري إلى محض وسيلة، أو أداة، أو آلة. وهو إلى ذلك، مصطلح رديف، أو تعريب للمصطلح الإنجليزي: “instrumentalization”.