حين يشتبك الخاص بالعام: أنا غزة

تابعنا على:   19:29 2017-01-08

وفاء عبد الرحمن

في أبجديات النسوية تعلمنا أن النظام السياسي الاقتصادي يقصي النساء للحيز الخاص- غير المعترف به- ليحتكر الذكور تفاصيل الحيز العام، متجاهلين علاقات القوة التي تتحكم في العام وتأثيرها على الخاص.

في تجربتي الحياتية لم أفصل أبداً بين الحيزين، وتأصل لدي أن هذا الفصل مصطنع لصالح علاقات نفوذ وسيطرة لسجني والنساء بالعموم في صندوق زجاجي مكشوف للعام وظيفته فرض سيطرة غير مرئية، تشبه تماماً احتلال قطاع غزة!

قد يرى البعض أن هذه مقدمة تبريرية لأكتب عن خسارتي الشخصية في حيز "مفترض" أن أخصصه للعام، ولكني أراها مقدمة ضرورية لإثبات تداخل الحيزين!

أهم حدث سجلته في هذا العام- المشؤوم- هو رحيل أبي عن هذا العالم، وفي نعيي له، قلت "أخيراً، تحرر أبي من الاحتلال والحصار والانقسام والظلم".. لم أسجل رحيله خسارة شخصية، بل موقف مما يجري في هذا الوطن- 100 عام على وعد بلفور، و10 أعوام على الحصار، 50 عام على احتلال الضفة والقطاع!

الغياب الشخصي يسجل حضوراً صارخاً للألم والمصائب العامة، أبي رحل دون أن يحقق أي حلم بالانعتاق من الاحتلال والانقسام والحصار..

 سجلت أن الرحيل حرية، والرحيل الفلسطيني رحيل خاص أغلبه قد يكون للسماء وبعضه لأرض أخرى، ولا يلزم الفلسطيني رصاصة ليرحل، فهو يرحل "مجلوطاً"، و"مسرطنا"، ومقهورا ومحروقا بشمعة"، ومعلولا بأمراض لم يكتشفها العلم بعد.. فلديه كل أسباب الرحيل وكل مسبباته.

في 2016 سجلت رقماً قياسياً في توزيع التعازي – واجزم أن أغلبنا فعل مثلي- ورأيت في رحيل كل من واسيتهم وجه أبي المبتسم لحريته، ورأيت ذات انكسار قلبي في كلمات ووجع المودعين لأحبائهم.

 هل رحيل أبي خسارة وطنية؟ إن اعتبرته سند البيت وقلبه فالاجابة نعم، وإن اعتبرته واحداً من تمثلات غزة التي عاش فيها ومات فيها، فالاجابة طبعاً.. أبي يشبه غزة تماما ومسيرته تاريخها، وأنا نسخة عن الغزيين وعلاقتهم بها.

 أبي تحدى محيطه "المرتاح في مساحته الهادئة"، وغزة تحدت وهم الاحتلال "الحضاري" الذي فتح سوق العمل لأبنائها يركبون سياراتهم من غزة ليافا وحيفا والقدس ورام الله متى شاءوا.. وفي لحظة الحقيقة والمواجهة اختاروا تحدي "الفقاعة" التي يعيشون فيها وتجمل شكل الاحتلال وانتفضوا عليها، وابي تحدى محيطه بتعليم وحماية ثماني بنات رباهن على إعمال العقل واختيار طريقهن بغض النظر عن الأشواك!

 أبي يشبه غزة في الخسارات، أذكر انه وثق برأيي في اختيار مرشح الرئاسة، وطلب مساعدتي في انتقاء مرشحه، وأنا لم أبخل باسم تبين أنه لم يحصد في دائرتنا الانتخابية إلا صوت أبي وأمي!

 أبي لم يعط صوته للمرشح الذي اختاره الغزيون، وها هم يدفعون ثمن اختيارهم، وأبي فشل مرشحه ودفع الثمن مثل باقي الغزيين تماماً.

 في الانتخابات التشريعية، قال أنه تعلم الدرس، ولن يسألني من يختار، بل قرر أن لا ينتخب لأنه لا يثق بأحد، وغزة أعطت صوتها لقائمة خاسرة، لتواجه لاحقاً انتقام الرابح .. أبي وغزة دفعا ثمن اختياراتهما الحرة، وكان الثمن دم ومزيداً من الحصار!

حوصر أبي كغزة، وبدأ يتخلى عن أحلامه حلماً حلماً، ومع كل حلم خذلته قطعة من جسده، تعبت جوهرته اليسرى، في البداية رفض تسليمها لأطباء غزة فهو لا يثق بهم- كحال أهل غزة وعلاقتهم بحكامها-، ولكنه استسلم لاشتداد الحصار- كما استسلم الغزين للأمر الواقع-، وصدقت توقعاته ففقدها، خفنا على الجوهرة اليمنى، وحرثنا سجن غزة طولاً وعرضاً، وأبي الذي أدرك بتجربته وخبرته أن لا أمل، استسلم لإرادة السجن وقرر أنه اكتفى، وأنه تعب وقد آن له أن يستريح.. لم يصرخ ولم يستنجد، ونحن العاجزين من حوله لم ننتفض ولم نقدم شكوى، ولم نخرج شاهرين السيوف على من استنزفنا ومن حاصرنا، وقفنا نتفرج عليه يتسرب من أيدينا – كحلم- نبكي بصمت وننتظر- تماماً كما يفعل الغزيون اليوم!

في 2016 دفنت قطعة من قلبي في غزة، وفي 2016 دفن الغزيون الأمل في انهاء الانقسام، والحياة الكريمة بكهرباء تضيء حياتهم، ومستوى معيشة لائق يحميهم من العوز والحاجة!

 ثم يسألني بعض الغرباء، لم تنحازين لغزة؟ ببساطة لأنها تشبه أبي، بل لأنها تشبهني- أو يمكن لأنني أشبهها حتى اللعنة!

 ثم يسألني آخرون: لم أنت دائمة الغضب؟

ليت الغضب يتحول لحالة جماعية لينقلب لثورة.. آمين!

اخر الأخبار