• الجمعة 29 مارس 2024
  • السنة السابعة عشر
  • En
تنويه أمد
حرب غزة تسير نحو فتح الباب لأهداف تتناقض جوهريا والمشروع الوطني، ما لم يحدث تطورا يعيد الاعتبار للوطنية الفلسطينية ممثلا وأدوات..دونها ستبدأ رحلة ردة سياسية بوصاية مشتركة على المستقبل الكياني العام.

عودة اليسار.. الشيوعي نموذجاً

تابعنا على:   12:26 2016-05-02

نصري الصايغ

حنا غريب، أميناً عاماً للحزب الشيوعي اللبناني، بعد ليل الأحزاب الطويل. ضوء أصيل غافَلَ يأسنا من الأحزاب، جرعة أمل ضد إدمان الاستعداد الدائم للاحتضار. حدث ذلك على غفلة من التوقع. مسارات الأمور كانت تشي بأن ما كُتب قد كُتب، وأن تقليد الطوائف مستساغ، وأسلوب المراوحة حكمة، وأن الحفاظ على الرتابة أقصى الممكنات... أحزاب مؤمنة بأمنها في مرحلة اللا وصول الدائمة. الإقامة في الكلام دليل عجز معتق. أحزاب فرغت من عقولها. تقلّد الطبقة السياسية في صياغة التخلف. هجرها المثقفون والمناضلون. هؤلاء الذين خرجوا، صاروا أصفاراً جميلة وغير مقيّدة في حساب التغيير. أسماء تلمع في فضاء مقفل. أصحاب زوايا وتكيات وذكريات. خسرتهم الأحزاب ولم يربحوا غير استقلاليتهم ومعاناة خيباتهم.
الحزب الشيوعي يشبه اليوم شبابه، على صورة من أقام في الشوارع ردحاً نضالياً، على هيئة أصوات وقبضات ومسيرات خبرت المواقع ومصاعب الإنجاز. جيل جديد، صاحب تجربة في الإصغاء لقضايا الناس، وصاحب خبرة في السياسة ببوصلة الناس، ضد اتجاهات الاحتراف المكتبي والبيروقراطي والتنظيمي الحاف والمملّ. جيل من لحظات التماس مع القضايا في مواقعها. لحماً ودماً وتحدثاً. ضد أسلوب الخطابة المُطنبة في ترداد الشعارات بلا رذاذ أو طحين. جيل قرّر أن يكون مختلفاً، فكان له ذلك. حنا غريب صورة طبق الأصل عن التغيير.
من حق مَن أنفق كل أمل سابق، أن يُعلن ولادة أمل للأحزاب، بعدما انحرفت عن ذاتها، وراحت تقلّد مشية الطوائف وتسير في ركابها، بلا قضايا. من حق مَن يمتلك ذرة إيمان بالناس، بلبنان، بالدولة، بالديموقراطية، بالعدالة الاجتماعية، بمحاربة الفساد في مواقعه عن جد، بتكريس المساءلة والمحاسبة، بوضع برنامج سياسي يتصل بكل صاحب مصلحة وشكوى وقضية، من حق هؤلاء، أن يتدرجوا في الرهان على المستقبل. ما حصل هو فاتحة والبقية تأتي. عسى ألا تخيب.
فسحة أمل ما حصل. الحاجة إلى صيانتها وحراستها من أمزجة الفتنة. الأحزاب امتلأت ضغائن وتلفيقات وانتهاكات. لم تغتسل بعد مما لحق بها في الحروب اللبنانية، ومن الاصطفافات السياسية السهلة والالتحاقية بلا ضوابط. الأحزاب انشغلت بذاتها وبما عندها. ولم يكن عندها غير ذاتها لتشتغل بها، فانصرفت عن شؤون الحياة والثقافة والفكر والإبداع، والتفت ببلاغة الببغاء... قاسٍ جداً هذا الكلام. أقسى منه انتظاراتنا الطويلة في رواق الإصلاح والنقد الذي أفضى إلى الصمت أو إلى التمرد أو إلى الاستقالة وأنفاق الوقت بتبرئة الذمة. فسحة أمل حقيقية في الحزب الشيوعي. هل عرفت الأحزاب الأخرى ذلك. ليتها!
الجيل الجديد، يمتلك عدة مختلفة. لقد حصل التغيير بالديموقراطية، وحسناً فعلت القيادة السابقة، أنها استقبلت التغيير، بأن غيّرت من ذاتها. المهالك منتظرة. حذار. حذار الاستقواء والتسلط والتشفي والانتقام. لا ضرورة لنقد ذاتي في جسم غير معافى بعد. الاحتضان والمشاركة خياران إلزاميان، من دونهما فتنة داخلية وحروب تصفيات. الأمل، أداة جمع لا وسيلة فرز. ما جاء بعد وقت التصنيف. الأمل معقود على القدرة في الإنجاز. الحاجة ماسّة إلى رواية أخرى، إلى نص مختلف، إلى لغة مقنعة وحقيقية وصافية وخالية من الفوقية والادعائية والتبريرية والانتهازية... لغة تخاطب العقل وتمس القلب وتحرك الأحاسيس بما تعنيه مفرداتها من صدق وتواصل والفة، تترجم عبر عقد الخناصر في المواقع والمواجهات، وهي قادمة وكثيرة. الرهان على الأمل، أن يكون صناعة متعاقدين مع المستقبل والجديد. فليذهب الماضي وحده. ليس وقته الآن.
هذا الأمل الجديد صعب جداً. الظروف غير مناسبة، ولكن لا خيار أمام مَن صنعه إلا أن يستكمل عدة النجاح. أولى الخطوات، المصالحة مع الذات في الداخل، وتكريس مبدأ الاختلاف يقود الديموقراطية الصارمة. تكريس حرية التفكير، من دون اللجوء إلى التكفير. الأحزاب كفّرت في السابق أكثر من الطوائف والمذاهب. سمّتهم «خوارج» و «منشقين» و «منحرفين». حذار الكبت والاضطهاد. سحقتنا ديكتاتورية الأحزاب.
أمام الجيل الجديد في الحزب الشيوعي، أن يقدم السيرة القدوة في الالتزام مقروناً بالانفتاح، الحزب ليس حكراً على مَن فيه أو على مَن يستقوي فيه. للشعب حق الملكية غير المعيّنة في الحزب. أي حزب يخرج منه الشعب، أو يُخرَج الشعب منه، يصبح رصيفاً بفراغ عظيم. أهل اليسار مدعوون إلى تجديد الأسئلة. الأسئلة القديمة لم تعد جائزة. السؤال الأبرز، ماذا غداً؟ أليس من غدٍ؟ ثمّة متسع للجميع. فليعُد اليساريون إلى الطليعة. النقاش بغاية العمل، يختلف عن النقاش بغاية «نحن البدائل». هناك أمكنة جديدة لا يمكن ملؤها بغير التواضع البنّاء. كل ادعاء احتقار للآخرين. الحق مع الجماعة إذا تآلفت في ما بينها، برغم الاختلاف. الاختلاف ثروة لمن يعرف كيف يوظفه ويديره ويؤطره. العناد قمة الأنانية وطريق سهل لارتكاب الانتهازية. أمام اليسار فرصة الجمع، ومد الجسور مع الشبيه والمختلف، وقطع الصلات بقوى الأمر الواقع.
أمام الجيل الجديد أن يقول: «تقضي الأمانة أن نمد جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا». مد الجسور وظيفة لتأسيس مرحلة التلاقي. الطائفيون الأذكياء فعلوها. اقاموا «تفاهمات» وتبادلوا الأوراق، انتخبوا توافقات صمدت، فيما الأحزاب اليسارية العقائدية والعلمانية «في كل وادٍ يهيمون». الحزبية التي عرفناها، تقليد مغلق. الحزبية الجديدة، تعددية في الداخل، وقبول بالتوافق مع التعددية في الخارج. ما يحيط بالوطن وبالمنطقة بحاجة إلى برنامج عمل نضالي مشترك. غير مقنع بعد الآن، تشتت اليسار وتشتت الأحزاب وتمزق العلمانيين. هنا امتحان النجاح. تشكيل جبهة مطلبية واحدة يلزم أن يصل إلى تشكيل أطر سياسية جامعة، وإلا، فالفشل يقضي على الأمل. الشعب بحاجة إلى إنجاز. إلى خطوة إلى الأمام، إلى تقديم صورة حية ومحيية، لا تشبه في شيء، صورة الأحزاب في الماضي القريب، ولا تشبه صورة تيارات الطبقة السياسية المريبة. التغيير يقتضي التجديد، والتجديد شرطه الوعي بالمرحلة والوسائل والمصاعب والتحديات. هذه فوق طاقة حزب وحده، فلا بد من برنامج حزبي شعبي يفتتح نقاشاً ويفتح أبواباً لانتماءات جديدة، مستعدّة لنضالات لا تنضب نتائجها، تراكماً وإنجازاً.
آمال كثيرة لا أوهام فيها. البناء على الأمل فضيلة، البناء على الأوهام خيانة. المنتظر، سردية أخرى تُكتب في الشارع والمعمل والجامعة وأماكن الإنتاج. المجتمع اللبناني لم يعُد مفرداً، صار جمعاً غوغائياً من طوائف ومذاهب. لبنان ضحية هؤلاء، وضحية غياب البدائل. إيجاد البدائل ليست صياغة نظرية فقط، بل هي ممارسة وخدمة واتساع أفق. اللبنانيون يعيشون ظلمة انعدام الأفق. لا أمل عندهم بلبنان وفي لبنان. هم مقيمون على قهر، وقلة ملتزمة غلة الجميع. جماعة نهب بلا حساب. جماعة ارتهان بلا مساءلة. الأمل يستولد العمل. العمل، برنامج يرسم أفقاً وطريقاً. من دونه، يبقى اللبنانيون، يائسين في جمهورية يائسة ودولة غائبة.
ليس كل ذلك مطلوباً من القيادة الجديدة في الحزب الشيوعي، ولا يُحمَّل المناضل حنا غريب كل هذه التحديات. المرحلة تحتاج إلى التفاف المواطنين والمنتمين والمثقفين والمفكرين والعلمانيين، عمالاً وغير عمال، في ورشة حراسة الأمل وصيانته.
يستحق الشيوعيون التهنئة على إنجازهم ويستحق حنا غريب مسؤولية القيادة، وعلى الأحزاب أن تعتبر. حياتها أو تجديد الحياة فيها، يتطلبان استدعاء للخيار الديموقراطي وممارسته، لتكون القيادات على قياس الأزمات أولاً وبطموح المستقبل دائماً. الأحزاب الراسية على ماضيها، صارت من الماضي.
هل هذه أضغاث أحلام؟ ربما، الأيام تجيب على ما جاء أعلاه.

عن السفير

اخر الأخبار