معركة الأقصى .. إرادة الانتصار وحكمة المقاومة

تابعنا على:   12:08 2017-07-31

د. احمد الشقاقي

حققت معركة الأقصى في أدواتها ونتائجها انجازاً وطنياً يسجل للثورة الفلسطينية. وتمكن المقدسيون بالدرجة الأولى من صناعة أنموذجاً فريداً يمكن البناء عليه واستثماره في تشكيل طريق يحظى بإجماع وطني. وأمام عظمة الأبطال من صنعوا برباطهم وصلواتهم مقاومة. برزت ملاحظات مهمة رسمت مشهداً جديداً لصناعة الفعل السياسي القادر على إرهاق الاحتلال وضرب جبهاته الداخلية، وهو ما أكدته أرقام استطلاعات الرأي في فشل قيادة الاحتلال خلال معركة الأقصى.

إرادة الفلسطيني التي انتصرت في معركة الحرم أكدت أن القاعدة الشعبية الفلسطينية متعطشة لمجابهة الاحتلال وتحدي غطرسته ورفض سياسة أمر الواقع المتفاقمة في المدينة المقدسة، هذه الإرادة التي انتصرت في مناسبات عدة خلال المواجهة في غزة تجعل من الفلسطيني الذي يعيش الحصار في القطاع، وشقيقه الذي يلامس هيمنة الاحتلال في الضفة في ذات الكفة، وتعيد تصحيح مناكفات الكرسي والسلطة! وبالتالي فلا فرق بين فلسطيني وآخر، فالجميع تحت سطوة الاحتلال وغطرسته.

خرجت المعركة في الأقصى بأبطال جدد يضافوا إلى السجل الفلسطيني الحافل بالفداء، لكن هؤلاء المجاهدين تخطوا إمكانات الفصائل والقوى لقدرتهم على فك شيفرة المعادلة التي حاول الاحتلال فرضها في الاستفراد بمكونات الوطن كل على حدة، فانفجر السحر في وجه الساحر، وجمع الأبطال فلسطين كلها خلفهم، في معادلة تحدٍ افتقدناها ونحن في زخم الصراع الحزبي الضيق. رأيناهم في أزقة القدس العتيقة يتسربلون بكل شجاعة في وجه المحتل، ويصنعون أسطورة جديدة تؤكد قدرة الكف على مواجهة المخرز.

استطاع أبطال القدس أن يفرضوا معادلة مقاومة جديدة لا تقل أهمية عن الاستشهادي الفدائي، والصاروخ المرعب، لتتوسع قدرة المقاومة وتنتج الثورة الفلسطينية ما يقويها ويزيد من زخمها، بالاستناد إلى القوة الأعظم المتمثلة في شعب الرباط وجمهور المقاومة، من ارتفعت تكبيراتهم بعد منع الآذان، لتحقق المعجزة وتصنع التغيير وتفرض نفسها؛ ليعيد الاحتلال ومنظومته ترتيب أوراقه بعد أن فشلت استخبارات كيانه في تحديد طبيعة الشخصية المقدسية.

يمكن القول أن حالة التوافق التي صنعتها معركة الأقصى تؤكد عمق الحاجة الفلسطينية لبرنامج الثوابت، القادر على فرض نفسه وتجاوز برنامج التكتيك، لصالح توسيع الأدوات والخيارات بما يمكن الجميع من الخدمة، وبما يحقق هذا الثابت بعيدا عن لغة التفرد والتخوين.

ما قدمته حركة فتح وقيادة السلطة خلال هذه المعركة من موقف متقدم بالاستجابة لقرارات المجلس المركزي في وقف التنسيق الأمني وقطع الاتصالات مع الاحتلال جعلها تنهض مجدداً في نفوس الوطنيين، وتقدم بارقة أمل في قدرة الحركة الوطنية على نفض غبار السلطة عن كالها، وبما يمكنها من الاستجابة لتطلعات شعبها والنزول عند إرادة الجمهور وبما بجعلها متوافقة مع النفس الشعبي الرافض للسلوك السلمي تجاه الاحتلال المتنكر لكل المطالبات الدولية والمدعوم بموقف منحاز من الولايات المتحدة.

أما قوى المقاومة فلمسنا لديها حكمة عالية المستوى في التعامل مع حساسية الموقف، واستطاعت أن تتنبه لتوجهات الاحتلال الساعي لبعثرة الأوراق، وتمكنت من تفويت الفرصة في محطة مهمة، وفي وقت حساس تجاه فتح جبهة معركة، تخفف العبء عن جريمته في الأقصى وتسحب الضوء عن جريمته في الحرم القدسي.

حكمة المقاومة التي ربحت المعركة بعد أن تدخلت في تفاصيلها وأرسلت رسالتها للاحتلال،  دون أن تسحب المنطقة إلى معركة أخرى تتجنب المقاومة دخولها وفق رغبة الاحتلال.

ثقتنا بالمقاومة وقواها الحية يجعلنا نؤمن أنها جاهزة لتدافع عن قضايا أمتها في اللحظة الحاسمة، وفق حسابات وتفاصيل المعركة التي يحسن تقديرها أبطالها المجاهدين، ووفق قرارات قيادتهم السياسية المتلاصقة مع جماهير شعبنا وحاضنتهم الجماهيرية.

معركة القدس التي بدأها أبطال الداخل تمكنت من ضرب الاحتلال في مقتل، وعملية "الكارلو" جاءت في ذروة عمل انتفاضة القدس، وترسخت بالأداء الجهادي الفذ الذي صنعه المجاهد "عمر العبد" وجاءت عمليته الفدائية في لحظتها الحاسمة لتعيد الأمور إلى نصابها، وترسخ قاعدة أن المقاومة مرهونة باستمرار الاحتلال. إن عملية "حلميش" صنعت تحولاً مهماً في سياق معركة الأقصى وأضافت تكاملاً على المشهد المقاوم أوجع الاحتلال الذي كان ينتظر جبهة غزة فانفجرت في وجهه رام الله.

جاءت معركة الأقصى لتقدم قيادة جديدة تلتزم بدورها الوطني، وجدنا مرجعيات دينية تتوافق مع الغضب الشعبي وتحتضنه، تحدد بوصلته وتصنع قراره، تلتحم مع الغاضبين في وجه الاحتلال وتحرض على مجابهاته.  هذه القيادة أعادت الثقة في علماء الأمة وأرسلت رسالتها للمتخلفين عن الركب وأشعرتهم بتقاعسهم تجاه أولى القبلتين.

هذه المرجعيات الدينية استطاعت خلال المعركة أن تكون على قدر المسئولية ونحتاج منها أن تواصل جهدها وأدائها بذات الوتيرة، فهم أصحاب أمانة ومسئولية، وبالتالي فإن ما بعد محطة المعركة المستمرة يحتاج يقظتهم ودورهم، بعيداً عن التدخل السياسي الغير منضبط من ذلك الطرف أو غيره.

ما كشفته معركة الأقصى من تراجع لدى الأنظمة الرسمية تجاه قضية ثالث الحرمين يؤكد أن السباق تجاه التطبيع مع الاحتلال وفق الإرادة الأمريكية مسالة خنوع ومهانة، مقابل الحفاظ على كراسي الحكم وفق الالتزام المنحاز للاحتلال، والفلسطيني بات على قناعة تامة بأنه لا رجاء ممن خضع لمن قتل شعبه وسارع لتسليمه إلى تل أبيب في ضرب بعرض الحائط لكل معاني النخوة والشهامة.

إن المشهد الذي رسمته معركة الأقصى له ما بعده على كافة الأصعدة سواء في شكل العلاقات الداخلية، أو العلاقة مع الاحتلال، وبالتالي فلا مفر أمام الفلسطيني سوى اللجوء لخيار الوحدة الوطنية، وبوابته عقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير الفلسطينية وفق اتفاقات المصالحة، وبالتأسيس على ما جرى من تفاهمات في بيروت، وبعيداً عن شكل التفرد في قيادة الأجسام الرسمية الفلسطينية.

اخر الأخبار