العقل العربى وحرائق إسرائيل

تابعنا على:   10:25 2016-11-30

حلمي النمنم

حين نشبت الحرائق فى إسرائيل، الأسبوع الماضى، انتشر بيننا وعلى نطاق واسع تفسير، مفاده أن تلك الحرائق انتقام أو عقاب إلهى لإسرائيل، بسبب إقدامها على منع الأذان بمكبرات الصوت فى المساجد، ولم يكن ذلك التفسير إذا تأملناه بعمق مستساغاً ولا مقبولاً، لأن الحرائق بدأت فى مدينة حيفا، وهى مدينة عربية بامتياز، وتحمل عبق التراث العربى والإسلامى، وظلت بمبانيها وآثارها وسكانها العرب محتفظة بالروح العربية والفلسطينية إلى اليوم، وقبل سنوات قليلة، أصدر أحد أبناء حيفا كتاباً متميزاً بعنوان «حيفا ليست قرطبة»، راح يثبت فيه احتفاظ هذه المدينة إلى اليوم بطابعها العربى، وأنهم مصرون على أن تبقى كذلك.

إبراهيم باشا قائد الجيش المصرى- نجل العظيم محمد على- هو الذى أسس ميناء حيفا، حين سيطر الجيش على بلاد الشام، وقام بإعمار معظم مدنها.

والمزارع التى نشبت فيها الحرائق هى مزارع عربية، وأشجار الزيتون فلسطينية مملوكة لفلاحين فلسطينيين، مسلمين أو مسيحيين، والواقع أن القول بانتقام وعقاب أو غضب الله على ما تقوم به إسرائيل الآن يبدو معه وكأن إسرائيل من قبل لم ترتكب أى جرم فى فلسطين، ولم تهدم قرى بأكملها وتطرد أهلها خارج وطنهم، هل نسينا حريق المسجد الأقصى الذى نشب سنة 1969، وهل ننسى قتل الطفل الفلسطينى محمد الدرة أثناء الانتفاضة وغيره من عشرات الأطفال الفلسطينيين الأبرياء، ونحن تعلمنا من نبى الإسلام- صلى الله عليه وسلم- أن هدم الكعبة أهون عند الله من إزهاق روح بريئة.

ثم مضت عدة أيام، وإذا بتفسير آخر يظهر وينتشر بيننا، ينسف التفسير السابق تماماً، هذه المرة ذهب المفسرون إلى أن الحريق مُدبَّر، وإلى أن إسرائيل هى التى دبرته وأشعلته لتُوسع وتُنشئ مستوطنات جديدة على تلك المنطقة، لا يستند هذا التفسير إلى معلومات أو شواهد مُدقّقة، ويثير هذا التفسير تساؤلات أخرى.. منذ متى كانت إسرائيل بحاجة إلى مبرر كى تقيم مستوطنات جديدة، وهل كانت تستأذن أو تقدم للعالم أى مسوغ لتوسيع المستوطنات القائمة؟، إسرائيل تنتزع الملكيات وتصادر الأراضى، وتسن القوانين والتشريعات التى تسمح لها بذلك، ومن ثَمَّ فهى ليست بحاجة إلى إشعال حرائق كى يتيح لها ذلك توسيع مستوطنة أو بناء مستوطنة جديدة، الطريف أن إسرائيل افترضت كذلك أن هناك بين العرب مَن أشعل الحرائق، وألقت القبض على 13 مواطنا عربيا تحت هذه التهمة، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» أنه لو ثبت إشعال الحرائق عمداً فإنه سوف يتعامل مع الأمر باعتباره جريمة إرهابية.

وهكذا بين تفسير العقاب الإلهى وتفسير المؤامرة يتأرجح العقل والوجدان العربى، ولابد من التأكيد على الإيمان الكامل بالقدرة الإلهية، وأن الله سبحانه وتعالى يُقدر ويُسيّر الكون كله، بحكمة يعلمها جل جلاله، وأنه يُثيب ويعاقب بقدرته وحكمته، وليس وفق تصوراتنا ولا أهوائنا نحن، وما نلاحظه أننا ننساق وراء مشاعرنا أحياناً فى التفسير على هذا النحو، مثل القول بأن هزيمة 1967 كانت انتقاماً إلهياً من عبدالناصر، وهو التفسير الذى أشاعته جماعة الإخوان الإرهابية، دون أن ينتبه هؤلاء إلى دلالة ذلك التفسير الخطير، فإذا ذهبنا إلى القول بأن الله كان يعاقب عبدالناصر، فهل نجرؤ على القول- طبقاً لذلك- إن الله سبحانه وتعالى كان يكافئ ليفى أشكول وجولدا مائير وموشى ديان؟.. وهل من مقتضيات عقاب عبدالناصر أن تستولى إسرائيل على المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة؟.

أما عن فكرة المؤامرة فهى بالفعل موجودة فى التاريخ، لكن القول بها يأتى بعد ثبوت وقائع بعينها ومعلومات مؤكدة عن أفعال تآمرية، حين وقع العدوان الثلاثى على مصر قلنا إنه مؤامرة، لأن أطراف المؤامرة أعلنوا بأنفسهم عن ذلك، وحددوا ما قاموا به ودور كل طرف، هم سموه «اتفاق سيفر»، لكنه فى الحقيقة كان مؤامرة، أما فى حالة الحرائق الإسرائيلية فلم تظهر تحقيقات فى الموضوع، ولا أعلن أى طرف عن مسؤوليته تجاه هذا الفعل، ولا وجدنا مَن رحب به، وعلينا أن ننتظر إلى أن تتكشف حقائق الأمور.

الواضح أننا لم ننجح فى تكوين عقلية علمية، تعتمد التفكير العقلانى والمنطقى فى تفسير الأمور والحكم عليها، بغض النظر عن الحب والكراهية، القبول أو الرفض، من حق كل إنسان أن يحتفظ بمشاعره وأن يعبر عنها، ومن حق كل إنسان أن يتخذ الموقف السياسى والفكرى الذى يقتنع به، لكن من واجبنا كذلك ألا ننساق تماماً وراء مشاعر عفوية تدفعنا إلى تصور أشياء قد لا تكون حقيقية، والحكم على أمور دون أن تكون لدينا المعطيات التى تُمَكِّننا من ذلك، مما يهز مصداقيتنا، ويدفع الآخرين إلى ألا يتعاملوا معنا بالجدية اللائقة.

التعجل فى إصدار الأحكام دون بَيِّنة من الوقائع والأسباب يُلقى بنا فى إطار التفسيرات غير المنطقية، وقد يدفعنا ذلك إلى اتخاذ مواقف غير صحيحة، ليست مؤسَّسة على وقائع ودلالات ثابتة.

وبالتأكيد فإن العقلية العلمية والمنطقية لا تمس المشاعر الدينية، ولا تمس العقيدة الدينية ذاتها، بل إنها تزيد تلك المشاعر قوة وثقة، وتضيف إلى تعاملنا مع تلك المشاعر صقلاً عقلياً وثقة وقوة، فالدين الحق لا يتصادم مع العقل ولا مع إعماله فى شؤوننا ودنيانا.

اخر الأخبار