في انتظار مصر

تابعنا على:   11:33 2014-05-29

جميل مطر

لم يحدث، حسب ما أذكر، أن ارتفع الطلب على مصر إلى حد يماثل أو حتى يقترب من حد الطلب الراهن . تجولت واستمعت وناقشت الموضوع على امتداد أيام عدة وفي مدن غير قليلة، وخرجت بانطباع أن مسؤولين كثراً متناقضي المصالح وممثلي قطاعات واسعة، وإن متنافرة، في الرأي العام العربي تأهبوا لهذه اللحظة، لحظة خروج مصر من عزلتها . قابلت في البلد الواحد من ينتظر مصر لغرض وغيره ينتظرها لغرض هو النقيض تماماً . وسمعت في البلد الواحد من يريدها متدخلة بقوة السلاح والأفراد المدججين به، وغيره يريدها مؤازرة بالوزن والحجة وحدهما . تحاورت مع محاورين بعضهم يتصورها وقد عادت مشحونة بروح الثورة على الفساد والقهر والظلم والتخلف، وبعض آخر يتمنى أن تنصر بعودتها أجنحة "الوضع القائم" على دعاة التغيير، متجاهلة صرخات الحرية والعدالة الاجتماعية.

أما هنا في مصر، فمن السهل أن نكتشف أن لهذا الطلب المتزايد على مصر مفعوله السريع على معنويات المصريين . هناك بالتأكيد شعور بالرضا أشبع كبرياء الكثيرين . بعض هؤلاء لم يستوعب بعد ضخامة الأعباء المترتبة على زيادة الطلب على بلادهم، أو يستوعب ويتغاضى . أفهم وأقدر . فقد شهد المصريون على مدى عقود جهود قوى متنوعة تسعى لإقناع مصر بالانزواء وراء حدودها . استخدمت الحصار تارة والضغوط تارة أخرى والمطاردة تارة ثالثة . وفي داخل مصر نشطت حملات تدعو إلى الانكفاء . أغلبنا ربما يذكر حملة قادتها أجهزة إعلام، أغلبها حكومية، هدفها نشر الكراهية بين المصريين لجيرانهم وأبناء أمتهم في الدين وفي الثقافة والتاريخ . وأغلبنا يذكر أيضاً هذا الكم الكبير من المقالات والكتب التي روجت للانعزالية، حتى كادت الانعزالية تكون عقيدة سياسية لنظام حاكم .

مازال كامناً الأمل في أن يخيب ظن المنتظرين عودة مصر إلى ممارسة أدوار كانت من نصيبها وخروجها من عزلتها فتفعل وتتفاعل . يعتقد بعض الحالمين بخيبة الأمل أن المصريين ارتاحوا إلى العزلة وسيحنون إليها، أو أنهم لن ينساقوا وراء سياسات أو دعوات تضمن تضحيات من أي نوع لفائدة أحد آخر أو جهة أخرى .

هؤلاء الحريصون على التمسك بالانعزال مطمئنون، يستبشرون باستنتاج مبسط تبسيطاً شديداً وهو أن مصر - المؤسسات والقانون هي التي قررت في العقدين الأخيرين عزل نفسها عن محيطها الإقليمي، وهي نفسها بنفس المؤسسات والقانون تعود الآن لتقود عملية الخروج من العزلة والاستعداد لممارسة دور في الإقليم .

أعتقد، وبثقة عندي ما يبررها، أن أمل دعاة الانعزال هو الذي سوف يخيب . قد يكونون على حق في الزعم بأن مصر عادت بمؤسساتها وقوانينها التي أسست للانعزال وقررته، ولكننا، وأقصد جحافل المتفائلين، نعرف أن هناك أسباباً أربعة على الأقل كفيلة لمنع مصر من العودة إلى تطبيق سياسات انعزالية . أول هذه الأسباب أن الإقليم الذي تعيش في قلبه مصر يمر بحال اضطراب، أو ثورة، أو فوضى، لم يسبق له أن مرّ بمثلها . ولا شك في أن أي قيادة سياسية مصرية لن تتردد في بذل الجهود الممكنة لتهدئة الحال في الإقليم لتحقيق أغراض شتى، ليس أقلها شأناً تهدئة الحال المضطرب داخل بلادنا . بمعنى آخر، تدرك هذه القيادة أن مصر لن تهدأ داخلياً ما لم يهدأ خارجها .

 

ثاني الأسباب، هي هذه الشواهد التي تدل على أن الإقليم مقبل على اضطرابات أشد، وعنف أشرس . لا ننسى، وإن حاول البعض أن ينسى، أن الظروف التي دفعت إلى الثورة أو الفوضى مازالت قائمة . بمعنى آخر فإن هذه الظروف إن استمرت على حالها ولم تتغير ستبقى عاملاً أساسياً في زيادة تدهور الأوضاع، وربما امتدت حال الاضطراب، ومنها الثورات، إلى دول لم تصل إليها بعد . لا أتصور أن قيادة مصرية حكيمة سوف تغفل عن هذه الحقيقة أو عن خطورة التهديد الذي يمثله استمرار تدهور الحال المضطرب في الإقليم .

ثالث الأسباب، أن لا أحد في الإقليم غير مصر، مرشحاً، الآن أو بعد شهور أو بعد أعوام، للقيام بالدور الذي تستطيع مصر القيام به . لا أحد استطاع خلال فترة عزل مصر أو انعزالها إعداد نفسه لهذا الدور، أو لعله مع غيره، حاولوا ولم تسعفهم الثورات أو الاضطرابات والفوضى . من ناحية أخرى، يبدو ظاهراً أن لا أحد أيضاً يريد أن يخرج من بين صفوف قوى "الوضع القائم" المنقسمة على نفسها ويتقدم للعب دور متعدد الوظائف أو لدور يدعمه تاريخ طويل من تجارب التدخل . كذلك لا يجوز أن نتجاهل حقيقة أن إشارات صدرت من قيادة جديدة في مصر تؤكد أن مصر اتخذت بالفعل قرار ممارسة دور أو أكثر والعمل بنشاط لسد بعض ثقوب الفراغ المستشرية في كافة أنحاء الإقليم .

رابع الأسباب، هو أنه حتى لو كانت القيادة لم تحزم أمرها أو عادت تتردد في تنفيذ قرارها، ولو تخلت الأطراف الإقليمية الأخرى عن نيتها "انتظار مصر"، فهناك في الإقليم وفي محيطه من التطورات ما سوف يضغط بشدة على مصر في النواحي كافة، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية لتستعيد دورها . الإرهاب هو بلاشك أحد أهم هذه التطورات، ولكن هناك أيضاً التهديد المتقطع باحتمال انفراط دولة عربية بعد أخرى بدوافع قبلية أو عرقية أو مذهبية، وهناك الثورات وتداعياتها التي لم تهدأ، والهجرات المتدفقة من إفريقيا ودول عربية مأزومة، وهناك شجرة قضايا وأزمات غاز شرق المتوسط وانتشار السلاح النووي، وتدهور البيئة والمسائل المتعلقة بالاستثمارات وضماناتها . هذه الأمور وغيرها لن تترك لقيادة سياسية مصرية رفاهة الوهم أو الحلم بأن تنعزل عنها فتنجو بمصر منها .

تراث مصر المعاصرة زاخر بالتجارب المفيدة عن ايجابيات أفرزتها أدوار إقليمية تحملت مسؤوليتها، وتدخلات متقطعة في شؤون دولة أو أخرى من دول المنطقة، ولكنه زاخر أيضاً بتجارب مفيدة عن سلبيات وأضرار جسيمة لحقت بهذا الوطن من جراء سوء أداء أجهزة في الحكم، أو بسبب غلبة العواطف، أو وهو الأهم، بسبب خلافات داخل النخبة الحاكمة . أفرزت هذه التجارب، من وجهة نظري على الأقل، شروطاً يجب الانتباه إليها والالتزام بها . أذكر من هذه الشروط ثلاثة .

أولها، أن تبدأ مبادرات السياسة المصرية في الداخل وليس في الخارج . المعنى واضح وهو أن لا تترك مصر لغيرها من دول الإقليم أو الدول الكبرى ميزة المبادرة في ترتيب خيارات مصر الإقليمية . المثال الواضح، هو الضغط الذي مورس على حكومة مصر في عهد الرئيس مبارك للدخول في حلف رباعي يضم مصر إلى جانب العراق والأردن واليمن . لم يدرك صانع القرار المصري أن الحلف مقصود به محاصرة دول الخليج العربي، وبخاصة المملكة السعودية . لم تبدأ مبادرة إنشاء هذا التجمع من مصر ولم تطلع عليها إلا متأخرة . وافقت عليها من حيث الشكل في ظرف سيئ واتخذت القرار في شأن جوهرها بأداء أسوأ .

ثاني الشروط، هو الأخذ في الاعتبار أن دوراً لمصر في الخارج، قد يستدعي درجة أو أخرى من المساندة العسكرية . بمعنى آخر هناك تكلفة لأي تدخل . ولكن هناك أيضاً وفي كل الأحوال حاجة ماسة لتطوير إمكانات مصر العسكرية بحيث تتماشى مع "الثورة العسكرية الجديدة" التي تستعد الولايات المتحدة الأمريكية لتبنيها في أعقاب عودة قواتها من أفغانستان، كما تبنت الثورة الأولى التي دخل بها الرئيس بوش الأب حرب العراق .

ثالث الشروط، وهذا أيضاً من أهم معالم تراث الأدوار المصرية في الإقليم . إذ إنه حين تتعدد وجهات التدخل الخارجي إما تحت دواعي الأمن القومي أو تحت نداء المصلحة الوطنية، وفي ظل موارد مادية كانت شحيحة وبقيت شحيحة وستظل شحيحة، يجب تفادي التورط في قضايا غير حيوية، والأفضل دائماً تفادي التدخل العسكري حتى آخر المدى بينما تجري الاستفادة من العوامل الأخرى غير العسكرية واستنفادها كاملة .

ينتظرون عودة مصر ويتسابقون على مكان أو مكانة تسمح لطرف قبل آخر بالحق في أولوية الاستفادة من هذه العودة وتعيين المطلوب . أما مصر نفسها فتبدو، على الأقل في واجهتها الرسمية، راضية ومستعدة للاستجابة . ومن ناحيتي أعرف أن هذه السياسة لها بريقها وجاذبيتها على المستوى الشعبي، ولكني أعرف أيضاً أن خصومها، في الداخل والخارج، جاهزون لإحباطها أو رفع تكلفتها.

عن الشروق المصرية

اخر الأخبار