الخروج من استيطان "عشوائيات العالم"

تابعنا على:   11:16 2016-05-23

طارق حسن

تريد أن تنهض بمصر، وأنا كذلك.

جرّبنا ما جرّبنا. ٦٠ سنة، وأكثر قليلاً. النتيجة صارت واضحة: تقدمنا بخطوات معتبرة بسيادة وعلو شأن قيمة المبادرة الفردية، وتراجعنا بغيرها.

مجتمع «سيادة المبادرة الفردية» هو بذاته مجتمع المسؤولية الاجتماعية، والمسؤولية الوطنية. مجتمع الفرصة المتاحة لنمو وازدهار كل فرد دون تمييز، والخدمة الواحدة المتساوية لكل الأفراد. لا فرق بين وزير، أو خفير. مجتمع حرية الفكر. حرية الاعتقاد. حرية الرأى، والتنظيم السياسى. حرية العمل الاقتصادى والاجتماعى. حرية الفرد المصرى فى كل شىء، وحرية ممارسته ما يحقق مصلحته، وجودة حياته.

بالمبادرة الفردية، بلغت مصر مكانة محترمة: بَنَت البنك، والمصنع، والجامعة، والمشفى، والميناء، والجسر، والسينما، والمسرح، والصحافة. وعلَّمت، وتعلَّمت. وياللعجب كانت آنذاك محتلة.

استبدلنا المبادرة الفردية بسيادة البيروقراطية. بيروقراطية وزارة الأوقاف تحرم المصريين من نِعَم وخيرات وقفيات عمرت، وبَنَت مصر أهلياً، فى كل المجالات، بينما تغتنى، وتنتفع بها هذه البيروقراطية وحدها الآن، بغير حق. البيروقراطية مرض يستحق الاستئصال. والوقفيات تحتاج قانوناً يطلق العنان لحرية العمل الأهلى، وحرية تخصيص الوقفيات، ومكافأة أصحاب وقفيات بناء وعمران المجتمع، بالإعفاء من الضرائب وتقديم المغريات والتسهيلات. الأمم المتقدمة تفعل هذا. ونحن انقطعنا.

مبادرة الفرد، هى القيمة الأعلى، التى ما بعدها قيمة فى عصرنا الحالى. رفعت مجتمعات غربية وشرقية إلى أعلى مراتب النمو والتحضر والتفوق، بينما الحط من علو وسيادة المبادرة الفردية عندنا جعلنا نستوطن «عشوائيات العصر والعالم».

نريد التخلص من «عشوائيات» العاصمة، والمناطق الأخرى. جيد. عظيم. نريد بالأحرى الخلاص من استيطان «عشوائيات العصر والعالم».

ما حولنا نزاعات دموية، وانهيارات مجتمعية، ووطنية، وإرهاب، وتطرف وخراب. مجموعات خرجت من بُطُون وكهوف كتب التاريخ، كما يوم دخلته من زمن سحيق. تتلوى حية بيننا الآن. بجاهليتها الأولى فى مساحات الجغرافيا، والسياسة والوقائع الجارية. متى تنتهى؟ متى ننتهى؟ متى ينتهى مثل هذا الوضع؟ لا تعرف. ولا نعرف. لن نتورط فى مثل هذه المستنقعات. ولا قِبَل لنا بها. مهمتنا فقط تأمين مصر من جاهليات مدمرة. وبناء مصر من داخلها. وبداخلها. ولداخلها. ليس إلا.

نريد مصر نموذجاً معتبراً. بنت عصرها، وبنت أصلها. لا خلاص لنا إلا ببناء ذلك. مصر النموذج المعتبر، هى مصر الكاسحة. النموذج المعتبر، هو أصل قوتها الناعمة. هو مصر المتقدمة المتطورة العفية، القوية. عد بِنَا الآن إلى سيادة، وعلو «المبادرة الفردية». فى السياسة. فى المجتمع. فى الاقتصاد. فى كل مجال. لا سيادة إلا لقيمة الفرد المصرى. لا سيادة إلا لعقله الوطنى. الحكومة مجرد منظم مصالح وعلاقات.

قيمة الفرد حقيقة وجودية. قبل أن تكون سياسية، أو اجتماعية. لا فرد مثل فرد. ولا نفس مثل نفس. يوجد فقط شكل مثل شكل، أو قريب منه. إنما تخلق فرداً. وتموت فرداً. وتُبعث فرداً. وتفر من أمك، وأبيك وصاحبتك، وبنيك. وتُحاسَب فرداً.

أى نظام سياسى- اجتماعى لا يعتد بهذه الحقيقة، أو يتأسس عليها، خائب، مختل، مضطرب. لا يحقق الهدف. سيادة قيمة الفرد هى الدستور الواجب، وليس غيره.

آسف فى القول، إنما أرجوك، افهمنى. الاستثمار بالأجنبى، استثمار للأجنبى، لا يبنى مصر. إنما يستنزفها. الأجنبى يأخذ عوائد وأموال مشاريعه فينا، أو عندنا، إلى سيادة مالية أجنبية تخصه. أما المصرى فسيادته المالية فى البيت. وملك البيت. ولأهل البيت. المصرى يبنى بيته. ولا أحد غيره. أما غيره، فصاحب مصلحة. تذهب أغلب أموال المعونة الأمريكية لموظفى أمريكا. وعوائد المشروعات مع ألمانيا إلى ألمانيا. والخليج إلى الخليج.. وهكذا دواليك. ونحن، لا ربح يساوى، ولا يحزنون. مصانعنا متوقفة، أو قديمة. تجارتنا راكدة. منتجاتنا دون المستوى. فلاحونا، مزارعونا، متعثرون، مكبلون.

لا طريق إلا بالاستثمار فى المصريين والاستثمار بهم. التعليم الجيد ضرورة. وتحصيل العلم من مراكز التقدم والتفوق ضرورة ما بعدها ضرورة. نريد العودة لدولة البعثات. للحكومة، التى كانت ترسل طه حسين إلى فرنسا. ومثله إمام البعثات، رفاعة الطهطاوى، فيعود لنا الأول، وهو من هو، مفكراً، وأديباً، صائغاً لحياتنا بالعلم، الذى هو حق طبيعى، كالماء والهواء. ويعود لنا الثانى بمدرسة الألسن ومعارف التقدم. نريد العودة للبيوتات، التى طالما أرسلت أبناءها على نفقتها الخاصة إلى مراكز العلم المتقدمة. من الأجدى لنا الآن إيفاد بعثات تحصيل التقدم من الخارج من أوائل الثانوية العامة والدبلومات الفنية والتجارية. لا من حملة الشهادات الجامعية، ودارسى الماجستير والدكتوراه فقط. وللشركات والمؤسسات إرسال موظفيها للتدرب والتعلم.

بهذا. وليس بغيره، تعبر مصر المضائق، وتجتاز الضيق، فتغادر سكن عشوائيات العصر، لتستوطن العالم المعتبر.

عن المصري اليوم

اخر الأخبار