«أتاتورك» في مكتب الخلافة!

تابعنا على:   11:48 2014-05-11

أمل عبد العزيز الهزاني

في وقت تكثر فيه المغالطات والادعاءات والشعارات المزيفة والفوضى في المعلومة والإعلام، من الطبيعي أن نشهد عودة إلى التراث، واستدعاء للأساطير، وركونا إلى أحلام اليقظة.

ينتاب العالم العربي - الإسلامي منذ عامين حالة «نستولوجيا» أو حنين إلى الماضي، والتوق لعودة الخلافة الإسلامية بكل أفكارها وأدبياتها وثقافتها. بيد أن الغاية ليست أي خلافة، بل تلك التي تبدأ من حيث انتهت الخلافة العثمانية التي حكمت شطرا واسعا من العالم الإسلامي لما يربو على ستة قرون، وقضت بهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

هذا الإفلاس من الحاضر، واليأس من المستقبل، دفع بشريحة من العرب المسلمين إلى الدعوة لإحياء الخلافة الإسلامية، التي يرون فيها منجاة لهم، بعد أن تاهت هويتهم، وفقدوا القدرة على الانتماء إلى أوطانهم التي يعبر عنها في القانون الدولي الحديث بكلمة «الدولة»، مما جعل رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان مرشحهم لتولي كرسي الخلافة. هو أملهم المعقود، يرون فيه القدرة على توحيد «الأمة» الإسلامية لتكون قطبا سياسيا واقتصاديا، مقابل القطبين الإيراني والإسرائيلي. هذه الأمنية الواعدة لا تعتمر صدور هؤلاء وحدهم، بل ربما شاركهم فيها الرجل نفسه، بعد أن بلغ الإخوان المسلمون في مصر مبلغ الحكم، وتحالفت معه حركة حماس وغيرها. هذا التحالف كان بادرة لمشروع أممي جديد بمباركة الحالمين بطربوش الخلافة العثماني في الخليج واليمن والشام وشمال أفريقيا.

وحيث إن الحديث عن ذكريات الماضي، فعلينا أن ننصف أنفسنا، ونأتي بالتاريخ بوجهه الحقيقي، لا وجهه المخضب بالألوان الزاهية.

ماذا فعلت دولة الخلافة العثمانية بالمسلمين العرب؟

خلال الثلثين الأخيرين من فترة الخلافة العثمانية، استمات مركز الحكم في الدولة العثمانية، أو ما سمي بالباب العالي، للاستيلاء على النصف الجنوبي من العراق، الذي كانت تسكنه عشائر «المنتفق» لقرون مضت. و«المنتفق» اتحاد لعشائر عربية نزحت من الجزيرة العربية، من نجد والحجاز والساحل الشرقي، تزعمها آل السعدون الذين قدموا من الحجاز لما يربو على أربعة قرون. سنوات طويلة قاومت فيها إمارة «المنتفق» العربية ببسالة غزو الفرس والأتراك العثمانيين ثم الإنجليز لاحقا، وكانت مفخرة عربية بمعنى الكلمة لاتحاد عروبي عشائري لم ينحنِ ولم يستسلم. ولم يتفكك هذا الاتحاد ويتهاوَ إلا بعد أن مارس العثمانيون الذين كانوا يحكمون بغداد والنصف الشمالي من العراق سياسة «فرق تسد» داخل بيت الحكم، وبالنهاية، بدأ الأتراك باستقطاع مناطق من العشائر العربية، وضموها للأمر العثماني حتى دانت لهم الإمارة، ثم انهارت في الحرب العالمية الأولى، بعد قتال ضارٍ مع البريطانيين استمر أربع سنوات.

أما في سوريا ولبنان، فانطلقت «الثورة العربية» من الحجاز ضد العثمانيين، إثر المجازر التي ارتكبها الوالي جمال باشا، القائد العسكري العثماني الملقب بالسفاح، وتنفيذه لسياسة التجويع والتعذيب، حتى أصبح القمع التركي للعرب في بلاد الشام درسا لمن أراد اكتساب فنون التعذيب الوحشية. وإن كانت تركيا وقتها مليئة بالمساجد التي يذكر فيها اسم الله، كما يذكر، فبيروت ودمشق فيها ساحات أطلق عليها اسم ساحات «الشهداء» بسبب المجازر العثمانية للشباب العربي والمفكرين والمثقفين العرب. الواضح أن عدد أبنية المساجد لا يشير بالضرورة إلى تقوى أهلها، وإلا لشفعت الألف مئذنة في الجزائر للأبرياء الذين قتلتهم الجماعات الإسلامية بوحشية، قبل 20 عاما.

وفي الجزيرة العربية، وتحديدا في منطقة نجد، كانت الاعتداءات العثمانية في بداية القرن التاسع عشر، شهادة على بطش اليد وجرأة السطوة العثمانية، اشتعلت بسببها حرب قاسية دامت ثلاث سنوات، هلكت خلالها أسر نجدية أنهكتها هجمات الغزاة وفرقت شملها. وفي تعداد مواقف الدولة العثمانية ضد المسلمين العرب.

هذا سرد تاريخي موجز وعلى عجل لفظاعات الأتراك ضد العرب، ليس في السنوات الأخيرة من حكم العثمانيين، كما يدعي المنافحون عن أمر الخلافة، بل في معظم فترات حكمهم.

أما بالحديث عن الحاضر، فلا بد من التذكير بأن الدولة التركية المعاصرة، بقيادة إردوغان، حققت انفتاحا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بهدف استرضاء الأوروبيين لإقناعهم بأن تركيا الواقفة على بابهم جديرة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، الذي منحها في 2005 الموافقة على أن تكون مرشحة للانضمام للاتحاد.

إنما الأوروبيون لم يكونوا مرحبين حقا بالفكرة، لم يكونوا على ثقة بأنهم أمام صفحة بيضاء، مما دفع اليأس في نفس إردوغان، وزاد انزعاجه، خاصة بعد تداعيات سقوط نظام صدام حسين وتمدد الإيرانيين في العراق وتزايد نفوذهم في لبنان وغزة وسوريا.

بعد الحراك الشعبي الذي طال بعض البلدان العربية في 2011. سنحت الفرصة لجماعة الإخوان المسلمين التي يواليها إردوغان لأن تقفز إلى كرسي الحكم في مصر، فثارت شهية نظرائهم في تركيا إلى التوسع سياسيا تجاه الجنوب بتكوين حلف إخواني في مصر وغزة والخليج، ليكون قوة ضاربة تكافئ القوى الإقليمية الإيرانية والإسرائيلية، فاعتمر الطربوش، وفك الحظر عن الحجاب، وفرضت قوانين تنظم بيع (وليس منع) الخمور، أسوة بالغرب الذي يحظر بيع الخمر لمن هم دون 18 عاما، وبد ذلك جرى بناء مسجد ضخم في ساحة عامة.

حلم الخلافة الذي كان بديلا للاتحاد الأوروبي لم يستمر سوى عام واحد، استفاق أركان الحلف منه بعد انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر. ومن سوء الطالع أن إردوغان واجه فضائح بالفساد طالته ودائرته الضيقة، لم يسعه بعدها سوى أن يستدير على قيم الحريات التي كان يدعيها أمام الأوروبيين، فوسع صلاحية الاستخبارات، وضيَّق على القضاة، وأغلق وسائل التواصل الاجتماعي أثناء الانتخابات البلدية حتى لا تتوسع دائرة الاحتجاجات عليه.

إنه سلوك الخليفة العثماني، كما يقول لنا التاريخ. الأوروبيون شعروا بأنهم حكماء، كونهم لم يمنحوا رجل أوروبا المريض العضوية، تنفسوا بعمق وهم يقولون: حقا، إن في العجلة الندامة.

على المسلمين العرب الذين عادوا لحديث الخلافة أن يقرأوا التاريخ والحاضر جيدا، التاريخ يقول إن العثمانيين كثيرا ما كانوا خصوما للعرب، وإن قوميتهم، لا ديانتهم، هي التي كانت تحكم توسعهم في المنطقة العربية، تماما كالإيرانيين. أما الحاضر، فإردوغان تحدث لحلفائه بصراحة؛ توجه إلى القاهرة حينما فاز الإخوان المسلمون بالانتخابات، وأوصاهم (بالفم المليان) بأن ينتهجوا منهج العلمانية ليفلحوا، نصحهم بأن يكونوا مثله، ويتركوا للناس مساحة واسعة في حرياتهم الشخصية، وبأن ينفتحوا على الفن وأهله، ويوطدوا علاقتهم بإسرائيل، كما تفعل تركيا التي تربطها بإسرائيل علاقة ود يتخللها أحيانا عتب الأحبة، ومليارات من التبادلات التجارية وتعاون عسكري ضخم.

إردوغان، المرشح لأن يملأ كرسي الخليفة الإسلامي الشاغر، يؤدي عمله كل يوم في مكتبه الرئاسي، وفوق رأسه صورة ضخمة لمؤسس تركيا الحديثة العلماني مصطفى أتاتورك، يقدم إردوغان له التحية قولا وعملا، ولن يقدر لا اليوم ولا غدا على المساس بالمبادئ العلمانية، التي يقوم عليها دستور الدولة، الذي وضع صندوق الانتخاب الذي جاء بإردوغان، وقد يلفظه في المرة المقبلة.

السؤال المهم الذي أختم به: هل أمل هؤلاء في إردوغان حبا في عودة الخلافة؟ أم رغبة في دخول بيت العلمانية من الباب الخلفي؟

عن الشرق الاوسط السعودية

اخر الأخبار