البابوية المتجددة والإسلامية المتجمدة

تابعنا على:   12:39 2014-05-26

مروان صباح

أين كمنَتْ القوة الخفية لكارول جوزيف ، بولندي المولد ،عندما صنف الرجل كواحد من أقوى عشرين شخصية في القرن العشرين ، فالبابا الكاثوليكي الذي كسر الاحتكار الإيطالي للحبر الأعظم في أكتوبر 1978 م ، أُعتبر من أهم الشخصيات التى أسقطت النظام الشيوعي ، عامةً ، في الدول الشرقية وعلى وجه الخصوص في بلده بولندا وكذلك كان الفعل التحريضي لديه واضحاً من خلال سلسلة محاضرته التعليمية ، كما أنه لم يترك الجانب الأخر من الانتقاد الصريح ، ل سياسة الغرب الرأسمالية المتوحشة ، إلى ذلك الجزء المتصاعد في التوجه والإرشاد ، حيث ، أدخل العديد من الإصلاحات في عهده ، منها ، كان له الفضل في ترميم وإعادة بناء العلاقة المتأثرة عبر الحروب الأخيرة بين الإسلام كديانة والأرض كجغرافيا ، مطموع بها ، لكن ما أستوقف البشرية وأصاب قلوب الأغلبية ، ليس فقط ، المسيحيين ، بل ، غيرهم من أصحاب اعتقاد أو لا اعتقاد ، فالمسألة أبعد من ذلك البعد الذي أشتهر به كونه عرف بكثرة التنقل بين العواصم او لأنه امتاز بجمع لغات متعددة منها الإيطالية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والروسية والكرواتية إلى جانب البولندية لغته الأم أو لأن كما جرت العادة ، أين يحلّ ، تحل ، بعض المشاريع الخيرية كعرف كنسي ، إلا أن ، ما توقفت عنده الشعوب باختلاف تكويناتها كان عند ذلك الأثر المتروك بينهم حتى الآن ، حين تغلب على ذاته وتجرد من التمحور وقام بالعفو في ذروة المقدرة بعد قيامه بزيارة المواطن التركي محمد على أغا خلف القضبان الذي حاول عام 1981 م قتله ، دون أدنى شك ، تكمن محبة الحبر الأعظم بولس الثاني ، في قلوب وعقول الناس كون تعامل مع من استهدفه برصاصات قاتلة بإنسانية سامية وبصراحة عصيةُ التكرار لمن يجهل ابعادها ونتائجها الايجابية ، حيث ، قلة من البشر قادرة على تداولها ، بالطبع ، لم تكن الجموع البشرية ملمة وذات تخصص عميق بما احدثه البابا على صعيدين الانفتاح والإصلاح وبين التمسك والتشبث ، فقد اسقط في مسيرته دون تردد عدداً وافراً من التقاليد والعادات البابوية على بنية القداس الإلهي ، مقابل ، رفضه للمدنية اليبرالية الحديثة ، عندما وقف بوضوح ضد وسائل منع الحمل الاصطناعي والإجهاض والموت الرحيم وسيامة النساء ككهنة ، هذا إن دل ، في الأرجح يدل على المعرفة العليا ، الكامنة ، التى افرزت في عهده جدليات حرر بعض الإضدادات من العزلة ، لأنه باختصار استند الراحل على القداسة الشاملة .

سبحان الله الذي يغير ولا يتغير ، شهدت المسيحية ، عامة ، والبابوية ، خاصة ، انفتاحاً واسعاً حتى شملت رأس الهرم ، ولم يعد هناك احتكار لهوية الحبر الأعظم التى اقتصرت سابقاً على جغرافية معينة ، بل ، اتاح التجدد مجالاً لمن يمتلك أكثر كفاءة وعلماً وتأثيراً أن يتقدم إلى كرسي الرسول بعد أن يستدعي عمدة مجمع الكرادلة العالم أجمع للحضور إلى روما على وجه السرعة وبعد خمسة عشر يوماً من وفاة البابا يجتمع المجلس الكرادلة وتغلق الأبواب وتبدأ عملية الاقتراع التى تنتهي بترؤس ، المنتخب ، لدولة الفاتيكان ، المشتقة من العالم الغربي منذ عام 1920 م ، هي ، بمثابة رمز لاستقلال الكرسي الرسولي ، بعد ثورات عنيفة وجدت الدولة ضرورة التخلي عن الإدارة المدنية وانحصارها بأمور الدين والقضايا المتعلقة بالأخلاق .

وبعيداً عن التغني التقليدي والامتطاء فوق تاريخ اسلامي معلق دون أن تكون هناك طرقات استمرارية ، استكمالية ، بل ، هو واقع متجمد بفعل وبفضل تجمعات ومجالس علماء مسلمين ارادوا للعصر الحديث أن يكون خالي من أي حراك تجددي ، على الرغم ، ان تركيا وإيران يسجلان أقل ضرراً بين مسلمين العالم كون التعاطي مع المسائل التجديدية كانت تلبي احتياجات الحداثة والمعاصرة ، فكان التجنب واضح المسير الذي عالج الإخفاقات بمهارة ملفتة ، لهذا ، كان لها أن تأتي بمتغيرات جوهرية في قمّ والنجف ، اختلفت اداءها ونمط تفكيرها مغايراً لما هو واقع في حق الجغرافيا العربية ، حيث ، تجد أغلبية العلماء في إيران ، تجديديين ، يتمتعون بإلمام وشمولية تصل إلى ملامسة التنوع المعرفي ، بالإضافة للعلوم الفيزيائية أو الكيميائية والفلسفية ، ناهيك عن اللغات التى يتقنوها ، فهم دارسين بشكل معمق للفلسفة الغربية القديمة والحديثة دون أن ينقطعوا عن الدراسات العلمية المتطورة ، وهذا ، يتطابق بالفعل وربما بطريقة أرقى في المربع التركي ، حين نجلب نموذجين ، الأول ، نجم الدين اربكان مؤسس الخط السياسي الإسلامي ، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة ( أخن ) الألمانية في هندسة المحركات 1956 م كما درس التربية الروحية إلى جانب الدينية التى تلقاها من علماء معروفين ، اشتمل ذلك أصول الفقه والعقائد ، وأما الثاني ، محمد فتح الله غولن أو جولاني ، مؤسس النهج الإسلامي الاجتماعي في تركيا ودول أخرى بالعالم ، درس وتلقى التربية الروحية والدينية على أيدى أهم علماء العصر ، من أبرزهم عثمان بكاش ، الذي كان من أبرز فقهاء عهده ، كما درس ، أيضاً ، النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد ، ولم يهمل دراسة العلوم الوضعية والفلسفة ، حيث ، توسع بدراسة الثقافة الغربية وأفكارها وفلسفاتها ، بالإضافة إلى الفلسفة الشرقية وتابع قراءة العلوم كالفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وعلم الأحياء باهتمام ملحوظ ، لقد تحول الرجل بهذا النوع من العلم والمعرفة إلى سفير متجول في البلدان التى انتشرت مدارسه البالغ تعدادها ألفي مدرسة وعشرين جامعة متميزة في مختلف التخصصات ، منتشرة في تركيا و 6 قارات ، بواقع 160 دولة في العالم .

الحقيقة الثالثة والكبرى تقول بأن ، بنية النظام الديني للمؤسسة التعليمية العربية انقسمت إلى ثلاثة مدارس نتيجة انتقال إدارة الدولة بين العواصم التالية ، بلاد الشام بما فيها القدس ، كما هو معلوم ، انتهى دورهما نتيجة الاحتلال والانقسامات المذهبية ، عميقة التأثير سلباً ، وما تبقى من مدارس قائمة وذات شهرة ، الأزهر والحرمين الشريفين ، المدينة ومكة ، وبالرغم من إرثهما الهائل وتاريخهما الطويل والمتواصل ، إلا أن ، يضربهما كسل من نوع ثقيل ، بالكاد من يلتحق بهما وينهي تعليمه الفقهي ، يتعرف جزء يسير من الكلّ دون أن يُحدث المرء تواصل ونمو طبيعي للذات التى من خلالها يُفترض أن تؤهله دخول بوتقة الحضارات ، يفيد وستفيد ، إلى أن تتحول جامع وحاشد لعدة مكونات يرتفع الدارس إلى درجة ، عالم ، قادر على الإفلات من تراكمات قد ترسخت عبر العقود ، حاصرت من يقع تحت شروطها ، لكن الأصل ، أن واقع انتساب المرء إلى الأزهر وما شابه هذا الصرح التعليمي في حقيقته المجردة ، ليس له ، سوى هدف وغاية واحدة ، هو ، البلوغ مرتفعاً شاهقاً ، يُمكنّ لمن اعتلاه أن يطل على ما انتجته البشرية على مدار الحياة من افكار خارج حدود الحاجز الدماغي للفرد ، إلا أن ما يحصل ، تماماً العكس ، لما يتدفق من أبوابها شخصيات اشكالية تطل برأسها على سطح المشهد التوعية والإرشاد ، وبالرغم ، من هذه الحقيقة المندرجة ضمن التوثيق التاريخي ، بأن الأزهر يعتبر من أقدم الجامعات في العالم ، تم إنشائه منذ حوالي ألف سنة ، حيث ، شيده جوهر الصقلي عام 970 م ولاحقاً ، اطلق عليه المعز الدين الله بالأزهر تيمناً بفاطمة الزهراء ، لكن ، هناك جملة تراجعات ذهنية جعلت المشروع متعثر القيام بمهمته الأساسية ، بل ، تحول إلى كيان مقدس يمنع الاقتراب منه أو السماح لمن خارجه ، حتى من في داخله ، تقديم أي حلول جوهرية تساعد في معالجة التعثرات والمراوحة التى نفذت طاقتها وبات المشهد خارج الزمان .

كل ما يراه المسلم من مشاهد على سطح المسرح السياسي العربي ، هو ، نتاج المؤسستين الدينتين الرسميتين ، بغض النظر عن المبررات التى يمكن أن تقال او تدافع عن التنميطات السائدة ، وقد يكون إن لم يكون مؤكداً ، بأن الاقتصار الحاصل على فئة معينة من العلماء ذات طابع وطني دون إتاحة المجال لمن خارج الحدود ، بالدخول والتفاعل ، تبقى المسألة يتيمة ولن تخرج عن سياقات الحاضر المزري ، ما تحتاجه المؤسستين ، بالفعل ، إلى انفتاح يجردهما من الهوية الفرعية وصيغة التشرنق كي يتدافع من لديه العلوم المتنوعة والكفاءة النادرة ، المشهود لها والقابلة إلى تطوير من حولها بالقدر التى تحاكي المعادلات والمسائل العالقة منذ زمن بعيد .

ليس صحيحاً أن تحتفظ المؤسستين المصرية والسعودية بطابع انتاجي ملحي ، حيث تكتفي بما لديها من علماء ذات هوية محلية دون الانتباه للحجم والتصنيف الدولي التى تحظيان بهما ، فالمسلمون وغيرهم ينظرون إليهما بأنهما مرجع عالمي ، لهذا لا بد من مراجعة نقدية تنقيبية للقوانين الداخلية من أجل إحداث تغير جوهري للنظام القائم ويتيح لهم الانتقال إلى طريق ينّتخب بها علماء الأمة من هو أعلم وأكفاء بحيث تشمل الانتخابات جميع من يتقدم من علماء خارج حدود البلدين ، ومن المفترض إخضاع تلك الدوائر ذات اختصاص إلى مثل هذا الفعل دون تمييز ودون اقتصارها على رأس الهرم حتى لا تتحول إلى رمزية منزوعة من التأثير العضوي .

آن الأوان وبمعزل عن النعيق فوق الاطلال ، مراجعة المناهج التعليمية القائمة بطريقة تليق بالعصر الحديث وتطوراته المتسارعة ، حيث المطلوب ، أن تمتزج المناهج الأصيلة بإضافات فلسفية تساعد إلى رفع كفاءة الفرد وآفاقه مع ضرورة تمتع العلماء باختصاصات علمية كالفيزياء والكيمياء وتعدد اللغات وبالتالي تتيح للوعي تفنيد الأفكار المطروحة التى تعج بالسوق الفكري ويسمح للوعي المصقول تحديد الاختيار الأصح منها ، وكما يُسهل ذلك الانتهاج ترجمة الأفضل على الدوام بما ينعكس على المجتمع بالارتقاء ، هذا ، تماماً ما كان يتمتعون به الصحابة ، من ملكات تنامت وشكلت حضور كثيف في العصر الجاهلي وشهدت تطورت ما بعد الرسالة المساوية ، حيث ، تنوعت قدراتهم وأحياناً اجتمعت بفرد كعمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه ، فهو احد أهم سفراء العرب وواضع المسودة الدبلوماسية للدولة الإسلامية تماماً كما وضع مسودة القضاء وغيرهما من ركائز تصل معالمها إلى يومنا هذا .

والسلام

كاتب عربي

اخر الأخبار