التطبيع مع الفساد

تابعنا على:   12:17 2018-01-24

د. غسان العزي

اعتاد العلماء منذ زمن طويل على نشر توقعات متشائمة، في جلها، وإن كانت مدعومة علمياً حول مواضيع مثل الأجناس الحيوانية المعرضة للانقراض أو الفقر والجوع الذي سيضرب هذا البلد أو ذاك، أو تلك القارة بل ربما الجنس البشري، أو حول المخاطر البيئية والتغيرات المناخية التي قد تحدث الزلازل و«التسونامي» والبراكين وغيرها من الكوارث الطبيعية.
وتنشر الصحافة تقارير العلماء وأخبار السياسة والاجتماع وغيرها بقدر مضاف من المبالغة، وذلك لأسباب مهنية على الأقل. فالسبق الصحفي والإثارة ولفت الانتباه والسعي لتسليط الأنوار على المخاطر والتهديدات هي من صلب المهنة وصلاحيات السلطة الرابعة. والأهداف في هذا المضمار حميدة ولا شك إذ إن تنبيه الرأي العام وإثارة فضوله وإعلامه بما يحدث وقد يحدث مستقبلاً هي خطوات أولى ضرورية لحماية الجنس البشري والمساهمة في تطوره وتقدمه في طريق المزيد من الصحة والحرية والرفاه.
وتتولى مؤسسات دولية، في مقدمها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة مهمة وضع التقارير والخطط وتقديم المساعدات للدول في مسائل الصحة والتربية والتعليم ومكافحة الجوع والفقر والمرض وغيرها، وتضع أجندات زمنية محددة لبلوغ الأهداف المتوخاة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر حددت الأمم المتحدة، في العام ٢٠٠٠، أهدافاً طموحة جداً للعالم في عدة ميادين (الفقر والجوع والبيئة وغيرها) مع مراجعة للنتائج في العام ٢٠١٥. وقد تبين أن تقدماً كبيراً تم تحقيقه. لكن وسائل الإعلام نشرت تقرير الأمم المتحدة في العام ٢٠١٥ تحت عناوين مثل «ما يزال الطريق طويلاً» أو «فشل الخطة» أو «لم تتحقق الأهداف» (المقصود بالكامل) الخ... أي أن الصحافة ركزت على مكامن الخلل والفشل من دون تسليط الأضواء على التقدم المتحقق.لكن مضامين المقالات والتعليقات اختلفت عن العناوين بعض الشيء لأن الأمانة الصحفية اقتضت نشر ما تضمنه تقرير الأمم المتحدة من إيجابيات رغم التعليقات السلبية التي تهدف إلى حث العالم على فعل المزيد لمصلحة الجنس البشري وعدم الاكتفاء بالنتائج المتحققة.
وبسبب العولمة أضحت أخبار كل بلد بل كل حي من أحياء المعمورة في متناول كل واحد منا وفي كل لحظة، وباتت المخاطر التي تهدد العالم شأناً يهم كل فرد منا. والشأن البيئي بات يحتل الحيز الأكبر من الأخبار التي تجمع ما بين البشر على اختلاف انتماءاتهم القومية والعرقية والدينية وغيرها. أخبار المناخ والبيئة تتوالى في كل لحظة وتتخذ طابعاً كوارثياً إلى درجة أننا بتنا نشعر بأننا نعيش على كوكب مهدد بالاندثار الوشيك.
لكن كما هو معروف فإن كثرة الأخبار تقتل الخبر، إذ إن الشعور بالعجز حيال المخاطر يدفع الإنسان ليس إلى الاستنفار لمواجهة المخاطر بقدر ما يرميه في حضن اليأس والقدرية أو التشكيك بصحة المعلومات. وقد دلت الدراسات في الولايات المتحدة على أن التقارير والدراسات المتعلقة بالبيئة تزيد من قناعة الديمقراطيين المقتنعين أصلاً لكنها لا تؤثر البتة في قناعات الجمهوريين المشككين بصحة المعلومات المتعلقة بالمخاطر البيئية، بدليل أن الرئيس الجمهوري بوش الابن كان يرفض علناً مقولات أنصار البيئة وأن الرئيس ترامب انسحب من اتفاقية باريس للمناخ التي وقعتها معظم دول العالم في أواخر العام ٢٠١٥.
في مستوى أدنى، مستوى الدول من الداخل فإن الأخبار المتكررة عن فساد الطبقة السياسية على سبيل المثال يدعم مثل هذا الفساد بدل أن يكافحه. فالمواطن الذي يسمع في كل يوم خبراً جديداً عن فضيحة فساد سياسي أو مالي جديدة يشعر بالعجز عن الفعل وباليأس من الطبقة السياسية التي تحكمه. صحيح أن الانتخابات هي مناسبة كي يدلي المواطن برأيه فيعاقب الفاسدين عبر صناديق الاقتراع، لكن الخيارات المطروحة أمامه ليست هي الأخرى إلا من إفرازات هذا الفساد عينه، أو أنه يشعر بأنها كذلك.
في بلد مثل لبنان، على سبيل المثال لا الحصر، يتبوأ موضوع الفساد السياسي والإداري والمالي، قائمة المواضيع التي يتداولها المواطنون في أحاديثهم اليومية، في المقاهي والملاهي ومواقع العمل والمنازل وغيرها. حتى إنهم يتداولون، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وما أكثرها وأوسعها انتشاراً في هذه الأيام، الأخبار والنكات والنوادر حول فساد هذا المسؤول السياسي أو ذاك والتي باتت مصدراً للتسلية والضحك أكثر منها للسخط والتذمر والثورة.
وفي كل يوم تنشر محطات التلفزة أخباراً عن الهدر والفساد في كل القطاعات من الصحة إلى التربية إلى البيئة وغيرها وغيرها الكثير. لقد اعتاد الناس على هذه الأخبار التي من كثرتها وفيضها باتت تقتل الخبر الأساس، وهو الفساد وضرورة مكافحته. الانقطاع الدائم للكهرباء سببه الفساد كما يعرف القاصي والداني في بلد الأرز، كذلك انهيار الخدمات في بلد الخدمات وانقطاع المياه في بلد الأنهار والينابيع كما درسنا جميعاً في صفوف المرحلتين الابتدائية والمتوسطة.
وعلى الأرجح فإن السياسيين الفاسدين لا يزعجهم البتة تناول أخبار فسادهم على ألسنة المواطنين، ذلك أن كثرة الأخبار تقتل الخبر الأساس وتغدو من دون معنى، ثم أن يصبح الفساد موضوعاً لأحاديث السمر والسهر بين الناس هو نوع من «التطبيع» مع الفساد والاعتياد عليه، بدليل أن الانتخابات ليست سوى مناسبة لتكريس الفاسدين في مواقعهم وعلى الأرجح لتشجيعهم على المضي فيما هم فيه.
عن الخليج الاماراتية

اخر الأخبار