أمريكا عارية‏..‏ كل حلفائك غاضبون يا ريتشارد‏!‏

تابعنا على:   11:35 2013-10-28

عاصم القرش

نحن نتنصت علي العالم كله‏..‏ القاعدة هي أن الجميع يتجسس علي الجميع‏!‏ اتحاد العلماء الأمريكيين من أوله إلي آخره‏:‏ كان الصيف الماضي مسليا إلي أقصي درجة‏,‏ بالذات وهو يقدم للملايين فرصة استثنائية للسخرية ـ أو حتي التشفي ـ وهم يتابعون فصول الفضيحة الكبري لأمريكا
القوة الأولي في العالم, التي ضبطت متلبسة بخيانة أقرب أصدقائها وبالتجسس علي أسرارهم من ثقب الباب.. وإلي الحد الذي بدت معه هي نفسها بلا ورقة توت أمام كل العيون ودون أن تجد عذرا واحدا يسترها!
هكذا, وعلي امتداد أسابيع وأسابيع, انشغل العالم بسيل الوثائق السرية التي سربها إدوارد سنودن ـ المحلل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية, واللاجئ الآن إلي روسيا ـ ليكتشف الجميع كيف سمحت الولايات المتحدة لنفسها باختراق المئات من أجهزة الكمبيوتر في سفارات دول أوروبية حليفة, وكيف قامت بجرأة ليس لها حدود بالتنصت علي هواتف70 مليون فرنسي وبمراقبة الاتصالات والبريد الاليكتروني لزعماء35 دولة بما في ذلك التليفون المحمول الشخصي للمستشارة الألمانية انجيلا ميركل الصديقة المقربة للرئيس أوباما!
ولا أحد بحاجة لأن نذكره بأن أمريكاـ بكل تفوقها التكنولوجي وامكانياتها العلمية غير المسبوقةـ تستطيع بسهولة التقاط دبة النملة لو ارادت في أي بقعة علي وجه الأرض, وبصورة لم تكن متاحة لأحد غيرها علي امتداد التاريخ.( في فترة غزو العراق, كانت واشنطن تباهي بأن بإمكانها رصد نوع ومقاس الملابس الداخلية للرئيس العراقي الراحل صدام حسين!), وبرغم أن ذلك ليس سببا كافيا لأن يجعلها تتصرف علي أن العالم ملكية خاصة أو إرث لا يحتاج التعامل معه الي إذن من أحد.. فانها ـ كما تأكدنا الان ـ لا تستثني عدوا من فضولها, ولا حليفا مهما كان قربه, من سعيها لتعقب كل همسة وحركة ولا من الصور التي تلتقطها أقمارها الصناعية, المحلقة فوق الرؤوس, للعالم علي مدار الساعة وفي كل أوضاعه!
ليس هناك إذن عزيز لدي أمريكا. ونحن هنا في مصر نعرف مرارة هذه الحقيقة من تجارب عديدة معها, ربما كان أقساها عندما تنصتت علي اتصالات الرئيس السابق حسني مبارك في اكتوبر1985, فأرسلت مقاتلاتها لاجبار طائرة ركاب مصرية علي تحويل مسارها, وهي تحمل4 من مقاتلي جبهة تحرير فلسطين, كانوا قد سلموا أنفسهم إلي مصر بعد أن اختطفوا سفينة ايطالية للضغط من أجل اطلاق سراح أسري فلسطينيين في سجون اسرائيل.وقتها لم يهتم الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ولو لثانية بمشاعر مصر ورئيسها وتجاهل الحرج الهائل والشعور بالإهانة الذي سببه لحليفه.
الأوروبيون علي أي حال حاولوا ان يداروا المأزق الذي ورطتهم فيه الحليفة الكبري.. وبعد الصدمة والثورة والعتاب يبدو أن المصلحة غلبت الغضب. وأغلب الظن انهم لن يتوقفوا طويلا أمام نتائج الأزمة.. فالعلاقة مع الولايات المتحدة أهم جدا من أن تضيع بسبب مغامرة عابرة كهذه. وهم بتفكيرهم الواقعي يعرفون أن ما حصل قد حصل. وربما كانوا سيردون بطريقة أقل حدة لو أن المسألة كلها بقيت سرا, أو لو أن التجسس جري علي نطاق محدود.
مثلا: المستشارة الألمانية بدا علي السطح أنها لاتزال مستاءة برغم أن أوباما اتصل بها ليصالحها, و لكنهاـ عملياـ ترجمت ما تريده هي والرئيس الفرنسي أولاند الي تحرك سريع للدخول في تدابير أمنية مشتركة مع واشنطن لتنسيق انشطة جمع المعلومات, كما أعلنت رفضها لأي دعوات لتأجيل اتفاق التجارة الحرة المنتظر مع أمريكا حتي لا تفوت علي بلدها أي مكاسب! وبدورها فإن فرنسا التي تسلل جواسيس أمريكا إلي اتصالات وفدها في الأمم المتحدة لكي يستكشفوا مقدما كيف ستصوت باريس قبل اجتماع مجلس الأمن لفرض عقوبات علي سوريا.. خرجت لتؤكد علي استحياء ان الحفاظ علي العلاقات مع أمريكا يبقي هدفا لا يتغير ولكن بشرط استعادة الثقة!
في المقابل: فإن الحجة الجاهزة فورا لدي أمريكا هي ان لديها مصالح يجب حمايتها وأن المعلومات ـ أيا كانت طريقة الحصول عليهاـ مطلوبة جدا لمكافحة الارهاب, وبما في ذلك معرفة انشطة وخطط وقدرات ونوايا الأفراد والقوي والمنظمات الأجنبية وعملائهم في أي مكان. وربما لهذا رفضت الادارة الأمريكية حتي الان الاعتراف بأنها ارتكبت أي خطأ معتبرة أن ماتفعله هو تصرف عادي ومشروع وان الاخرين يفعلون نفس الشيء( الترجمة: ان الكل يتجسس.. فلماذا الغضب؟). وكان أقصي ما انتهت به الأزمة هو تطييب خاطر الاصدقاء مع وعد أمريكي بمراجعة طريقة وضوابط جمع المعلومات وايجاد توازن اكبر بين متطلبات الأمن واعتبارات الخصوصية.
بالمختصر نحن أمام حالة نفاق دولي بامتياز, فلا أمريكا مكسوفة بجد( أين حمرة الخجل؟) ولا أصدقاؤها مستاءون في الحقيقة.. وما جري انما يقدم دليلا اضافيا علي ما نعرفه بالفعل من أنه ليس هناك شيء اسمه الأخلاق في السياسة أو العلاقات الدولية, فضلا عن أن أي حديث عن قيم الانصاف والخير من ذلك الذي صدع به أوباما رؤوسنا في بداية رئاسته لابد أن يتراجع خزيا أمام لغة المصالح. المصالح أولا وعاشرا وأخيرا.
وبالمثل فإن الفضيحة تثبت لمن كانت تساوره أي شكوك أن أمريكا لم تفعل ما فعلته إلا لأنها واثقة أن بإمكانها مادامت قوية ومخيفة أن تعبث كما تشاء سرا أو علنا في غياب أي رادع أو معايير, وبصرف النظر عن سخط الأعداء أو ضيق الاصدقاء!
عن الاهرام

اخر الأخبار