فلسطين بين المفكرالعربي فاضل الربيعي وعالم الآثار إسرائيل فنكلشتاين

تابعنا على:   10:49 2014-04-27

بكر أبوبكر

لطالما كان البحث العلمي لا يعترف بحدود السياسة ، أو ضوابط مصالح الدول لأن الحقيقة العلمية أكبر من عمر الدول و الشعوب ، ونقصد بالحقيقة العلمية تلك التي خضعت إما للتجربة و البرهان، أو للتحقيق الموثق أو الاستدلال العقلي و الاستكشاف.

ولأن خدعة كبيرة لا يمكن أن تعمّر في العقول طويلا، وان استقرّت فيها قرونا فان الله سبحانه و تعالى الذي وضع التفكر و التأمل و النظر والبصر كسمة مميزة للإنسان تمييزا عن سوى كائناته جعله في صراع عقلي وعملي لا ينقطع إلى يوم الدين في البحث عن الحقائق .

إن مناسبة الحديث هو حقيقة ليست علمية تجريبية (مخبرية)، وإنما علمية (تاريخية) أي أنها إما خضعت لمحكيّات الآثاريات والحجر أو لدلائل التحقيق الموثق والمقارنات وهو ما تراه لدى عدد من المفكرين و البحاثة الذين يرفضون القوالب الجامدة ويخترقون أسوار التكلّس حول أفكار أو مفاهيم أصبحت مع طول الزمن مثل (الطوطم) أو عبادة الأسلاف ما نهى عنها الله سبحانه وتعالى .

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون ) \\\"البقرة17\\\" وفي الآية ( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)\\\"الشعراء 74\\\" ، و الآية (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)\\\"الزخرف22\\\" في هذه الآيات الكريمة، وأمثالها الكثير التي تحث على الكشف و التمعن و الدرس و التمحيص والتساؤل ، والبحث عن الحقيقة ورفض الأنماط و القوالب الجامدة هي مما نتوخى أن يمن الله بها علينا.

في كتابه الضخم المعنون\\\" فلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم\\\" يعرض المفكر العربي فاضل الربيعي برشاقة الباحث وأمانة العالم، ويقين الواثق المتمكن أحداثا ووقائع ومعلومات واستنتاجات ودلائل علمية جديدة، ما ستذهلون وتتفاجئون منها إلى حد التوتر مع كثير من الأرق! حيث ننصحكم بعدم التسرع والحكم بل التروي والتأني والتدبر، فنقض الموروث \\\"المؤسطر\\\" ليس سهلا حتى على حملة الشهادات ممن تحجرت عقولهم، وودعوا القراءة من زمن بعيد كما قال لي الزميل د.نادي ساري الديك.

في البدء من المهم الإشارة باحترام للمفكرين والبحّاثة والكتّاب والمؤرخين في مجال إعادة قراءة التاريخ العربي والإسلامي، أو تصحيح التاريخ والرواية لمنطقتنا، ما قام به كل من الأساتذة فرج الله صالح ديب وأحمد الدبش، وأحمد داود وزياد منى وأحمد أشقر وكمال صليبي ....وغيرهم من الأساتذة الكرام، لنعرج على ما يعرضه المفكر العربي فاضل الربيعي وما يطرحه بهذا الأمر في بحث أو(بحوث) علمي رصين يعيد فيه بناء التاريخ وإرجاع الراية للرواية-الحقيقة لأصلها العربي لا العبري التوراتي فيما يتعلق بأرضنا العربية وفلسطين ، مقابل ما يقوله الأستاذ و المفكر الإسرائيلي (إسرائيل فنكلشتاين) وما أسفرت عنها مكتشفاته الأثرية بصفته عالم آثار في فلسطين.

لدى المفكرَين العربي والاسرائيلي ما يختلفان به، ولكن في اتفاقهما العلمي-التاريخي كثير من العناصر التي تفيدنا كعرب وكفلسطينيين وكباحثين عن الحقيقة، نحاول أن نقاربهما في الأسطر القليلة، وسنعرض لما يذكره أ.د.فنكلشتاين، ثم لما يعرضه المفكر العربي فاضل الربيعي علّنا نُخرِج عقول الكثيرين من أسر (الإسرائيليات ) التي حذّر منها د.محمد محمد أبوشهبة،والشيخ محمد الذهبي، و سيد قطب في ظلال القرآن، وعدد من الباحثين، والتي تعمل ككاتم عقل في وجه أي بحث رصين أو علم جديد يقوم بوضع المرويات التاريخية الضعيفة أو غير المسندة، أو الأساطير مقابل حقائق العلم الحديث.

أ.د.فنكلشتاين وأساطير التناخ (التوراة..) التاريخية

يقول عالم الآثار الإسرائيلي أ.د إسرائيل فلنكشتاين في مؤلفه الثمين (التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها ) صــ28 إن (العديد من أحداث التاريخ التوراتي لم تحدث لا في المكان و لا بالطريقة و الأوصاف التي رويت في الكتاب المقدس العبري، بل بعض أشهر الحوادث في الكتاب المقدس العبري لم تحدث مطلقا أصلا ).

ويضيف إلى استنتاجاته إلى أن بعض علماء القرن 18 قد اقتنعوا إن (أسفار الكتاب المقدس العبري الخمسة الأولى- على الأقل- قد كتبت ثم وسّعت وزيّنت لاحقا من قبل محررين مجهولين ، ومراجعين متعددين على مدى عدة قرون) وذلك صــ36 ويضيف صــ39 إن بعض العلماء يرى (إن هذا التاريخ تم تأليفه أثناء فترة النفي في محاولة للحفاظ على تاريخ و ثقافة وحضارة وهوية الأمة المقهورة بعد كارثة دمار أورشليم ....) ويضيف إن أجزاء أخرى قد أضيفت بعد قرون .

أما بشأن الأماكن الوارد ذكرها في التوراة فيقول في صــ41 (إن مئات الأماكن الأخرى التي ذكرت في الكتاب المقدس العبري بقيت مجهولة ....)

وعن التزوير المقصود يقول (لقد زودنا علم الآثار بأدلة كافية لدعم الاعتقاد الجديد بان اللب و الجوهر التاريخي للتوراة والتاريخ التثنوي ، إنما تم تدوينه جوهريا في القرن 7 ق.م..) مضيفا(وسنثبت بالأدلة إن الأسفار الخمسة للتوراة في معظمها إنما هي خلق ملكي متأخر يهدف إلى الدعوة إلى عقيدة و حاجات مملكة يهودا ) وذلك إشباعا (لطموحات سياسية و إصلاحات دينية معينة ، وتبريرات أيدولوجية ) في عهد الملك يوشيا ، كما يرى العلماء بالتاريخ التثنوي-اليهودي (صــ40).

إلى ذلك يقول صــ48 أن (هناك الكثير من التناقضات بين الاكتشافات الأثرية والقصص التوراتية ، مما يمنع القول بان الكتاب المقدس العبري يزودنا بوصف دقيق تماما لما حدث في الحقيقة و (الواقع)) و يؤكد على هذا التناقض مرة أخرى صـ51 اذ يقول (سنرى كم من قصص و روايات الكتاب المقدس العبري هو من نتاج آمال ومخاوف و طموحات مملكة يهودا ..)

مضيفا أن (معظم ما أخذ عموما على أنه تاريخ صحيح و دقيق و مسلم به كقصص الآباء و الخروج وغزو كنعان وحتى قصة الحكم الملكي المتحد المجيد لداوود وسليمان – ليس في الواقع سوى تعبيرات خلاقة أبدعتها حركة الإصلاح الديني القوية التي ازدهرت في مملكة يهودا).

أما عن سيدنا إبراهيم عليه السلام فيقول صـ 65 أنه ثبت علميا أن الهجرة الغربية المفترضة لمجموعات من بلاد ما بين النهرين نحو كنعان لم تعد صالحة، كونها فكرة خادعة ووهمية حيث (يفند علماء الآثار – بشكل كامل- الزعم أن ثمة حركة انتقال سكاني جماعي ومفاجئ حدثت في مثل ذلك الوقت )

ونضيف إلى قول فنكلستاين ما يقوله العالم التوراتي الألماني ( يوليوس فيلهاوزن) الذي يرى ( أنه يجب النظر إلى القص التوراتية كأساطير وطنية لا يزيد أساسها التاريخي على الأساس التاريخي لأسفار \\\"أوريوس\\\" في ملحمة هوميروس \\\"أو قصة تأسيس \\\"إينياس\\\" لمدينة روما في ملحمة \\\"فيرجل \\\") عدا عن أن \\\"ألبريخت ألت\\\" و\\\"مارتن نوث\\\" أثبتا حسب المؤلف صـ130 ان بعض قصص يشوع ليست سوى تقاليد و أساطير تم تأليفها مع بعض عبر القرون

ويضيف العالمان التوراتيان الأمريكيان (جون فان سيرز) و (توماس طومسن) كما يذكر د.فنكلشتاين في نفس الكتاب صـ66 إن ( اختيار القصص و ترتيبها – في التوراة- كان تعبيرا عن رسالة واضحة أراد محررو التوراة أن يوصلوها عندما قاموا بجمعها و تدوينها أكثر من كونه محافظة منهم على روايات تاريخية موثوقة) ولإثبات كلامه يقول عالم الآثار الإسرائيلي د.إسرائيل فلكنستاين صـ68 حول المؤشرات والأماكن و الأمم ضمن قصص من يسميهم الآباء في سفر التكوين إنها تعطي مغزى و دلالة هامين جدا (أنها تشير إلى أن زمن تأليف تلك القصص إنما يقع في زمن متأخر بعدة قرون عن الزمن الذي تحدد التوراة عيش الآباء فيه ...)

أما في حديثه عن مدينة أورشليم صـ 75 فيقول إنها لم تكن ( سوى قرية نائية وصغيرة في منطقة هضبية) ليؤكد على مجموعة من الحقائق الأخرى مما اكتشفه علم الآثار كالتالي صـ77

-        ( من الممكن جدا بل من المحتمل أن تكون الحوادث الفردية في قصص الآباء مستندة إلى تقاليد محلية قديمة ، إلا أن طريقة توظيفها و ترتيبها تحولها إلى تعبير قوي عن أحلام \\\"القرن السابع اليهوذوية \\\") إذن هي أساطير واحلام وأوهام!

-        والقصص تؤكد أن الإسرائيليين كانوا غرباء ، وليسوا جزء من السكان الأصليين لكنعان ...( )

-        وهي-الرواية اليهودية لما يسميه المؤلفان قصص الآباء-محاولة أدبية لإعادة تعريف وحدة شعب إسرائيل، بدلا من النظر اليها على أنها سجل دقيق لحية أشخاص تاريخيين عاشوا قبل أكثر من ألف سنة

ويتهم المؤلف الاسرائيلي كتبة التوراة بالتزوير مباشرة ليقول صـ79 ( إن كلا التوراة و التاريخ التثنوي كتبا في القرن 7 ق.م في يهودا في أورشليم عندما لم يكن لمملكة إسرائيل الشمالية أي وجود أصلا بعد.....) ليستنتج أن عبقرية مؤلفي (الملحمة الوطنية في القرن السابع ، أنهم جمعوا القصص إلى بعضها البعض وكان الذي وحدهم (قوة الأسطورة) 

أما في سياق حديثه عن الخروج فيقول صـ94 (ليس لدينا أي فكرة و لا حتى كلمة واحدة حول الإسرائيليين الأوائل في مصر ، لا في النقوش التذكارية على حيطان المعابد ، و لا في نقوش القبور و لا في أوراق البردى إسرائيل غائبة سواء كخصم محتمل لمصر او كصديق او كأمة مستعبدة)، في إطار حديثه عن \\\"منفتاح\\\"، لا بل ويضيف ( ببساطة لا توجد هناك أي اكتشافات في مصر يمكن ربطها بفكرة مجموعة عرقية أجنبية متميزة ....) عكس ما تورد التوراة

ثم يرفض قصصا كثيرة بعد رفضه حصول الخروج من مصر استنادا لأبحاث طويلة ولعلم الآثار، وإذ يقول صـ107 (إنها أي قصة الخروج من مصر تعبير قوي عن الذاكرة وعن الأمل ولدا في عالم يعيش وسط تغيرات مهمة عكست المجابهة بين موسى و فرعون ...)

ليقول عن غزو كنعان صـ158 إن بها-قصة الغزو- من الإشكالات (أعظم و أكبر) متسائلا (اذ كيف أمكن لجيش ممزق يرتحل أفراده مع نساء و أطفال وشيوخ قد قدم بعد عقود من التيه في الصحراء أن يرتقي لإمكانية القيام بغزو فعال؟؟! كيف أمكن لمثل هذا الرعاع الفوضوي غير المنظم أن يتغلب على القلاع العظيمة لكنعان ، وجيوشها المحترفة وفيالق عرباتها المدربة جيدا؟)

وعن رواية غزو يوشع لأريحا فانه يقول صـ119 إن أريحا كانت في الزمن المحدد بالتوراة (مستوطنة صغيرة وفقيرة وتافهة تقريبا و غير محصنة لم يكن هناك أيضا أي علاقة تدل على حدوث عملية تدمير لذا فان المشهد المشهور للقوات الإسرائيلية التي زحفت حول البلدة وأحاطت بها يتقدمها تابوت العهد ثم أحداث الانهيار لأسوار أريحا الهائلة بواسطة نفخ أبواق حرب الاسرائيلين ، لم يكن ببساطة سوى سراب رومانسي).

المفكر العربي فاضل الربيعي وفلسطين

سيبين الكتاب-كتاب الربيعي كما يورد ( كيف و لأي غرض بالضبط أدخل علماء التوراة إلى التاريخ المكتوب والذي ندرسه ونتداول وقائعه وكأنها حقائق نهائية أحداثا لا وجود لها في الواقع وحروبا لم تقع أبدا ، وأبطالا لا شاهدا موثوقا به عن حقيقة وجودهم، . كما يوضح كيف أن علماء التوراة تخيلوا معارك لا نصيب لها من الواقع، وملوكا لا وجود لهم في سجلات الممالك و الإمبراطوريات في العالم القديم (أليس في هذا اتفاق جليّ مع ما قاله أ.د.فنكلشتاين؟). والى هذا كله تخيلوا وجود أناشيد نصر تغنى بها الإسرائيليون القدامى ، وصدح بها شعراؤهم في بقاع مجهولة من الأرض في حين أنها كما سيكشف الكتاب لم تكن في الواقع سوى شعر الحماسة \\\"العربي\\\" القديم نفسه في صوره الأولى ، يوم كان يكتب بلهجات القبائل وهو شعر لا نعرف عنه الكثير ولم يصلنا منه شيء، لأنه مكتوب بلهجات العرب البدائية و القديمة المنقرضة .

إن ما يُعرف عند المستشرقين وكتاب التاريخ القديم ، بضياع الشعر الجاهلي (الأصلي ) المكتوب بلهجات القبائل العربية –البائدة- في طفولتها البعيدة و المنسية ، والذي دعا طه حسين (في الأدب الجاهلي) إلى افتراض انه شعر غير حقيقي ، وانه موضوع من قبل الرواة المتأخرين ، يمكن أن يكون مفهوما وقابلا للتفكيك حين نقرأ الشعر العبري في التوراة بطريقة صحيحة ولكن مغايرة . في هذه الحالة سنتعرف إلى جزء من مشهد الطفولة الضائعة للشعر الجاهلي . و باختصار شديد ،فان التوراة التي بين أيدينا اليوم ، وكما حققها المحققون وترجمها المترجمون ، ليست أكثر من نتاج مباشر لقراءة مغلوطة للتاريخ القديم ، ولنقل نتاج صناعة للتاريخ القديم قام بها وعلى أكمل وجه جيل من المحققين الاستشراقيين المهووسين بفلسطين.، التوراة في نصها العبري لا تذكر قط اسم فلسطين و لا تعرف اسم الفلسطينيين . وما يدعى معركة مياه –مجدو (هر-مجدو) ليس سوى قراءة مغلوطة ، تاريخية و ثقافية ولغوية لمعارك ساحل بني مجيد على البحر الأحمر ( لم تشهدها شواطئ البحر الأبيض المتوسط بل ضفاف البحر الأحمر )

فاضل الربيعي في مؤلفه الضخم فلسطين المتخيلة : أرض التوراة في اليمن القديم الذي يضم (1300) صفحة والصادر لأول طبعة عام 2008 ما لحقه طبعات جديدة، يستند به إلى خبرته الأصيلة في اللغات اليمنية القديمة، وفي اللغة العربية والعبرية القديمة والحديثة، ويجعل من تقاطعات الوثيقة الأبرز- التي يستند اليها وعمرت حتى الآن ألف عام- وهي كتاب/موسوعة (صفقة جزيرة العرب) للهمداني التي فصلت تفصيلا شديد الدقة المواقع و الآثار و الوديان والهضاب والجبال و الأنهار و القبائل والأقوام في اليمن القديم يجعلها في تقابل مع مرويات التناخ (التوراة وملحقاتها) لتكتشف مع المؤلف الحقائق المذهلة والمثيرة إلى حد الإغماء للبعض حيث يظهر جليا وبعد جهد وعناء شديد بالمتابعة والقراءة تطابق الوثيقتين شبه الكامل في الجغرافيا المذكورة فيهما.

فاضل الربيعي في بحثه الدؤوب عن دلائل أن (مملكة إسرائيل القديمة لم تكن قط فلسطين ؟ ومن ثم فان التطابق و التماثل ين النصين مصدره وجود مسرح آخر للأحداث التوراتية غير المسرح الفلسطيني )(فلسطين المتخيلة الجزء 1 صـ15) سار بصعوبة بين كتب الرحالة و عدد ممن كتب بالموضوع إلى أن كان الهمداني في (الاكليل في صفة الجزيرة للعرب) فتحا عظيما لم يكتفي به الربيعي، وإنما لجأ لديوان العرب ومستودع فكرهم و أخبارهم ومعاركهم وأماكنهم متمثلا بالشعر العربي وخاصة الجاهلي الذي أدهشه تطابق الوصف لمسرح الأحداث فيه، مع الوثائق الأخرى أي (التناخ- التوراة وملحقاتها) و كتاب (الإكليل) للهمداني ، رغم أنه في كتبه اللاحقة استخدم علم الآثار و المقارنات الأخرى أيضا 

عمل الربيعي على أن يجند حياته للفكرة، إذ (ها هو الهمداني و الشعر الجاهلي يقدمان سلسلة لا تكاد تنقطع من البراهين و الأدلة) \\\"صـ18\\\"

يشير في طيات كتابه الثمين إلى (التلاعب بالحقيقة التاريخية و الجغرافية ) حيث لم يكن العمل بريئا وإنما صُمم ( لتمرير أكبر عملية خداع في التاريخ البشري حين جرى تصوير المدن و القرى و المواضع الواردة في أسفار التوراة على أنها ذاتها المواضع و القرى و المدن في فلسطين التاريخية ) \\\"صـ24\\\"

لا ترفع حاجبيك عجبا ، و لا تدر ظهرك غضبا و لا تبدأ باستحصار مخزون الرواية الإسرائيلية التي تناقلناها، و ندرسها في مدارسنا و جامعاتنا ونحفظها كأنها نصوص مقدسة كما فعلت أنا وما كنت إلا مستثارا حانقا تراودني الظنون، و لا تكن كأساتذة التاريخ غير المنفتحين عقليا الذين بدأوا يحوقلون ويستشيطون غضبا لأنهم يسمعون عكس ما قرأوه ويدرّسونه و لا يريدون الاحتكاك بالجديد أبدا أو البحث والتفكر والتأمل، ضمن إدعاء حصانة أو قداسة الموروث الفاسد مقابل الجديد النابض و المتفق حكما مع الدين لا يخرج عنه و بل يا للغرابة يثبت كل قصص ومرويات وحكم القرآن الكريم 

لقد قامت جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية البحرينية بجهد واسع في المجال وهي التي تحدثت في كتاب هام لها عن

(تزوير جغرافيا الأنبياء) ، ما جعل البعض من غير العقلاء أو مغلقي العقول يستفزون، وما جعل الاكتشاف الذي وصلوا له وان بآلية بحث مختلفة عن الربيعي ، جعله مثار تندر و رفض من عصاة أمر الله بالعلم و التفكر والتنور .

لقد استوعبنا الأكذوبة و التزوير و الخداع و آمنا به بل و أطّرناه ( بقراءة اسلاموية سطحية تساوي بين بني إسرائيل القدماء – وهم قبيلة منقرضة – وإسرائيل الراهنة ) \\\"صـ25\\\"

 

يقول الربيعي – ما لا يختلف في أجزاء منه عليه فنكلشتاين أن ( المصدرين القديمين : التوراة والشعر العربي يملكان سويّة الخاصية ذاتها لا من حيث بعدها الزمني ، وإنما كذلك وهذا هو الأهم من كونهما يصدران عن البيئة ذاتها ( الصحراء العربية)\\\"صـ129\\\" ما يسهل المقاربة الأدبية و اللغوية و الجغرافية التي لا حصر لها

يكشف الربيعي التلاعب بروايات وتفسيرات التوراة (يسميها فنكلشتاين واستنادا لغيره أحلام و أساطير وقصص وآمال التوراة ) (في أسماء المواضع في القراءة الاستشراقية ....) \\\"صـ37\\\".

يعرض لنا الربيعي جبال اليهودية في اليمن ، وايلياء و القدس و أورشليم وأريحا والجولان و الأردن .....الخ في اليمن القديم، بالدليل التفصيلي ويتعرض لقبيلة كنانة (كنعان) من قبائل مضر الشهيرة وهي كنانة قريش ، ويجول بنا بين كافة المواقع بين الوثائق الثلاثة التي ذكرناها لتكتشف أنت القاريء العادي -إن أردت التركيز واجادة القراءة والاعتبار-مثلا إضافة لما سبق أن صهيون (صيون) من جبال السُّراة في نجران اليمنية \\\"صـ529\\\" وان جليل التوراة (وليس الجليل في فلسطين) في بلاد طئ \\\"صـ492\\\" وان بيت بوس \\\"يبوس\\\" في الطريق إلى صنعاء .

عندما قرأت ذلك في البداية -دون جهد وتفكر وتأمل- قفزت من كرسييّ بل وفتحت فمي طويلا منشدها، لأبدأ بالتعوذ والحوقلة، نعم هذا ما حصل معي لأول وهلة لكنني قرأت مطولا وتفكرت طويلا وكتبت لاحقا ما أحدث التغيير ضمن قاعدة قداسة القرآن الكريم أولا وأخيرا ، وعليه أقترح لمن يرغب الاطلاع الرجوع لملخص واحد لأي مما سبق و ستجده على الشابكة (=الانترنت) فيما كتبناه أو غيرنا، كما اقترح شراء الكتاب الضخم (فلسطين المتخيلة)، أو الابتداء بقراءة كتاب ( القدس ليست أورشليم )، لا أنكر أنني في البداية وفي إطار انشداهي بدأت كيل التهم مستندا لتقديسي تراث آبائي دون إعمال عقلي ما طالبنا به الله في محكم التنزيل .

ان الإله فلس (إله الفلستيين حيث لا يوجد كلمة فلسطين مطلقا بالتوراة بل فلستيين والفلست، رغم وجود حرف الطاء بالعبرية ، وهم من بني كنانة (كنعن) أحد بطون مضر وليست مصر كما تذكر التوراة \\\"صـ286\\\"

 

ولك أن تقرأ وتدقق وتتأمل بالدلائل أيضا أن \\\"الكرثيين\\\" هم الكريتيون المُتخيَّل أنهم جاؤوا كما يقال من جزيرة (كريت) اليونانية \\\"صـ385\\\"، و أماليك (قبيلة يمنية) وليست عماليق كما تردد في التوراة \\\"صـ339\\\"، و فرات هي بيت لحم-اليمنية، وليست نهر الفرات في التوراة \\\"صـ343\\\" و خولان اليمنية هي ما تدعى الجولان....الخ

إن هذه الاستنتاجات ليست عبثا أبدا ، وما هي أقترا حاو تضليل، أو خيال شاعر ، وما هي تراكيب لغوية، أو مقارنات عرضية أو أتت بالصدفة لتشابه الأسماء، أو مماحكات مع علماء التوراة (هي التناخ حيث تضم التوراة وملحقاتها..) أومع المؤرخين المستشرقين ، ولا هي محاولة لردم التاريخ أو سعي للظهور ، وإنما هي-باعتقادي- حقائق علمية وإن لم تعجبني في البداية – وقد يكون من المفهوم إنني نفرت منها لأول نظرة ما قد يحصل مثله مع آخرين – لذا أقترح القراءة بمنطق الدرس والنقد لا القبول بالضرورة أبدا، أو لنتفضل و نعقد مؤتمرا أو مؤتمرات نقارع فيها الحجة بالحجة دون استنكار مسبق في إطار متانة البحث والوعي المنفتح، ما يُبهت الذي كفر من أدعياء اليهود، وينتصر الحق العربي، و الله غالب على أمره.

 

يقول فاضل الربيعي في المجلد الثاني من \\\"فلسطين المتخيلة\\\" ما يتفق معه فيه تماما العالم الإسرائيلي في جامعة تل أبيب (إسرائيل فنكلشتاين) و(زئيف هرتزوغ) وذلك صـ12 ( ان علماء التوراة تخيلوا معارك لا نصيب لها من الواقع وملوكا لا وجود لهم في سجلات الممالك و الإمبراطوريات في العالم القديم ....)

وفي معرض مقارباته الكثيرة جدا يعرض كمثال واحد فقط ن وهو مثال كان صاعقا لي حقا ، أسطورة \\\"شمشون\\\" البطل التوراتي التي تتطابق في مسرحها الجغرافي وحشر أسماء المواضع فيها مع الأسطورة العربية القديمة المسماة (النضيرة).

كتاب المفكر العربي فاضل الربيعي الصغير المكون من 160 صفحة والمعنون (القدس ليست أورشليم) الذي أهديته لمعظم أعضاء اللجنة المركزية لحركة \\\"فتح\\\" ولمن طلبه، هو عبارة عن (مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين )، يكتب فاضل الربيعي فيه قائلا إن: (إعادة تركيب الرواية التوراتية عن التاريخ الفلسطيني و بنائها استنادا الى النص العبري) تكشف (حقائق مذهلة غيّبها المخيال الاستشراقي القديم طوال القرنين الماضيين ، وذلك عبر الترويج الزائف لأسطورة أرض الميعاد اليهودي) مضيفا في صـ 10 أن (المدهش أن هذا الكشف الذي أقدمه اليوم تطويرا للنظرية التي عرضتها في مؤلفي السابق فلسطين المتخيلة :أرض التوراة في اليمن القديم قد لا يكون صادما لوجدان اليهود المتعصبين و التوراتيين و الاستشراقيين وحسب بل ربما يكون صادما أيضا للوجدان الفلسطيني و العربي و الإسلامي على حد سواء) وكيف لا وهو يثبت في الصفحات الباقية أن هناك ثلاث من (القدس)وواحدة (أورشليم) و الأربعة غير القدس العربية الإسلامية، وهي أي الأربعة في اليمن القديم!

وما هو في التوراة ليست أيضا (أورشليم) العصر الروماني في فلسطين حيث أنه بعد مقاربة مضنية يقول الربيعي في مؤلفه القيّم القدس ليست أورشليم صـ151 (اندثرت بلاد اليهودية العتيقة من ايلياء- وعاصمتها الدينية القديمة اورشليم العربية- اليمنية وهي بيت بوس- واختفت من مسرح التاريخ)

 مضيفا أن الحروب (أرغمت القبائل العربية في اليمن القديم عام 130 ق.م وليس قبل ذلك ، ومنهم كان اليهود العرب أن يها جروا إلى حاضرة الإمبراطورية الرومانية آنذاك :بلاد الشام.)

و في خاتمة الكتاب يدلل على أن إقليم بلاد السمرا الذي قرئ في صورة السامرة (لا يقع شمال فلسطين و ذلك طبقا للرواية التوراتية بل في شمال اليمن حيث دارت المعارك ضد الولاة الرومان في قلبه، و في أطرافه عند موضع الغرابات – عرابات في التوراة..بالطبع فان السامرة \\\"الضفة الغربية من فلسطين\\\" لا تعرف هذا الاسم ، بينما نجد إقليم السمرا العربي- اليمني......)

 

مما سبق نرى بعضا من أفكار أ.د.اسرائيل فنكلشتاين عالم الآثار الممارس في مواجهة واضحة الدلالة مع أفكار الباحث المتمكن المفكر العربي فاضل الربيعي حيث يظهر أن الخلاف بينهما هو في المسرح الجغرافي-مسرح أحداث التناخ (التوراة وملحقاتها) ، فإن كانت فلسطين الحالية هي المسرح لأحداث التوراة كما يحلل فنكلشتاين في علم الآثار بين يديه ما عمل به سنوات طوال يصبح المسرح مليئا بالتشكيك والتزوير والتحريف والاختلاق كما يؤكد هو نفسه وامثاله آخرين من المنصفين الاسرائيليين.

وعندما تصبح الجغرافيا في مكان آخر باعتقادنا وحسب عديد الأساتذة المشار لهم، ومنهم المفكر العربي فاضل الربيعي الذي نعرض له في هذه الورقة فإن هضاب ووديان ومدن وقرى وأنهار ومواقع اليمن القديم تُظهر جلاء الحقيقة، وقد يزول تشكك فلكنشتاين العالم وأمثاله في الجغرافيا، لو جمعنا بين تشككه وبين يقين الربيعي.

أن أحداث التناخ (التوراة..) في ظل دحض فنكلستاين وزئيف هرتزوغ (وآخرين) لها استنادا لعلم الآثار الى حد إنكار الأنبياء، هي قطعا ليست في فلسطين اليوم بل في اليمن القديم-على كثير من المبالغات والخرافات فيها- كما يحدد فاضل الربيعي بدقة الباحث وامانة العالم ويقين المؤمن.

اخر الأخبار