سيرة وطن سيرة حياة ا(ج-5)

تابعنا على:   18:15 2017-04-23

غازي الخليلي

عشت في بيروت زمن الحرب الأهلية

(1)

بيروت خيمتنا...بيروت نجمتنا

 في ظل هذه المناخات والأجواء غادرت عمان إلى بيروت أواسط شهر نوفمبر 1973، بعد أن تمكنت من تجديد جواز سفري الأردني الذي كنت محتفظا به عند أحد الأصدقاء. غادرت عمان جوا لأنه لم يكن بإمكاني السفر عبر سورية، بعد أن جرى اعتقالي وإبعادي عن سورية عام 1965 لأسباب سياسية.

قبل أن أغادر عمان إلى بيروت بفترة قصيرة، بعث لي الرفيق أبو شهاب رسالة مع رفيق لبناني يستحثني للإسراع في القدوم إلى لبنان، لأن الأوضاع المستجدة بعد حرب تشرين/أكتوبر تستدعي مناقشتها بشكل مشترك كي نقرر ما يمكن عمله.

الرفيق أبو شهاب عراقي الجنسية، قدم إلى الأردن وانتمى مبكرا إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وشغل فيها مواقع قيادية بما فيها عضويته في المكتب السياسي للجبهة، وقد كنت وإياه ورفاق آخرون نقود تكتلا أو تيارا يساريا في الجبهة الشعبية، لتصحيح مسار عملها السياسي والفكري إزاء قضايا عدة، أوضحتها في الجزء الأول من مذكراتي "من أوراق العمر".

خلال وجودي في المعتقل كنت على اتصال دائم معه، ولكني فوجئت برسالة منه في شهر آذار عام 1972، يشرح فيها أنه في ضوء مواصلة قيادة الجبهة الشعبية لنهجها في خطف الطائرات، (حيث قامت بخطف طائرة ألمانية في شهر شباط عام 1972). وعدم التقيد بقرار اللجنة المركزية للجبهة المنعقد في 5/11/1970، بوقف عمليات خطف الطائرات، اضطر ورفاق آخرون إلى الانشقاق عن الجبهة وتشكيل فصيلا يساريا مستقلا تحت اسم "الجبهة الشعبية الثورية لتحرير فلسطين" وأنهم اختاروني أمينا عاما بإجماع أعضاء اللجنة المركزية المؤقتة التي تشكلت عقب الانشقاق، وطلب مني ألا أُخيب أملهم، وأن أؤيد وأدعم خطوتهم.

لقد فوجئت بانشقاق الرفاق، والذي جرى بعكس ما كنت متفاهما بشأنه مع "أبو شهاب" ورفاق آخرين، حيث كان توجهنا المتفق عليه ونحن في الأردن، أنه لا انشقاق مهما كانت الظروف، وأن نركز على تدعيم مواقع اليسار في هياكل الجبهة القيادية وفي مختلف المجالات والمواقع، وكان هذا ممكنا، وبخاصة أن الرفيق جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية، بدأ يتجاوب مع ما كنا نطرحه، وإن بحدود.

في ضوء معرفتي بعدد من الرفاق في التيار اليساري وشطحاتهم الفكرية التي كنت ألجمها، أدركت أن الرفاق بانشقاقهم أجهضوا باكرا فكرة قيام تيار يساري قوي وفاعل في الجبهة الشعبية، وأن تجربتهم الانشقاقية لن تعمر طويلا، بالرغم مما ادعاه أبو شهاب في رسالته من أنهم فوجئوا بالعدد الواسع والكبير من الأعضاء الذين التحقوا بهم. كتبت رسالة للرفاق أنتقد بشدة ما أقدموا عليه، وحذرت الرفيق أبو شهاب من بعض الرفاق ذوي الأفكار اليسارية المتطرفة والطفولية مثل أبو علي حميدي (سوري كان عضو مكتب سياسي في الجبهة الشعبية). وأوضحت فيها أنني بالرغم من عدم تأييدي لخطوتهم الانشقاقيةـ، فإني لن أعلن ذلك حاليا، وسأرى ما يمكن عمله بعد خروجي من السجن. كما طلبت أن يتوقفوا عن تسميتي أمينا عاما وأن يختاروا رفيقا آخر.

عندما التقيت الرفيق أبو شهاب حال وصولي بيروت، كان وضع الجبهة الثورية في حالة من التراجع الشديد، الكثير من الرفاق غادروها وعاد بعضهم إلى الجبهة الشعبية، وبعض آخر التحق بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وبقي الرفيق أبو شهاب وحوله بعض الرفاق الكادر وبضعة عشرات من العناصر القاعدية. تكلمت بصراحة مع الرفيق أبو شهاب عن كل ما جرى سابقا، وعن الأوضاع السياسية المستجدة بعد حرب تشرين/أكتوبر، وأوضحت له أني لا أفكر حاليا بالانتماء إلى أي تنظيم سياسي، وأنوي التفرغ لإنجاز بعض المشروعات الكتابية التي فكرت فيها خلال وجودي في السجن، وقلت له: إني لن أعلن عن ذلك فورا، ولكني سآخذ وقتي لإجراء بعض الاتصالات، وربما أشارك بصفتي الشخصية في النقاشات المحتدمة حاليا حول الأوضاع المستجدة وحول ما يطرح حول التوجه الفلسطيني لانتهاج سياسات مرحلية فلسطينية، سأحاول أن أكتب في بعض المنابر الصحفية، إن أمكن، حول وجهة نظري. وأضفت، أني سأبقى على اتصال معه ومع رفاق آخرين.

بيروت عندما وصلت إليها كانت تموج بحوارات ساخنة وصاخبة، وبخاصة حول الأفكار المستجدة بشأن الوجهة السياسية لفصائل المقاومة الفلسطينية بعد خضة حرب تشرين/أكتوبر. كان الجو السائد أن الحرب فتحت الطريق لتسوية سياسية سلمية للصراع العربي-الإسرائيلي، على الرغم من نتائج حرب تشرين/أكتوبر غير الحاسمة. الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حسمت موقفها السياسي، وأعلنت بكل وضوح برنامجها حول إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من فلسطين. وكانت الجبهة الديمقراطية تُروج أن التسوية قادمة وقريبة، وعلى الفلسطينيين أن يبادروا لاحتلال موقع لهم في قطار التسوية. الرفيق نايف حواتمه، الأمين العام للجبهة الديمقراطية أعلن في إحدى الندوات التي كانت تقام في صالة جمال عبد الناصر في جامعة بيروت العربية، "أن فلسطين العورة في جيبي، واللي بدو فلسطين العروس الكحلى ينام الليل الطويل."

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أعلنت رفضها لكافة الحلول والبرامج السياسية التي تنتقص من أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، ووصفت ما يُطرح من برامج أو يروج له من حلول قادمة حول إقامة سلطة فلسطينية أو دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، مشاريع استسلامية وتفريطية بحقوق الشعب الفلسطيني، وشنت حملة إعلامية نشطة ضدها، وأعلنت عن تشكل "جبهة الرفض ضد الحلول الاستسلامية" من كل القوى والفصائل الفلسطينية التي تتفق معها بالرأي. وأذكر، أني في تلك الفترة "أواسط العام 1974"، التقيت لقاء مطولا مع الرفيق الحكيم جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية، في مقر مجلة "إلى الأمام"، ودار بيننا حوار مطول حاولت خلاله إقناعه بالتخفيف من حدة طرح موقف الجبهة، ما أمكن، ونصحت بعدم استخدام كلمة "الرفض" لأنها ذات مضمون سلبي، والأفضل ربما، لو يجري استخدام تعبير التحالف الديمقراطي، أو ائتلاف القوى الوطنية ضد الحلول الاستسلامية. وانتقدت مواقف الجبهة الشعبية الرفضاوية، لأن لا شيء يشي بقرب الحل، كما يشيع بعض المستعجلين أو الواهمين. إلا أن الحكيم، مع احترامي وتقديري الشديدين له، كان في وضع وكأنه لم يكن يصغي إليَّ، كان مستغرقا في ورقة أمامه يخط ويرسم عليها كلمات "جبهة الرفض الفلسطينية ضد الحلول الاستسلامية. وستمر سنوات عدة قبل أن تغادر الجبهة الشعبية موقفها هذا، وتستعيد عضويتها في اللجنة التنفيذية عام 1981 بعد أن وافقت على برنامج الإجماع الوطني المرحلي عام 1979، برنامج العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة، بعد أن تبين لها أن كل ما كان يطرح من حلول قريبة، كان وهما ومجرد سراب.

في تلك الفترة، لم أكن قد حسمت موقفي. حيث كنت فكريا لا أزال أقرب إلى فكرة الدولة ثنائية القومية، أو دولة فلسطين العلمانية الديمقراطية على كامل أرض فلسطين التاريخية، دولة لجميع مواطنيها المقيمين على أرضها، من أي جنس أو لون أو قومية كانوا. كنت أهجس بهذا الفكرة وأنا في السجن، وأقلب في ذهني احتماليتها وما إذا كانت واقعيا ممكنة، ووضعت في ذهني وأنا في السجن تصورات أولية حول مشروع كتابي بهذا الخصوص. وللأسف لم يُتح لي الوقت لتنفيذ هذا المشروع الكتابي سواء خلال عملي في مركز الأبحاث، أو بعد أن استقلت من المركز.

في تلك الفترة كنت أرى أن ما يُروج له من قبل البعض حول الاحتمالية القريبة لسلطة فلسطينية أو لدولة فلسطينية على الجزء المحتل من فلسطين عام 1967، ليس أكثر من سراب، أو خديعة سياسية لتفتيت الصف الفلسطيني، وأن ما يشاع عن قرب الحل مجرد أوهام. لأن حجم التغييرات التي أحدثتها حرب تشرين/أكتوبر على الموقف الإسرائيلي ليست أساسية، ويمكن لإسرائيل استيعابها وامتصاصها خلال فترة قصيرة نسبيا. ناهيك أنني كنت أرى في حينه أن دولة فلسطينية على جزء صغير من أرض فلسطين، بإمكانيات وموارد ضعيفة، ومحاطة بدولتين طامعتين بها، إسرائيل والأردن، قد لا تتوفر لها شروط فعلية تمكنها من الحياة، أو أن تكون مستقلة فعلا. فقد تضطر بحثا عن مجال حيوي لها، إما للاتجاه والاحتماء شرقا نحو الأردن، أو الاتجاه غربا نحو إسرائيل عدوها القومي. وقد أوضحت موقفي هذا في أول مقابلة صحفية مطولة جرت معي بعد وصولي إلى بيروت. (نص المقابلة منشور بالكامل في مجلة "إلى الأمام" بتاريخ 3 و7 /12/1973). كما نشرت في الفترة نفسها مقالا مطولا بهذا الخصوص بعنوان "مناقشة هادئة حول موضوع الدولة الفلسطينية".

في تلك الفترة كانت صالة جمال عبد الناصر في جامعة بيروت العربية مركز أساسي لعقد الندوات الجماهيرية التي كان يطرح خلالها قادة فصائل المقاومة مواقفهم ورؤيتهم السياسية حول القضايا المطروحة. ولما دعيت إلى إحدى هذه الندوات، ترددت في البداية، لأني لم أكن قد حسمت موقفي السياسي بعد، ولكني في النهاية آثرت المشاركة للإدلاء بدلوي وطرح ما أفكر به، وإن كان ليس نهائيا، ولخصت الموقف الذي طرحته في ثلاث نقاط رئيسية هي:

1-      ليس صحيحا ما يشاع ويروج له البعض من أن الدولة الفلسطينية على الجزء المحتل من فلسطين عام 1967 باتت موضوعة على سكة الحل، فهذا مجرد أوهام.

2-      لا حل سياسي شامل مطروح في هذه المرحلة، وما هو مطروح أو ممكن هو حلول جزئية ومنفردة على الجبهات العربية، ولن تشمل المسألة الفلسطينية لأسباب كثيرة. وإن البرنامج السياسي المرحلي المطروح حاليا، على أهميته وبالرغم من الموقف منه، ضد أو مع، هو برنامج مرحلي ذا طابع استراتيجي. وقد يتطلب تحقيقه سنوات طويلة من النضال.

3-      أنا من حيث المبدأ، لست ضد اشتقاق رؤية سياسية مرنة أو التوافق على برنامج سياسي مرحلي، أو سموه ما شئتم، نواجه به العالم، ويتيح لنا طرح مواقفنا بواقعية وبطريقة يتفهمها العالم، والقوى الصديقة التي تناصر قضايانا، ولكن بدون أية أوهام حول إمكانية تحقيق ذلك قريبا.

كما قلت في البدايات، إذا نشأت ظروف وأوضاع تحول دون أن تحقق أية حركة وطنية طموحاتها السياسية كاملة، وبرزت إمكانية لحلول سياسية دون ذلك، تبقي على وجودها وتنقذ روحها وذاتها، وأحجمت عن التعاطي معها، تخطئ بحق شعبها، وتمكن العدو من مواصلة سحقها. صحيح أن مواقف كهذه لا تمثل سياسة بطولية تلقى الدعم الشعبي الواسع، ولكنها في ظروف معينة قد تكون أكثر السياسات بطولة. وهذا هو الخطأ التاريخي الذي ارتكبته قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية قبل الــــــ 1948، حين أحجمت عن التعاطي مع مشاريع ومواقف كان يمكن أن تنقذ الذات الوطنية والوجود الوطني من التبعثر والتشرد والتبديد لكيانيته المجتمعية والوطنية.

وبالنسبة لوضعنا بعد حرب تشرين/أكتوبر، فهو يختلف عما كان عليه الوضع عام 1948. حيث لم يكن مطروحا أي مشروع لحل فعلي بصدد الموضوع الفلسطيني. بعض الأوساط القيادية الفلسطينية كانت لديها مخاوف، وهي محقة بذلك، من أن يجري بتوافق عربي ترتيب حلا ما للأراضي المحتلة عام 1967، بمعزل عنها، ويعود العرب لفرض وصايتهم مجددا على القضية الفلسطينية. البرنامج السياسي المرحلي، كان مفيدا وضروريا كرؤية سياسية فلسطينية واقعية تمكن منظمة التحرير الفلسطينية من طرح نفسها طرفا مقبولا، ويمكنها من تحشيد الأصدقاء والمؤيدين، وتزيد في عزلة عدونا، ولكن بدون أية أوهام. ولكن ما جرى أننا كفلسطينيين طرحنا برنامجا مرحليا للتسوية السياسية، أوهم البعض وكأن الحل بات قاب قوسين أو أدنى، مما أربك الساحة الفلسطينية، ودفعنا إلى صراعات سياسية مبكرة كادت أن تتطور إلى صراع مسلح في بعض الأحيان، وتشق الساحة الفلسطينية، لولا حكمة البعض، في السيطرة على الوضع وضبط الاختلافات في الرأي والتعبير عنها بالحوار، على قاعدة الاختلاف والوحدة، بدون أي انشقاقات أو صراعات مسلحة واسعة.

اخر الأخبار