تأثير الأيديولوجيا على الوعي

تابعنا على:   16:14 2018-10-22

مصطفى إنشاصي

كان ردي على اعتراض الدكتور على العمق التاريخي الذي يبرز جذور الصراع: أن المنهج المتبع في البحث والدراسة لدينا غالباً لا يركز على الجذور في دراسة أي قضية لها علاقة بالصراع مع الغرب والعدو الصهيوني، ولكنه سطحي يتناول الجذور القريبة الظاهرة والمعروفة للجميع، وذلك يُفقد أي دراسة عمقها التاريخي المطلوب، فتأتِ الدراسة ونتائجها سطحية، وتقدم رؤية غير عميقة وغير دقيقة للصراع، وذلك ما أوصلنا إلى الحال التي نحن عليها اليوم! تركيزي وإصراري على إبراز العمق التاريخي في أبحاثي ومقالاتي ومحاضراتي لم يأتِ من فراغ ولذلك قصة:
سنة أولى جامعة
نهاية عام 1977 في شهر تشرين الثاني/نوفمبر سافرت دفعتنا للدراسة في مصر، وتلك الفترة كنا بحكم الاحتلال وعدم اتصالنا بالعالم الخارجي، ولم تكن الكتب الثقافية متوفرة إلا الروايات والقصص الأدبية للأدباء المصريين غالباً، ومجلات مثل الشبكة والموعد وما على شاكلتهما وهي مختصة في الفن والفنانيين، لا نفهم في سياسة ولا فكر ولا القضية إلا القليل، وفي المرحلة الجامعية القليل الذي كان يهتم بالقراءة وتثقيف نفسه، وغالباً كان الطاغي تلك العقود على الفكر والثقافة الجانب العلماني، وبحكم علاقتي بتنظيم حركة فتح آنذاك من خلال بعض منشوراتهم التنظيمية والحركية الثقافية التقطت كم معلومة عن كيان العدو الصهيوني وعن الثورة وكنت أعتبر نفسي مثقفاً وواعياً وأفهم عن غيري، مثل:
الكيان الصهيوني هو القاعدة المتقدمة للأمبريالية العالمية .. الكيان الصهيوني هو طليعة أو رأس الحربة للهجمة الاستعمارية الغربية .. الكيان الصهيوني هو أداة الاستعمار الغربي .. الحركة الصهيونية حركة سياسية علمانية لا علاقة لها بالدين، وهي صناعة غربية لخدمة أهداف الاستعمار الغربي في وطننا، استغلت الدين لتسخير اليهود خدمة للمشروع الغربي الاستعماري (يعني عملاء للمخابرات الغربية) .. أننا لا نعادي اليهودية كدين ولكن نعادي الصهيونية السياسية .. ليس كل الصهاينة معادي لأماني الشعب الفلسطيني ولكن الصهاينة اليساريين والتقدميين يختلفون عن الرجعيين والمتدينين المتطرفين ويؤمنون بحقنا في دولة وعلينا أن نتحاور معهم ...!
وعن الثورة: كنا نفاخر بفتح ديمومة الثورة.. الانطلاقة والطلقة الأولى .. والكفاح المسلح الوسيلة الوحيدة للتحرير .. وفلسطين من النهر إلى البحر .. وبطولات معركة الكرامة .. والدولة الفلسطينية الديمقراطية لكل مواطنيها مسلمين ونصارى ويهود يتساوون فيها في الحقوق .. وبمعرفتنا بالبرنامج السياسي والنقاط الذهبية العشرة، ومنها أننا سنقيم دولتنا على أي جزء محرر .. وفي عام 1977 اعتمد المجلس الوطني مبادئ جديدة في دورته منها ضرورة الاتصال باليهود التقدميين في الكيان الصهيوني وإقامة علاقات معهم .. ونفاخر بمعرفتنا بأن البندقية المسيسة صانعة الانتصارات .. وفي المقابل كان يصل للبعض من خلال أقارب أو معارف لهم علاقة بالثورة أو تركوها لأسباب مختلفة بعض المعلومات عن الفساد المالي والإداري والانحراف اللا أخلاقي فيها وأمور سلبية أخرى كانت تشكل صدمة لنا ونحن الذين نظن أننا على أبواب التحرير ...
وإن بحثت عن كتاب لقراءته لتثقيف نفسك عن فلسطين والحركة الصهيونية تشرأب عنقك بفلسطين التاريخية من النهر إلى البحر ومن رأس الناقورة أو جنين إلى رفح حدود تاريخية ..! وعن البطولات في المعارك السياسية التي خاضها مَنْ سبقنا لتحرير فلسطين متكلين على العرب المتكلين على الصديقة بريطانيا .. وعن المعارك والثورات التي ما أن تنطلق سرعان ما تتوقف لهدنة أو تهدئة لإعطاء فرصة لهذا أو ذاك .. لتسهيل مهمة هذا أو ذاك .. أو وعد هنا أوهناك ... وأخيرا ًنفيق على ضياع فلسطين على أيدي الجيوش العربية وتمكن العصابات الصهيونية من إقامة كيانها على أرضنا وتشريدنا وتهجيرنا ...
بداية الوعي
بداية حياتي كنت شاباً مثل كثير من الشباب الذين لم يعرفوا باب المسجد في حياتهم إلا قليلاً، وكنا نصلي في المناسبات فقط، وفي نهاية عام 1976م سافرت من فلسطين إلى مصر لألتحق بالجامعة وأبحث عن التنظيم للتحق به، وفي عام 1977م حضر إلى القاهرة ابن عم لي لمناقشة رسالة ماجستير في الطب وقد كان ملتزماً إسلامياً، وقد حرص على نصحي بالصلاة والالتزام وقد بدأت أستجيب له. وعندما حافظت على صلاتي وبدأت أقرأ وأثقف نفسي في الأمور الدينية قمت عام 1978م بداية شهر رمضان بإهداء المصحف الشريف لمسئولي التنظيمي في حركة فتح، وعندما عدت لزيارته بعد أسبوع وإذا به يقول لي: تعالى هان!
فشعرت أن هناك أمر هام. قلت خير؟ قال: وأنا أقرأ في المصحف الذي أهديته لي وجدت آية تقول: أن الله تعالى كتب الأرض المقدسة ـ فلسطين ـ لليهود؛ يعني الأرض بنص القرآن لهم، يقصد قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة:21). حاولت أن أصحح له بمعلوماتي المتواضعة آنذاك أن كتب ليس معناها: أن الله جعل الأرض لهم، وأن حق اليهود في فلسطين سقط مع ظهور الإسلام وعدم إيمانهم بالرسول صلَ الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يقتنع، وقد فشلت في توصيل ما أريد لقلة معلوماتي عن ديني وإسلامي.
ولأن طبعي الجدية وأكره الفشل .. بعد خروجي من عنده قضيت أسبوعي في قراءة التفاسير المتعددة، بحثاً عن كل ما له علاقة بهذه الآية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، وأسال من هم أكثر مني علماً في الأمور الدينية. إلى أن استطعت في زيارتي التالية أن أفسر له معنى الآية تفسيراً صحيحاً، وأن أوسع دائرة الحديث ليشمل بقية الآيات ذات العلاقة بالموضوع وبعد أن انتهيت.
قال: الذي ذكرته حول موضوع حق اليهود الديني في فلسطين وسقوطه عنهم، لا يوجد لدينا في التنظيم شيء مكتوب عنه، وأنا على قدر قراءاتي ومعرفتي أول ما قرأت الآية كدت أفهم منها أن الله كتب فلسطين لليهود، وأنه لا حق لنا فيها، ما رأيك أن تكتب هذا الكلام وتحوله إلى ملزمة (مذكرة)، ونرسلها للأخوة في التنظيم في لبنان يعتمدوها من ضمن سلسلة الأدبيات وكراسات الإعداد والتربية لأبناء التنظيم. وعاد وقال: اعتبر هذا أمر تنظيمي، تكليف، أن تعد لنا بحث عن هذا الموضوع. قبلت بالتكليف الذي كان مثابة تحدي صعب لي، فأنا معلوماتي قليلة ولست باحثاُ ولا كتبت أبحاث قبل ذلك، والأمر عظيم وليس هين، له علاقة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأنا في بداية التزامي، وكنت أخشى الدخول في أمر شائك كهذا.
وقد قضيت شهور طويلة وأنا أتنقل بين مكتبات القاهرة فقد مسحتها مسح، وكذلك الأزبكية وقد كانت سوق كتب مفروشة على الأرض تجد بها كتب قيمة لا تجدها في المكتبات. وأنا أجمع كتب وأبحث عن غيرها، وأتصفح ما اشتريه سريعاً لأحصل على أسماء كُتاب وكُتب لانطلق أبحث عنها، وبعد القاهرة انتقلت إلى بعض المحافظات أبحث عن كتب كادت تندثر أو مخزنة في مخازن المكتبات من سنين طويلة تم نسيانها ولم تعد تتداول.
لاكتشف في النهاية أن الثورة لا تمتلك مشروع تحرير، ولا رؤية صحيحة عن حقيقة الصراع مع العدو الصهيوني، لأنها بنت رؤيتها على قراءة منهجية خاطئة، اعتمدت الأيديولوجيا وقراءتها الانتقائية، أساساً لوضع تصور عن حقيقة الحركة الصهيونية والصراع كله ..! اكتشفت أن عالم الحقيقة لا يوجد في ما يُقال أو يُسمع أو يُقرأ بين أيدينا، الذي ينقل فيه اللاحق عن السابق دون الرحوع إلى المصدر! ولكنه هناك في الكتب التي لا تُرضي كثير من حملة الأيديولوجيات الحديثة، ومن أتباع التنظيمات التي حددت رؤية وموقف عقائدي مسبق من اليهود ولا تريد تغييره، لذلك لا تشجع على نشر مثل تلك الكتب – لقد وجدت في القراءة متعة منقطعة النظير خاصة وأنا أكتشف كل يوم الجديد، إلى درجة أنني أصبحت أنسى كتب دراستي الجامعية.
وبعد أن كنت أبحث في التفاسير وكتب الأحاديث النبوية وقليل من كتب إسلامية لها علاقة بالموضوع، وجدت نفسي أغوص في عالم الفكر والسياسة والتاريخ وغيرها لأنسى في النهاية البحث المكلف به، لقد ضعت في عالم المعلومات الهائل عن فلسطين وتاريخها والرؤى المختلفة للصراع وأبعاد الهجمة والتحالف اليهودي – الغربي ضد الأمة والوطن. لاكتشف أن الحقيقة الواحدة حول الصراع وبُعده الرئيس جعل لها المنهج العلماني ألف وجه، وكل كاتب أعطاها الوجه الذي يخدم توجهاته الفكري والأيديولوجي فقط. وغيب الحقيقة!
لقد وجدت أن الكتب المتداولة والمنشورة قد ذكرت معلومات وأقوال وأفعال لليهود والغرب قادة ومجتمعات، وحللوها ووضعوها في سياق يقنعك أنها هي الرؤية الحقيقية، في الوقت الذي استبعدوا فيه كل ما يدل ويؤكد على استقلالية المشروع اليهودي والهوية الدينية للحركة الصهيونية. وعن الغرب الصليبي كذلك وأن المستهدف في وطننا هو الإسلام في البداية والنهاية، لأن ذلك يتعارض مع توجهاتهم الأيديولوجية والفكرية ويناقضها.
لذلك توجهت منذ ذلك الوقت للتأصيل للصراع وقضاياه وعدم القبول بأي رأي إلا بعد تمحيصه. لقد كان ذلك التكليف التنظيمي نقطة الانطلاق التي أضاءت لي عالم الحقيقة عن أبعاد الصراع مع اليهود والغرب، وكشفت لي الكثير من الحقائق التي كنت أجهلها عن حقيقة الصراع كله، ولماذا هؤلاء الكتاب العظماء في نظري قبل أن أعرف ما عرفت يرفضون الاعتراف بالأبعاد الدينية في الصراع؟ كما بدأت أكتشف واقع القيادة الفلسطينية الحقيقي وإلى أين تسير بنا.. الخ. لقد مثل ذلك التكليف نقطة التحول الرئيسة في حياتي نحو الإسلام الحقيقي.
وقد وضعت بحث حوالي (60) ورقة فورسكاب على الوجهين كعناوين رئيسة وفرعية مع كم سطر تحت كل عنوان لتكون مسودة كتاب أتفرغ لكتابته في المستقبل عن أبعاد الصراع وجذوره التاريخية الدينية، وصححت فيها كثير من المعلومات التاريخية عن تاريخ فلسطين التي كتبها مؤلفيها متأثرين بالروايات التوراتية عن تاريخ فلسطين وشعوب وطننا كله. ولكن شغلني العمل التنظيمي وتثقيف وبناء نفسي فكرياً وبعدها التفرغ للعمل التنظيمي والعسكري في لبنان.
بعد خروجي نهاية عام 1983 من الأسر أثناء الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 ووصولنا إلى معسكر الثورة في ولاية تبسة شرق الجزائر حولت غرفتي ومكتبتي الشخصية إلى مكتبة عامة، ولأني كنت كثير النقد والانتقاد لكل أخطاء الثورة في عام 1985 رداً على تمردي وخروجي عن السيطرة تم تعيين موجه ثقافي لقوات القسطل غيري! وبعد مقالة مستفزة عن تاريخ فلسطين كلها مغالطات تاريخية ومتناقضة كما هي الكتب التي يتم النسخ عنها، نشرها الموجه الثقافي الجديد في مجلة الحائط، وقد راجعته في أخطاء المقالة ولكنهم حرضوه على عدم إزالتها! فما كان مني إلا أن كتبت مقالة بمعلومات صحيحة ولصقتها على زجاج المجلة فوق مقالته مباشرة لتحجب قراءتها، وقامت الدنيا في المعسكر ولم تقعد! وأرسلت لقيادة المعسكر مع بعض مَنْ راجعني في ما فعلت أنه لو رفعوا مقالتي عن الزجاج سوف أحطم المجلة كلها! ومن فضل الله كنت مهاباً فلم يجرءوا على رفعها.
بعدها قررت أن أكمل ما بدأته أيام الدراسة الجامعية وإعداد كتاب عن أبعاد الصراع المختلفة، ولأني ترك الأوراق التي سبق كتابتها والمراجع كلها هي مكتبتي في مصر ولأسباب كثيرة لم يتم المحافظة عليها، بدأت السفر والتنقل داخل الجزائر بحثاً عن كتب في المكتبات، وغالباً لدى المدرسين الفلسطينيين لأنه لم يكن هناك كتب كثيرة في المكتبات، وأوقات كنت اسافر ما لا يقل عن 3000 كيلو فقط لأستعير كتاب من مدرس ما، فالجزائر شبه قارة!

اخر الأخبار