روايتي القادمة: الصندوق الأسود (المتوكل طه)

تابعنا على:   18:38 2014-03-02

كعادتها، ترمينا الأيام بما تشاء، فنتلقّى ما بيديها صابرين أو مُكرهين، إلاّ الحاج سعيد الذي مسك، على ما يبدو، عجلة السنين ، فأدارها كما يشتهي، لكنها أوصلته إلى مرفأ الهزيمة، فطوى مركبته الورقية، وأودعها في صندوق أسود، وأغلق عليها، وسمعه الناس يقول: يا سامعين الصوت صلّوا على محمد ، الحاضر يعْلم الغايب؛ القدس تحت الاحتلال!

وباعتباري وريثاً شرعياً للحاج سعيد، فمن حقّي أن أقرأ السِجلّ كاملاً، وأطرحه للقرّاء والتاريخ، دون أن أسمح لهواي بالانسراب بين شقوق الكلام، حفاظاً على الحقيقة، وحرصاً على الأمانة، وحتى لا أُنقّي "التاريخ"، الذي هو في النهاية وجهة نظر فيما وقع من أحداث.

والقصة من أوّلها، أن الحاج سعيد، وبعد أن خرج من سجن عكا العام 1939، وأمضى سبع سنين وراء القضبان، عاد لعمله في يافا، وتزّوج أُمّي، وكان يرى ويسمع ما يضجّ من حوله ، من أحداث، أراد أن يسجّلها بطريقة مُبتكرة جديدة، إذ أحضر دفتراً كبير الحجم بدفقيته المقوّيتين، وافتتحه بأن دلح كل ما عايشه من وقائع وحكايا ومعارك جرت إباّن انضمامه للثورة بعد أحداث البراق 1929، وما جرى بعدها، وكيف اعتقلته بريطانيا جريحاً، وأيامه في السجن، وشنق القادة الثلاثة، إلى أن وصل إلى يافا، فوجد أخاه ينوء بأعباء العائلة والتجارة، وما يمور في هذه المدينة ويتهددها.

كان الحاج سعيد، إذا استأنس بأحدهم، أخذه وفتح الدفتر أمامه ، وطلب منه أن يكتب رأيه أو شهادته أو موقفه أو ما يعرفه أو ردّة فعله، أو قصّة شهدها أو سمعها، أو مسألة تشغله أو يهجس بها، أو واقعة كان أحد أبطالها في قريته أو بلدته، أو أحداث وقعت لتوّها، وبخطّ يده. فوافق أن جمع هذا الكتاب مئات الآراء والمواقف والشهادات، لأولئك الذين رسموا بأيديهم مقطعاً عريضاً من تاريخ فلسطين، امتد من بداية الثلاثينيات إلى الخامس من حزيران العلام 1967، عندما أدرك الحاج سعيد أن الدفاتر، ومهما احتوت من حقائق وشواهد ووثائق، لا تغني عن ذلك الحِبر الأحمر،الذي هو أكثر توهّجاً وقدرة على حفظ التاريخ، وصيانة الأرض، وحماية المقدسات، التي وطأها الاحتلال، ببسطاره الساحق الماحق.

***

سامح الله أخي الكبير، الذي ضنّ عليّ بهذا الكنز المخطوط طيلة نصف قرن، اعتقاداً منه بأنه الأحق في حفظ ميراث أبينا، الذي لا يُباع ولا يُشترى !

قرأت ما في الصندوق الأسود من أوراق تهالك بعضها وغامت حروفها، ولكنه ما زال دفتراً معافىً، استطعت أن أتبيّن كل حرف فيه. وأزعم أنني قرأته غير مرّة، وكنت أكتشف عند كل معاودة أمراً جديداً، كأنه قد كُتب لاحقاً، أو أن الصفحات تنبع بأخبار جديدة وبأحداث وشخوص توالدت الآن، وأنا أمرّر عيوني على السطور.

وطاب لي أن أُسمّي هذا السجلّ بالصندوق الأسود، لسببين، أنني وجدته في صندوق أسود مقوّى، كأن الوالد، رحمه الله، يريد أن يقول: إن كل ما في الدفتر يحيطه السواد الغُرابي الكثيف، والثاني أن هذا السجلّ يشبه صندوق الطائرة الأسود، الذي يحفظ في أحشائه كل ما يتعلق بالطائرة، ولا يفتّ فيه حريق أو سقوط. بمعنى أن تاريخ فلسطين سيظلّ مُدْرَكاً رغم كل استراتيجيات الالغاء والنفي والتذويب، ومحاولات الشطب وإشاعة العدمية، رغم أننا لم نؤصّل، تماماً، تاريخنا، ولم ننته، بعد، من كتابه "روايتنا" الكاملة عن هذه المظْلمة التاريخية التي جرفت فلسطين وأهلها.

***

واليوم، وبعد نصف قرن تقريباً، أضع بين يدي القرّاء صندوق الحاج سعيد الأسود، ليرى الفلسطينيون خاصة، والآخرون عامّة، الحقائق الصغيرة والكبيرة والشواهد الساطعة والأحداث المريرة والوقائع المفجعة، والمسكوت عنه، وبعض ما يصدم العقل ويفجرّ القلب ويقلب الكثير من الحكايا والحقائق رأساً على عقب.

وبطبيعتي، لا أُحب ذلك الجانب "الفاضح" والجارح مما احتواه ذلك السجلّ، لكن الحقيقة، والكاتب حارس لها، لا بُدّ من أن تتجلّى دون نقصان، حتى تعي الأجيال ما كان، وما يبدو، سيكون !

وبدوْري، سأضع شهادتي، منذ أن حطّت اليراعات على كتفيّ طفلاً، في بيارات البلدة إلى يومي هذا. سأترسّم خُطى أبي الذي أورثني القيد والقصيدة، رغم أن قصيدته المنحوته على البوابة الشمالية لجامع علي بن ابي طالب، منذ عقود، لم تمنحني نقش الرخام البديع، في هذا الزمن ! ولديّ اثنان وأربعون كتاباً، اجترحتها، وتُرجم بعضها إلى تسع لغات ! ما يشير إلى أن الكتابة، اليوم، تقود إلى اللّعنة، وليس إلى التكريم! لكنها لعنة حميدة، أحتملها وأكرز بها كأنها الصليب على ظهري، الذي يشرّفني برسالة منحني إيّاها الباريء الكريم، لتكون قنديلاً يهدي في الظلمات من الظُلم والتمييز والاحتلال.

وسأكمل سجلّ الحاج سعيد، وسأعمل على تعبئة تلك السنوات بشهادات الرجال، الذين امتشقوا سيف الشمس على جنباتهم، وأشرعوها في وجه العتمات، وصولاً إلى ما أتحسّسه بقلبي، لأعقل كل ما مرّ من "تاريخ"، سيكون مشفوعاً بشهادات الكثيرين، الذين منحوني خلاصات رؤيتهم، وحكمة تجربتهم، وآخر قطرات روحهم التي تشبّعت بالعجاج والرطوبة والمنافي والمعتقلات والأوجاع والمآسي والخذلان.

أستمعت إلى كل حرف ندّ عن المُتعبين، أو صدر عن المكتئبين، أو لاب كالممسوس مندفعاً من ضلوع المصدورين، أو أوّب كالأعصار من أشداق السباع المجروحة بسهام أصحابها الخائنين.

أقف شاهداً، أفتح ورقي الأبيض لحبر قلوبهم ودموعهم وأيامهم الصعبة، لأسدّ ثغرة أراها في جدار حكايتنا، التي ينهشها النقيض بكل ما لديه من تغوّل وشراسة وساديّة، ولن يكون هذا الصندوق الأسود إلاّ كتاب فلسطين الدامي، الذي يحكي مشوارها المستحيل من العوسج إلى براري نرجسها الحالم.

وأعي جيداً بأنني لستُ محايداً، لكنني موضوعي وواقعي ونزيه، ألفّ الأمانات بحرير الكلام وأعيدها إلى أصحابها كما هي، طازجة كالمذبحة، أو مطهمة بالعويل المشروخ. وأرى ما ينبغي أن أراه، بمعنى أحفر حتى يظهر الماء الذي يرنّق جوف الأرض، لأتبيّن تلك الطبقات التي نحطّ عليها، ونعرف إلى أيّ حدّ يبلغ رسوخها أو ارتجاجها الهش، أو أنها ستومض معلنةً الانزلاق إلى المهاوي المتجمدة السحيقة.

وأفرد المدى بساطاً ريحياً يفضّ الآفاق، لنقارب أي قانون يحكم هذا الفضاء، الذي يجلّلنا تحت زرقته المخاتلة.

وأفتح فم الضبع ليظهر دم الضحية البريء أمام القضاة، الذين هم أهل لاحتمال أثقال الأمانة، والإجابة على أسئلة المقتول الذي لا يموت. فلتنفتح الأبواب، ولتشرع الشبابيك ألواحها، وليشقّ الخائف خوخة الدار .. عسى أن يجد الغائب أمامه.

إذن ، هذا هو ما قاله أصدقاء أبي ، وهذا ما أقوله ، وأمامي عدوّ واحد ، لامجال لرؤية غيره الآن .

اخر الأخبار