أردوغان في رؤيته العالمية للسلام: التعايش والتسامح والحوار بين الحضارات

تابعنا على:   15:12 2016-05-03

د. أحمد يوسف

في إحدى زياراتي للمكتبات في قاهرة المعز عام 2012، وقعت عيني في "مكتبة الشروق" على كتاب "رؤية للسلام العالمي" لرئيس الوزراء التركي – آنذاك – ورئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان، فتلقفت الكتاب، وأخذت أتصفحه بنهم، وما إن عدت إلى الفندق حتى قضيت الليل ساهراً في قراءته.
لقد كنت عائداً للتو من تركيا، بعد المشاركة في مؤتمر حول "الربيع العربي" التي دعت له رئاسة الوزراء التركية، وتحدث فيه السيد رجب طيب أردوغان، والذي سبق لي مجالسته في واشنطن وأنقرة واستانبول، وكنت مترجماً لحديثه في أكثر من مكالمة هاتفية مع الأخ إسماعيل هنية؛ رئيس الوزراء السابق، عندما كنت أعمل مستشاراً سياسياً له، وكنت أشعر من خلال تلك الاتصالات التي كان يجريها مع غزة، وكذلك مع تفاعله مع حركة النهوض العربي، كم كان الرجل صادقاً في مواقفه ومساعيه لجمع الصف ودعم حراك الشارع العربي، وقد لمست كذلك حيوية الجانب الإنساني في شخصيته، وأيضاً عاطفته الجياشة تجاه نصرة قضايا المسلمين، وخاصة في سوريا وفلسطين.
حاولتُ في تلك الليلة أن أنهي قراءة الكتاب، وأشكل رؤية واضحة من خلال المشاهدة والمطالعة عن شخصيّة سياسيّة كنت قد تعلقت بها، وأصبح لسان حالي هو التمجيد بها والدفاع عنها، عبر ما أكتبه أو أتحدث به بين الإخوة والأصدقاء. كان هذا الكتاب هو الدليل والبرهان للتأكيد أن ما يتحدث به أردوغان ويفعله منبثق من قناعاته الفكريّة وإيمانه العميق بشعبه وأمته، وليس وليد اللحظة والحدث.
أردوغان: الرؤية والمنهج ومساعي السلام
لقد أحسن الصديق د. برهان كور أوغلو؛ رئيس مركز حوار الحضارات بجامعة السلطان محمد الفاتح، في عمله بجمع هذا العدد من الخطابات (38 خطاباً)، التي ألقاها أردوغان في مناسبات عدة ما بين أعوام (2005 - 2011)، وتناول فيها رؤيته للسلام العالمي، وتقديمها في كتاب يفرض على كل من يريد فهم التجربة التركية واستيعابها، وخاصة في مشهد الحكم والسياسة من الاطلاع عليه؛ لأن فيه مفاتيح فهم لشخصية الزعيم أردوغان، والذي تحمل نبرات صوته ولغته اعتداداً بالنفس، وبتركيا - التاريخ والحضارة – وما تمثله من مكانة وأمجاد.
هذا الكتاب برغم مرور أربع سنوات على صدوره، إلا أنه الأفضل لفهم شخصيّة أردوغان؛ القائد والزعيم.
سأحاول استعراض صفحات هذا الكتاب، وتجلية بعض تلك المعاني التي جذبتني لهذه الشخصية، وجعلتني اتخذها نموذجاً من ناحية وعيه الإسلامي، وفهمه لرسالة الإنسان في الكون والحياة.
ينقسم الكتاب إلى مدخل بعنوان: "نهج جديد لتناول الحضارة العالميّة"، ثم ثلاثة أبواب، عناوينها: "تحالف الحضارات: مشروع لإنسانيّة عالميّة"، و"الانفتاح العالمي"، و"مدّ الجسور".
ويوضح "أردوغان" في المقدمة أن الكتاب يعدُّ جوابًا وردًا عالميًا ضد القمع والعنف والإرهاب والحرب والجرائم اللاإنسانيّة التي أحالت عالمنا بركة من الدماء، وطوّقت منطقتنا بسياج من الآلام والدموع والاضطرابات، وتسببت في موت الآلاف من البشر، وإصابة مئات الآلاف الآخرين بالعاهات الجسديّة، وشردت الملايين عن بيوتهم وأوطانهم، إنها مبادرة حب وصداقة وسلام أطلقناها ضدّ مختلف أنواع الحقد والكراهية والعداء، مضيفًا أن غايتنا هي تحقيق بناء وعى إنساني وضمير اجتماعي جديد، بغية أن يسود الجمال لا القبح، والخير لا الشر، والنور لا الظلام، وإن هدفنا البناء والحياة والبقاء لا الهدم والتخريب والدمار. ويقول أردوغان: "إننا لننظر إلى كل الأديان والمذاهب الموجودة داخل حدود الجمهوريّة التركيّة، باعتبارها ثراءً فكريًا كبيرًا، ونبذل جهودًا صادقة، لأن يعيش المنتسبون لكل الأديان والمذاهب مواطنين من الدرجة الأولى في هذه الدولة في راحة بال وطمأنينة، فلقد لقيت الأديان والمذاهب المختلفة في حاضرة الإمبراطوريّة العثمانيّة إسطنبول قبولاً وثراءً فكريًا وتسامحًا منقطع النظير، وتوفرت لها كافة الحقوق والإمكانات، وإذا كانت الإمبراطورية العثمانيّة تظهر عناية فائقة من أجل راحة الرعايا المسيحيين، فقد فتحت أحضانها لليهود أيضًا الذين طردوا من الأندلس".
ويشير أردوغان قائلاً: "لقد قمنا خلال السنوات العشر الأخيرة التي تولينا فيها السلطة في تركيا بالعمل على رفع المعايير الديمقراطيّة إلى أعلى المستويات بالنسبة لكافة المواطنين في الجمهورية التركية، وأجرينا إصلاحات مهمة أيضًا تجاه إعادة حقوق المنتمين إلى الأديان والمذاهب المختلفة". ويقول رئيس وزراء تركيا: "إن إفصاح الشعوب بشكل قوى عن مطالبها ورغباتها، ومطالبها بحقوقها المشروعة والمجاهرة بمعاداة الديكتاتورية لهو تقليد جُبلت عليه هذه المنطقة، وهو طبيعي لأقصى درجة، وإن من غير الطبيعي الديكتاتوريّة والظلم والقمع، وأن تُصمَّ الأنظمة الحاكمة آذانها عن مطالب الشعوب ورغباتها، لقد تحقق في الأصل ما تستحقه هذه المنطقة، وبدأ التاريخ في هذه الدول يتدفق في مجراه، وطالبت بحياة حرة تمارس فيها حقوقها وحرياتها الأساسيّة دون خوف أو قمع، وطالبت بنظام لا تعاقب فيه بسبب الكلمة أو الفكر أو المعتقدات، ويتساوى فيها الجميع أمام القانون، والأهم من ذلك كله، هو أن الشعوب في هذه الدول طالبت بأن تنتخب حكامها بإرادتها الحرة وأن تتمكن من مراقبتهم"..
ويؤكد أردوغان أنه ينبغي على الأنظمة الحاكمة الجديدة التي تتأسس اليوم أن تتعامل بأقصى درجات الحساسية إزاء مراعاة الحقوق والمساواة والعدالة، وأن مراعاة حقوق الأقليات والقطاعات المهمشة، لهى مسئولية ثقيلة تقع على كاهل الشعوب والسلطات كلها الموجودة في المنطقة. ويشدد أردوغان على أنه إذا ما رفعنا شعار التسامح، ونادينا بالتسامح، ودافعنا عن ثقافة التعايش الجماعي، فإننا لن نشهد أية هجمات عرقيّة مرة أخرى، كتلك التي حدثت في النرويج أو في ألمانيا، وأن الإرهاب الذى يستهدف عديدًا من الدول لن يتمكن من الوصول إلى مبتغاه.
فلسطين في سياق حوار الحضارات
لم تغب فلسطين عن أي مبادرة لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، فقد أشار أردوغان في كلمته بالدوحة بأن هناك حاجة ملحة إلى تحالف الحضارات؛ للحد من التوتر القائم بين الغرب والعالم الإسلامي, مع الإشارة بشكل خاص إلى أن قضية الشرق الأوسط تعد عنصراً رئيساً في تصعيد هذا التوتر.
نعم؛ يجب حل المشكلات المزمنة في الشرق الأوسط، ليس لإحلال السلام في منطقتنا؛ بل في العالم كافة؛ إذ يجب وقف النزيف والدموع في الشرق الأوسط.
وطالما استمر إرهاب الدولة في الشرق الأوسط، وتخريب مساعي المصالحة، وقصف الأطفال الأبرياء بالقنابل، وأسر الناس الأبرياء في السجون المفتوحة, فإننا لن نرى نور السلام في الأفق.
لقد كانت قمة تجليات هذا الموقف في مؤتمر دافوس، حينما انتفض أردوغان محتجاً على ما شاهده من تصفيق حار لكلمة شمعون بيرس، وقال في كلمة قوية لم يتوقعها الرئيس الإسرائيلي أو الشخصيات الغربية المشاركة في المؤتمر: "سيد بيرس.. أشعر بالحزن عندما يصفق الناس لما تقوله؛ لأن عدداً كبيراً من الناس قُتلوا، واعتقد أنه من الخطأ وغير الانساني أن نصفق لعملية أسفرت على مثل هذه النتائج". وغادر القاعة في حالة من الغضب الشديد لهذا النفاق الدولي، وسكوت العالم عن الجريمة الإسرائيليّة بقتل الآلاف من النساء والأطفال الفلسطينيين.
المحنة السوريّة والمواقف الغربيّة: نقطة الاختبار
لفتت تركيا انتباه العالم كلّه بعد حدوث الأزمة السورية عام 2011، وذلك باستقبالها لملايين اللاجئين القادمين من سوريا هرباً من الحرب في بلادهم، فحين قامت الثورة السوريّة قام نظام الأسد بمحاربة الشعب وقصفه وتدمير المدن بشكل كامل، ما أدى إلى حدوث موجات نزوح هائلة باتجاه بلدان الجوار السوري، وكانت أكبر الموجات باتجاه تركيا.
لا شكَّ أن هذه المحنة الإنسانية كانت المحك لكل الشعارات التي كان يرفعها رجب طيب أردوغان، واختبار المصداقية لكل ما قدمناه من خطابات في كتابه "رؤية عالمية للسلام"، حيث نجح بامتياز في الاختبار، ووجد السوريون ليس فقط ملاذاً آمناً لهم؛ بل أيضاً ترتيبات أنجزتها تركيا أردوغان مع دول الاتحاد الأوروبي لنقل عشرات الآلاف منهم إلى بعض دول الاتحاد، عبر هجرة شرعية برعاية تركيّة.
في الحقيقة، أثبتت مواقف أردوغان وتعاملاته مع الملف السوري مدى صدقيِّة هذا الزعيم في التعاطي مع المحنة التي ألمت باللاجئين السوريين، حيث فتحت لهم تركيا أردوغان أبواب الرحمة على مصراعيها، واستقبلت حوالي المليونين منهم، وعاملتهم كضيوف في بلدهم الثاني، وقدَّمت لهم كل المساعدات المطلوبة، وأنشأت المدارس والعيادات لتوفير الحياة الكريمة، وسمحت للقادرين منهم بالعمل كالمواطنين الأتراك في كل أرجاء البلاد.
ولعل ما ورد على لسان رئيس المجلس الأوروبي؛ دونالد تاسك، خلال زيارته لتركيا لمشاهد واقع اللاجئين هناك، وتفقد أحوالهم المعيشية يرد على كل من حاول التشكيك بالدور التركي، حيث قال: "لا يحق لأحد إعطاء تركيا دروساً في كيفية إيواء اللاجئين"، مشيراً "أن تركيا البلد الذي يمكن الاحتذاء به في عملية الإيواء"، وفقاً لتعبيره.
إن أردوغان نجح في جبِّ الغيبة عن نفسه، وأثبت للعالم أجمع من خلال استيعابه لمشكلة اللاجئين أنه ما زال الأقدر على التعاطي مع نزاعات المنطقة، والعمل مع المجتمع الدولي على إخراجها من أزماتها المستعصية، وقد تكون زعامة تركيا لمنظمة التعاون الإسلامي للسنوات الثلاث القادمة، هي الفرصة الذهبية للرئيس أردوغان للعمل على إطفاء الكثير من هذه الحرائق والخلافات، التي أخذت – للأسف - بُعداً طائفياً، وجعلت من الإرهاب عنواناً بشعاً للشرق الإسلامي، بحيث يتخذ منه الغرب ذريعة للتشهير، ومدخلاً للتحريض، ودافعاً لبسط هيمنته على دول المنطقة.
ختاماً: كلمة الزعيم ونصائحه للأمة
في كلمته للقمة الإسلاميّة التي انعقدت - مؤخراً - في استانبول، دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إعادة هيكلة مجلس الأمن ليضم دولاً إسلامية، وحث دول منظمة التعاون الإسلامي على العمل لحل مشاكلها بنفسها دون أن تسمح بالتدخل الخارجي.. وقال: "إن على المنظمة الدعوة إلى إعادة تشكيل مجلس الأمن في ضوء التغيرات العرقيّة والدينيّة، حتى يكون للعالم الإسلامي تأثير فيه". وأضاف أردوغان قائلاً: "إننا نمر بفترة حساسة، وأن موضوع هذه القمة هو العدالة والسلام.. لذلك، علينا أن نستعجل لتشخيص هذه المعاني"، مؤكداً أن الإرهابيين لا يمثلون دين الإسلام. وتابع "علينا إيجاد الحلول للإرهاب والأزمات الأخرى بأنفسنا في الدول الإسلاميّة من خلال التحالف الإسلامي ضد الإرهاب"، مشيراً إلى أن العالم الإسلامي هو الأكثر تضرراً من التنظيمات الإرهابية، ومنبهاً إلى أن الآخرين؛ أي من الدول الغربية، إنما يتدخلون من أجل النفط، وليس من أجل الرفاهية والسلام بيننا.
أعتقد أن الرجل يمتلك رؤية يمكن أن تجتمع عليها الأمة، إذا ما استطاعت الخروج من أزماتها القائمة، ونجحت الجهود في رأب صدع كل ما هو موجود، وهي عملية تعتمد على مدى حكمة أردوغان، واستعداده للانفتاح على كل من مصر وإيران، والاقتراب من الجميع بروح المسئولية والريادة الأبويّة.

اخر الأخبار