المتمرد الذى فضح العالم السرى لـ«الإخوان».. ( الحلقة الرابعة )

تابعنا على:   15:16 2014-03-20

فى الحلقة السابقة من مذكرات المفكر الراحل جمال البنا قال إنه لم يكن ملتزما دينيا فى بداية حياته، وتحدث عن أسرار عمله مع شقيقه حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، ورفضه الانضمام لجماعته، كما تحدث عن عمله فى مخبز بلدى، ومحل بقالة، ومكتب مقاولات، وتفاصيل القبض عليه، بسبب تأسيسه جمعية لرعاية المساجين، وحزب العمل.

 

سر الكوكايين والليلة السوداء

تمرد جمال البنا على فكر جماعة الإخوان، ورفض دعوات شقيقه الأكبر «حسن» للانضمام لصفوفها، وطالما تذمر بشكل غير معلن عندما كان ينسبه الآخرون لشقيقه، فكان يرى دائما أنه تعلم ما لم يتعلمه حسن، وألّف من الكتب ما عجز حسن عن تأليفه.

وظل شبح حسن البنا يطارده حتى فى الأيام الأخيرة من حياته، ورغم كل هذه المعاناة النفسية التى عايشها إلا أنه لم يستطع أبدًا أن يكره شقيقه، وكان دائما يعتبره والده، ولكن يختلف مع مشروعه ووجهات نظره.

وفى هذه الحلقة يواصل جمال البنا فتح خزائن أسراره، ويكشف عن السبب وراء إنشاء مؤسس الإخوان فرق كشافة وجوالة ثم ما سمى «النظام الخاص» مستعيناً بضباط من الجيش، فيقول:

كون حسن البنا فرق الكشافة والجوالة، ثم النظام الخاص، بهدف تصفية ٨٠ ألف إنجليزى فى مصر، وأيضا من أجل إسرائيل التى اغتصبت فلسطين، وحصلت على اعتراف دولى بوجودها، وحينها الجيش المصرى يفتقد مقومات القوة، ويتم تجريده من آلياته، لأن المشرفة عليه لجان بريطانية، فأراد حسن أن يصنع جيشا بديلا فتوصل إلى أسلوب تكوين فرق الكشافة والجوالة، واشترك فيها معظم أعضاء الجماعة، وكان من الأصدقاء المقربين لـ«حسن» عبدالرحمن عزام، الذى أصبح فيما بعد أول أمين لجامعة الدول العربية، وأمين حسين، صاحب المقولة الشهيرة: «فلسطين لا تحتاج إلى رجال، بل تحتاج إلى سلاح»، التى أيدتها حكومة مصطفى النحاس باشا، ووافقت على أن تسلك جماعة الإخوان طريقا غير قانونى لجمع السلاح لتحرير فلسطين، والأكثر أنها وعدت بأنها لن تتدخل أو تعترض الجماعة، وواكب ذلك نهاية الحرب العالمية الثانية، ما ساعد الإخوان فى جمع أسلحة كثيرة جدا من الجنود البريطانيين مقابل المال، أو جرعات من الكوكايين وخلافه من الطرق.

لكن بعد ذلك تبدلت الحكومة، ودخلت مصر، كما قلت، فى حالة من الديكتاتورية بإعلان الأحكام العرفية، ودون أى مبرر استغل رئيس الوزراء الجديد، النقراشى باشا، ما تمر به البلاد، وأصدر قرارا فى ديسمبر ١٩٤٨ بحل جماعة الإخوان، وكان هذا القرار لصالح الحزب «السعدى» الذى كان يرأسه، وكان «حزبا تافها» ليست له قيمة، ولا تأثير له فى الحياة السياسية، وبهذا القرار قتل «النقراشى» مئات الآلاف من أعضاء الإخوان فى مصر، ورغم أننى أرفض دائما مبدأ الاغتيال، ولكن فى حالة «النقراشى» كان يجب أن يقتل، لأنه كان يستحق القتل فعلا، ويخطئ من يظن أن القصر بقيادة الملك فاروق كان يعطى مساحة كبيرة، ويدعم جماعة الإخوان، لأن المساحة التى كانت للجماعة لم تكن منحة من القصر، إنما كانت مصر تعيش المرحلة الليبرالية، التى قضى عليها بقرار الحاكم العسكرى.

وتسبب قرار حل الجماعة فى أن يصدر رئيس النظام الخاص فتوى بإباحة اغتيال النقراشى باشا، وكان من تقاليد النظام الخاص ألا يخطر المرشد بقراراته، ولا تؤخذ موافقته بشكل مباشر حتى لا يتم توريطه، والنظام الخاص لم ينفرط من يد المرشد باتخاذ قرارات فردية، لأنه من البداية كان يتم اختيار قائد النظام، الذى يملك حُسن تقدير.

وهنا تأثر والدى بشكل كبير، فبدلا من أن تمضى السنوات الأخيرة من حياته فى هدوء ورضا واستقرار، خاصة بعد أن تخلص من أعباء الأبناء بعد أن كبروا وتوظفوا وتزوجوا، واستراح من مهنة تصليح الساعات، واجتاز أزمة الحرب العالمية، التى أوقفته عن النشر، وواصل إصدار أجزاء مشروعه «ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل» جزءا فجزءا، واكتسب الكتاب مع الزمن دائرة محدودة من الانتشار، لكنها كانت تكفى مع اقتصاده وضبطه عملية الطبع للاستمرار، حتى يحقق أمل حياته فى أن يرى الجزء الأخير مطبوعا، لولا أن تطورت الأمور تطورا مأساويا بعد قرار حل الجماعة، وبدأت بحملة اعتقالات بالجملة، وكنت - رغم أننى لست إخوانيا- أول المعتقلين من العائلة وشقيقى «عبدالرحمن»، وقد تم اعتقالنا فى ليلة الحل، وتقريبا فى ساعة واحدة، وبعدها بحوالى أسبوعين اعتقل شقيقانا محمد وعبدالباسط، وسحب السلاح المرخص من شقيقى حسن، وقطعوا خط التليفون عنه، وانتشر المخبرون حول المنزل، لاعتقال كل من يزوره، فاتصل بالمسؤولين، وقال لهم: «إنتم عاملينى مصيدة لتعتقلوا كل من يحاول زيارتى اعتقلونى أنا».

وفى هذه الأثناء، كان «عبدالكريم»، زوج شقيقتى، يختفى ليكتب مذكرة ببطلان الحل، ولما علم بأن المرشد أصبح وحيدا ظهر ليكون بجانبه، فقال له المرشد: «دعنى يا عبدالكريم فالله معى، واذهب أنت إلى أخيك فى الصعيد»، لكنه وقف موقفا مشرفا، ورفض أن يتركه، وقال: «سأبقى معك، ولو حاول أحد الاعتداء عليك سأدافع عنك».

وقالت لى «فوزية»، بعد خروجى من سجن الطور، إنه أثناء وقوع تلك الأحداث دار حديث بينها وبين أمى، فقالت لها والدتى: «تعرفى يا فوزية هم سايبين أخوك حسن ليه علشان يقتلوه، ويعتقلوا كل من يحضر للعزاء»، وبالفعل هذا ما حدث فقد حاصر البوليس قصر العينى، ومحطات السكة الحديد، وفى هذه الليلة السوداء تم اعتقال المئات من الإخوان، وجاء شخص مجهول إلى منزل حسن، وقال له: «أنت على موعد مع زكى على باشا بعد المغرب، لتسوية الأمور فى جمعية الشبان المسلمين»، لكن «عبدالكريم» انتابه الشك، فطلب منه عدم الذهاب، لأنه يشعر بأن هناك شيئا غير طبيعى يحدث، فرد حسن قائلا: «خليك إنت أما أنا فلازم أروح وأشوف حل للناس المعتقلين فى السجون، ويعنى حيعملوا فيا إيه، هيقتلونى؟.. الأعمار بيد الله»، وبالفعل ذهب وتمت المقابلة، وصلى العشاء، وخرج حوالى الساعة الثامنة، وكان «عبدالكريم» ينتظره، وعندما وصلا إلى باب الشارع لاحظ عبدالكريم أن الشارع مظلم، فقال له «الدنيا ضلمة ليه مع إن الساعة لسه ثمانية»، فرد حسن: «يا راجل الشارع نور والدنيا نور».

كما لاحظ عبدالكريم- كما قال لى فيما بعد- أن الشارع فى مثل هذا الموعد لا يوجد به أى شكل من أشكال الحياة، ولم يكن هناك إلا تاكسى واحد، ولما رأهما السائق على باب الجمعية ينتظران تاكسى تحرك فأشار إليه حسن، وعندما ركبا اتجه إلى التاكسى شخصان، وأطلقا علينا الرصاص، ونزل السائق تحت المقعد، فقد كان متفقا معه على ذلك، وبعد أن فر الجناة ذهب السائق بهما إلى الإسعاف، وهناك طلب عبدالكريم أن يذهب بهما إلى مستشفى خاص فرفض، وتم تحويلهما إلى مستشفى قصر العينى، وكان المرشد يقول للأطباء اسعفوا «عبدالكريم» الأول أنا كويس، و«عبدالكريم» يقول اسعفوا الأستاذ الأول، لكنهم نفذوا غرضهم، وأذيع خبر الوفاة فى الساعة الحادية عشرة.

وبعد إذاعة الخبر، طلبوا والدى لمقابلة أحد المسؤولين بالمحافظة، وعندما دخل إلى الضابط، قال له: «إنتم ليكم مدافن؟»، وكان والدى لم يعلم بما حدث، ولكن كان رده مباشرة: «عملتوها.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. نعم عندنا مدافن»، فرد الضابط: «اعطنا العنوان، وسيتم الدفن فى الصباح»، فقال له والدى: «لى طلب واحد هو أن يخرج من منزله»، فاندهش الضابط، قائلا: «وما الفائدة؟.. فممنوع عمل صوان، وممنوع تشييع الجنازة، ولن يحضر أحد للعزاء»، فقال له: «لتراه أمه وأولاده»، وأخيرا اقتنع الضابط، وخرجت الجنازة من المنزل وحولها عساكر وضباط مسلحون، ولم يكن فيها رجال سوى والدى ووالدتى وزوجته وأولاده الصغار وشقيقتى، والنساء من عادتهن فى تلك المواقف النواح والندب، لكنهن كن يصرخن بالدعاء، فكانت شقيقتى الكبرى تقول: «عقبى لك يا ابن ناظلة»، وفوزية تقول: «شهيد الإسلام يا بنا»، و«ضحية الظلم والعدوان يا بنا»، إلى أن وصلت الجنازة إلى مسجد قيسون، وكان قريبا جدا من المنزل، وصلى عليه الوالد، وكانت أمام المسجد سيارة نقل الموتى، وبعض التاكسيات، وبعد الصلاة وضعوا النعش فى السيارة الكبيرة، ومعه والدايا، وركب الآخرون فى التاكسيات، وكانت العربات المصفحة تقف على جانبى الطريق والعساكر بين كل عسكرى والآخر أقل من مترين، إلى أن وصلنا إلى المقبرة بالإمام الشافعى، ولم يتركه الضباط، ونزلوا معه إلى داخل المدفن، وتركوا عددا كبيرا من العساكر على باب المدفن، لمراقبة من يذهب لزيارته واعتقاله، وفى المساء لم يحضر للعزاء سوى مكرم باشا عبيد، وكانت دعوة والدى: «اللهم زلزل عرشهم»، وبقيت المصفحات فى الشارع أكثر من أسبوع.

وفى صباح اليوم التالى للجنازة ذهبت «فوزية» وزوجة شقيقى «عبدالرحمن» إلى المحافظة، لطلب إذن بزيارة زوجها «عبدالكريم» - كما أخبروها فى قسم البوليس- من شخص يدعى «إمام بك»، وعندما دخلا لسعادته قابلهما ورسم على وجهه التأثر وعزاهما، وقال التصريح من «بسيونى بك»، وكما فعل «إمام» فعل «بسيونى»، الذى قال التصريح من «عبدالعزيز بك»، وكانت هذه أول مرة تدخل فيها إحدى نساء العائلة قسم بوليس أو مبنى المحافظة، ولكن كان «عبدالعزيز بك» أحسنهم تقريبا، فقد أشفق على حالهما وأعطاهما إذنا، وعند باب المحافظة وجدتا سيارة بوليس فى انتظارهما، وبداخلها ضباط وعساكر ومخبرون، وساروا بهما إلى قصر العينى فوجدت زوجها فى حالة سيئة جدا، ويعانى من آلام شديدة، وكانت إصابته كسر فى المرفق فى يده اليمنى، ورصاصة دخلت وخرجت تحت الصرة قرب المثانة، وكانت يده فى الجبس بطريقة مؤلمة جدا، وشدوها خلفه، والجبس ثقيل أكثر من اللازم، ما سبب له الألم الشديد، وقال لزوجته: «عاوزين يموتونى شوفى لى دكتور غيرهم» وسألت فوزية حكيمة القسم: «جبتوله أكل؟»، فردت عليها: «لسه ما سمحوش له بالأكل علشان فيه رصاصة»، فقالت لها فوزية: «الرصاصة دخلت وخرجت من الخلف، يعنى ما فيش مانع من الأكل، لأنه ما فيش رصاصة فى الداخل، طيب أنزل أجيب له أكل»، لكن الضابط منعها، وقال: «اتركى له النقود وهم يجيبوا له الأكل»، فتركت فوزية النقود، وبعدها قال لها الضابط: «خلاص الزيارة انتهت»، وعند خروج فوزية أمسك «عبدالكريم» بيدها، وقال: «هاتيلى دكتور بسرعة أحسن حيموتونى، والمخبرين والعساكر اللى على باب الغرفة بيخشوا بالليل يخوفونى».

وأثناء خروجها قال لها الضابط: «تعرفى إن المصفحات هذه لم تخرج من بعد الحرب العالمية الثانية إلا فى هذا الحادث»، وكانت لفوزية صديقة دكتورة فطلبت منها أن تذهب معها لدكتور عظام، وشرحت لها الحالة، فقالت لها ممنوع دخول دكتور من الخارج، لمعالجة مريض بالمستشفى، لكنها فكرت قليلا، ثم أضافت: «أحمد المنيسى دكتور عظام، ويعمل بالمستشفى، نذهب له الآن، ونطلب منه أن يمر عليه ليفحص الحالة»، ولما شرحت له حالته قال: «إذا كان الجبس زى ما بتقولى فهذا غلط، وسأمر عليه غدا»، وبالفعل حضر فى الميعاد، وصعدت فوزية معه، ولكنها لم تدخل معه، لأنهم منعوا زيارتها، لكنها سمعته يقول للمدير بانفعال «لا بد لها من زيارته، ويكفى إن كل الناس بيقولوا إن حسن البنا كانت إصابته طفيفة، وإن الدكاترة فى قصر العينى قتلوه، وقطعوا له شرياناً تسبب فى الوفاة».

وروت لى «فوزية» بعد خروجى من السجن أن بعد خروج زوجها من المستشفى لاستكمال علاجه بالمنزل كان كل يوم خميس يحضر ضابط مباحث، ويسأل عنه، ويقول له: «سلامتك بنحب نطمن عليك»، والحقيقة أنه كان ينوى اعتقاله لو وجد أنه فك الجبس، وكانت عربة البوليس تنتظر فى شارع جانبى خلف المنزل، وكانا يذهبان إلى عيادة الدكتور المنيسى فيفك الجبس، وينظف الجرح من الصديد، ويلف له جبسا آخر إلى أن جف الجرح الداخلى، وقال خلاص ما فيش لزوم للجبس، فقالت له فوزية «أرجوك يا دكتور لا تفك الجبس، لأنهم سيعتقلونه لو فك الجبس وحضرتك شايف إنه ضعيف لا يتحمل الاعتقال»، فقال لها: «أخاف العظم ينشف، وعلى أى حال سأعمل له جبسا يستعمله وقت زيارة البوليس»، وعمل على يده جبسا واسعا، وكلما دق الباب يلبسه عبدالكريم.

وهذه هى أولى الفترات الصعبة، التى مرت بشقيقتى، وأجبرتها الضرورات على أن تصطدم بالجهاز الحكومى وبيروقراطيته، ومحاولته الإساءة إليها، لكنها تحملت هذه السخافات بشجاعة، وبتصرف حسن، وأفشلت الجهود التى أريد بها تعويقها حتى أذن الله بنهاية هذه الغمة، وسقط إبراهيم عبدالهادى ووزارته سقوطا شنيعا أدى به إلى مزبلة التاريخ، ولم يسمع عنه شىء بعد ذلك.

كان هذا حال الأسرة بعد اغتيال شقيقى حسن، واعتقالى وثلاثة من أشقائى، وأخذت تتطور الأمور من سيئ إلى أسوأ.

وفى تلك اللحظة وجدت وجه جمال البنا تظهر عليه علامات الحزن الشديد، ودمعت عيناه تأثرا، وخرجت منه كلمات رقيقة هادئة، فقال: لو كان الشيخ أحمد البنا والدى يكتب مذكراته مثلما تحاول أنت معى الآن لأخذنا فكرة كبيرة عن حالة اللوعة، التى اجتاحته والحسرة، التى تملكته عندما اضطرته الليالى السوداء أن يحمل بيديه جثمان ابنه، الذى كان بمثابة حياته ونور بصره، وأن يودعه قبره وحيدا بعد جنازة لم يحضرها عشرات الآلاف، الذين كانت تشق هتافاتهم له عنان السماء، ولكن حاصرت تابوته أسنة حراب البوليس، ولا يعلم إلا الله وحده ما انتاب والدى فى هذا اليوم، وما تلاه من أيام، وما كان يفكر فيه خلال الليالى الطويلة، التى أعقبت هذا الحدث، وكم مرة أذرف دمعا مدرارا، وما هى الهموم والآلام والأحزان، التى كانت تعصف به وحيدا فى مكتبه، وبأى عين كان ينظر إلى المستقبل القاتم بعد أن قتل ابنه البكرى، واعتقل بقية أبنائه، واضطر إلى ترك الشقة الرحبة الواسعة، وما تبع ذلك من إرهاب دخل الحوارى والأزقة والقرى النائية ومشط البيوت بيتا بيتا، وأصاب كل من له علاقة بالإخوان، لكن والدى كان رجلا مؤمنا وإماما فى علمه وفقهه وفهمه الإسلام، وفيم تفيد هذه المعرفة إن لم تكن فى مثل هذه الحوادث الجسام وفى مواجهة الآلام؟، كان والدى، رحمه الله، يعلم أن البلاء قسمة المؤمنين، وأن الشهادة تاج المجاهدين، فحال ذلك دون أن يتهاوى، وتماسك وأخفى ما يحتمل بين جنبيه من لوعات، وسجل فى دفتره العتيق ما يلى: «يوم السبت ١٤ ربيع الثانى سنة ١٣٦٨ الموافق ١٢ فبراير سنة ١٩٤٩ فى الساعة التاسعة مساء اغتيل المرحوم حسن ابنى ـ فهدم بفقده ركن من الإسلام ـ رحمه الله رحمة واسعة»، وأرسل إلينا فى المعتقل خطابا يواسينا ويوصينا بالصبر والاحتساب، ويذكرنا بأن البلاء هو حظ الأنبياء فالأولياء فالأمثل فالأمثل، وقد أخذ الأخ عبدالبديع صقر يقرأ الخطاب على المعتقلين بسجن الطور، وكان عجبه لا ينتهى من أسلوب الخطاب، ودقة كتابته، وعدم وجود شطب أو خلل فيه.

وأصاب مقتل حسن الأسرة بضربة لم تفق منها، فصحيح أنه لم يكن يؤثر أشقاءه بشىء، ولكنه كان للأسرة ذُخرا وفخرا، وأملها، وكانت تربطه بكل فرد من أفرادها وشيجة تضرب فى أعمق أعماق النفس، وصلة وثيقة من الطفولة حتى الرجولة، فقد كان إماما من المهد إلى الاستشهاد، فضلا عن الصورة الدراماتيكية والملابسات الإرهابية، التى وقع بها هذا الحدث الجلل من أجل ذلك، فإن والدى لم يعد أبدا ما كان عليه قبله، حتى وإن كان قد استأنف العمل، أما والدتى، رحمها الله، فقد كان مصابها يفوق الوصف، وأذكر أنها قبل الحادث كانت تسير إلى جانبى فى شارع الحلمية، ودقات حذائها تضرب الأرض بقوة، أما بعد خروجى من السجن فوجدتها- (وهنا دمعت عينا جمال البنا، وحاول أن يبدو متماسكا) - قد ظلت لمدة طويلة لا تستطيع أن تجلس إلا على عجلة مطاطية منفوخة بالهواء بعد أن أصبحت جلدا على عظم، وقد اعتادت بعد الحادث مباشرة أن تخرج كل يوم فى موعد من الليل لتزور قبر ابنها، وعندما كانت لا تجد وسيلة خاصة للركوب كانت تنتظر أكثر من ساعة لظهور أول ترام يذهب إلى الإمام الشافعى، وفشلت كل محاولاتى لإثنائها عن ذلك، أو إقناعها بالانتظار حتى تشرق الشمس، أما «فوزية» فقد كان مصابها مضاعفا إذ أصيب زوجها وقتل أخوها، فأصبحت مثل جليلة فى الزمن القديم، وتمزقت بين العناية بزوجها، ومواساة أمها، وكأن هذا كله لم يكن كافيا، فقد تسرب للأسرة أن شقيقى «عبدالباسط» فقد بصره فور علمه بالحادث، وكتب له والدى وشقيقتى يطلبان خطابا منه بخط يده، ليتأكدا من عدم صحة هذه الشائعة، وكان «عبدالباسط»، رحمه الله، أشدنا تأثرا، وكنت أواسيه لأسابيع بعد الحادث، وهو يضرب فى مجاهل معتقل الطور، ويسير على غير هدى، فلا أعاد الله هذه الأيام السوداء، إن مجرد تذكرها يجعل جلدى يقشعر، والعين تدمع.

 

 

المصرى اليوم

 

اخر الأخبار