
هواجس تنطق بالرحيل (قصة قصيرة) محمد جبر الريفي

كانت الساعة الواحدة بعد الظهر وكنت على وشك أن تغادر المكتب والعودة إلى البيت حين فاجأك كتاب التقاعد من العمل الممهور بختم السلطة الوطنية، لم تنتبه يا أبا وديع إلا والكتاب أمامك على الطاولة وعند ذلك تطلعت يمنة ويسرة وكأنه يعز عليك أن تغادر هذا المكتب الوثير المليء بالملفات والأوراق فبقيت في الغرفة الأنيقة تمتع عينيك بأثاثها، يومها يا أبا وديع شعرت بفقدان الرغبة في الحياة وأن الأمل انتهى والأحلام تلاشت وسرعان ما تصورت أن حياتك المقبلة ستكون مليئة بشعور الكآبة فأي مشروع يمكن أن تتفرغ به بعد التقاعد وأنت تعرف في قرارة نفسك أنك لن تفلح سوى بالجلوس لساعات طويلة على المقعد الكبير مستمتعاً بحركة يديك وهي تقلب الأوراق.. كيف لهذا المقعد الفخم المريح أن يجلس عليه رجل غيرك يرخي ظهره عليه بكسل وخمول؟ وكيف تنسى فنجان القهوة الذي يكون دائماً في انتظار وصولك يحمله رجل مستخدم تعرف إنه مكلف من أجل راحتك فتحس عندها بالسعادة فتمد يدك إلى لفافة تبغ تمص أحشاءها بعنف؟ حين قفلت يا أبا وديع عائداً إلى البيت وجدت زوجتك أم وديع تجلس وحيده في الصالة وحين أخبرتها بكتاب التقاعد لم يبدو عليها أي انفعال فقط أخلدت إلى صمت لم يدم سوى ثوان بعدها نظرت إليك وقالت لك: وماذا ستفعل في الأيام القادمة؟ فرمقتها عند ذلك بغضب وقلت لها بنزق: بل قولي أين ستقضي أوقاتك القادمة؟ أنت تسأل بحدة وهي تخلد إلى الصمت مرة أخرى فهي تعرف أنك ستبقى في البيت وعندما تحمل كرسيك بعد صلاة العصر لتجلس أمام الباب فإنما يكون ذلك لوقت قصير لأن صراخ الأطفال الذين يلعبون في الشارع وصياح الباعة المتجولين وثرثرة النسوة أمام الأبواب قد تجعلك أخيراً تهرب إلى مكان آخر.. إن أم وديع لم تعرف في ذلك اليوم بماذا تجيب.. ماذا تقول لك يا أبا وديع وهي منذ أن اقترنت بك لم تعرفك إلا رجلاً موظفاً.. أتقول لك أخرج من البيت وغادر المطبخ واحمل كرسيك الصغير لتصبح مألوفاً للمارة وجزءاً من المشهد اليومي لذلك الشارع البائس الذي تفوح فيه رائحة القمامة المتكدسة: أيمكنها أن تقول لك ذلك يا أبا وديع قبل أن تنهض وتغيب في المطبخ؟ ولماذا لا تصدق يا أبا وديع إنها هي الأخرى وصلت في العمر إلى مرحلة الشيخوخة وأصبحت إمرأة مسنة تعاني من ألم الركبتين وإن لم يبدو عليها ذلك؟ كان عليك يا أبا وديع أن تقنعها في تلك اللحظة بهذه الحقيقة وقلت لها وهي تملأ كوب الشاي: رجل في مثل عمري وامرأة في مثل عمرك يا آمنة أتظنين إننا ما نزال صغاراً؟ حينذاك رفعت عينيها الواسعتين إلى وجهك فراعها منظره المليء بالتجاعيد وأخذت تنظر بعدها إلى شعر رأسك الذي غزاه الشيب فأصبح أبيضاً كالرخام فطفرت منها دمعة حزن لأنها رأتك بهذه الهيئة رجلاً ضعيفاً هزيلاً هرماً فاقداً لنشوة الحياة التي كنت تحس بها أثناء عودتك من العمل حيث كنت تقف للحظات أمام باعة الأرصفة، تتفرج على مشاهد السوق وتعلن في كل لحظة أنك حي موجود..
ها هي الأيام تمضي بسرعة يا أبا وديع وجسدك لم يعد قادراً على الحركة كما كان من قبل فبرودة الشتاء تؤذيك وعظامك تؤلمك خاصة وجع الأطراف وفي الأيام الحارة والرطبة في فصل الصيف تفتح نافذة غرفتك على مصراعيها وتمسح العرق المتصبب من جبهتك وتزداد التصاقاً بالمروحة الكهربائية مرتخياً عندها كقط هرم وهكذا لم تعد يا أبا وديع تخرج كل صباح كعادتك إلى السوق وتمشي أمام الدكاكين وتمر على حسبة السمك فترى الأسماك بأشكال وأحجام مختلفة ولحم البقر والخراف يتدلى والحياة تتفجر صاخبة ولا بد أن أم وديع تحس الآن بالسعادة لأنك أذنت لها أن تخرج إلى السوق وتمشي في الشوارع الضيقة المليئة بالناس لتشتري ما يحتاجه البيت من خضار ولحم وفواكه فيلفح النسيم القادم من نافذة سيارة الأجرة وجهها العريض وتغمرها الأمنية في أن تعيش هي الأخرى حياتها الباقية كما تريد..
الساعة الكبيرة في البيت تدق ليل نهار وعليك يا أبا وديع أن تنام وتصحو على صوتها، تخشى الظلام حين تخلد إلى النوم وما أن تستيقظ حتى تحس بجسدك المتعب.. لقد بت لا تعرف أين تذهب فالشوارع تمتد أمامك مليئة بالناس الذين يمضون لقضاء حاجاتهم فتستدير عيناك فترى شفاهاً مقطبة ووجوه جامدة لا حراك فيها.. لماذا لا توزع نظراتك يا أبا وديع على النوافذ والشرفات فربما يطل منها طفل صغير يرميك بابتسامة فما أحوجك في هذا العمر إلى ابتسامة حقيقية نابعة من القلب تعانقها بروحك.. بماذا تفكر يا أبا وديع في هذا السن المتقدم من العمر؟ أبا الموت الذي سيأتي لا محالة، كل يوم يمضي، يخطو بك قدماً نحو القبر، الخطوات الأولى التي مشيتها في جنازة زميلك السابق كانت قاسية، لقد سبقك أبو زكي إلى الموت ومن قال أن وفاته لم تهزك من الأعماق لحظتها أخذت عيناك تتعلقان بالنعش وابتعدت ما أمكن حينما رأيت حفرة القبر وكانت ضيقة ومظلمة وقد نظرت إليها ملياً وعند ذلك تململت بعصبية وبعدها انطلقت عائداً إلى البيت وما من فكرة في رأسك إلا فكرة الموت وحسب ما تعرف يا أبا وديع فإن شقيقك الأكبر الحاج شعبان قد مات قبل أشهر وشقيقتك الكبرى الحاجة سعدية قد لحقت به فتيبست نباتات البيت التي كانت ترعاها بعد وفاة زوجها الحاج لطفي فلم تعد الدالية تتدلى عناقيدها الخضراء وذبلت أوراق شجرة التوت وتهاوت أعمدة العريشة التي تجاور الباب.. أما وجع الموت فقد عرفته حين استشهد حفيدك أيمن ورحت تنتحب عليه كالصغار وتقول: لماذا قتلوه اليهود قرب حاجز إيرز وهو يجمع الحصى.. وجارك الحاج داوود قد مات هو الآخر قبل شهر ترك السيارة والدكان والحياة بضجيجها والحاجة بديعة أصبحت وحيدة بعد موت زوجها لا تقيم أي علاقة مع الجارات، فقط تسمح لذاكرتها الخصبة أن تنقب في الماضي البعيد، يوم كان لها قوام رشيق وشعر أسود فاحم منسدل على الظهر والكتفين وتسير بجانب زوجها الأستاذ زكريا في شارع اسكندر عوض في يافا تشبك ذراعها في ذراعه..!
لماذا تبكي الآن يا أبا وديع؟ أتبكي على العمر الذي مضى بسرعة البرق دون أن تحس به؟ أم تخشى من الموت القادم الذي يلاحقك فلا تستطيع الفرار منه؟ أهذا كل ما لديك فقط؟
لماذا لا تعيش الحياة كما هي تتذوق طعم الرغبة في البقاء ولا تفكر في الأيام القادمة؟
أنظر إلى الأعلى يا أبا وديع كي ترى العصافير الجميلة، الرعشة المتوثبة داخلها ترفض الموت فهي تغرد بين الأشجار وتعيش الحياة حتى منتهاها.. اسألها وهي تطير في السماء وقد أنهكها التغريد..
هل تفعل ذلك يا أبا وديع؟!