قراءة في كونشرتو الهولوكست والنكبة لربعي المدهون

تابعنا على:   15:41 2016-04-30

د.رياض عبدالكريم عواد

يصف الكاتب ربعي المدهون روايته فيقول هذه رواية عن فلسطينيين بقوا في وطنهم وحملوا الجنسية الاسرائيلية في عملية ظلم تاريخية نتج عنها (انتماء) مزدوج غريب ومتناقض، وهي ايضا رواية عن فلسطينيين اخرين هاجروا تحت وطأة حرب ١٩٤٨ ويحاولون العودة بطرق فردية. تتكون الرواية من اربعة حركات، تشغل كل حركة حكاية تنهض على بطلين اثنين.

١. الحركة الاولى، ايفانا اردكيان

في هذه الحركة سيتجول بنا الكاتب ربعي المدهون من خلال روايته الفائزة بعدد من الجوائز، سيجول بنا بين حيفا والمجدل واصا لنا حال هاتين المدينتين قبل النكبة وبعدها من خلال عائلة وليد المجدلاوية وعائلة جولي.

جولي من بيت اردكيان، العائلة الارمنية العكاوية الفلسطينية، واحد من الف ومائة وخمسة وعشرين بيتا ظل سليما في المدينة بعد حرب ١٩٤٨ ، سجلت هذه البيوت كاملاك غائبين، سُلم الكثير منها لتسكن فيها العائلات اليهودية من لاجئي الابادة النازية، في حين مُنعت العائلات الفلسطينية من السكن في هذه البيوت.

استطاع الكاتب ان يلخص ببساطة الموقف الفلسطيني، قبل حرب ١٩٤٨، من الوجود البريطاني في فلسطين، حيث لم ينظر البعض مثل، ايفانا، لهذا البريطاني كعدو يحتل الوطن ويسهل عملية اغتصابه من قبل العصابات اليهودية الصهيونية، بل نظر له بعين الانسان الساذج، وتعامل معه البعض حتى سقط في عشقه. لقد احبت ايفانا الضابط الطبيب الشاب الانجليزي، الذي وصل لحارة الفاخورة في عكا ليأخذها بعيدا من يدها، لقد عمى العشق عينيها فلم تعد ترى جون ضابطا بريطانيا مستعمرا كريها بل عاشقا وقعت من اول مرة امام ابتسامته!

 

في حين ان اغلب الفلسطينيين كانوا قد رفضوا هذا الوجود البريطاني ورفضوا التعامل معه وناصبوه العداء. فهاهو متري صاحب الحانوت في حارة عبود يصرخ في وجه الضابط جون عندما رءاه "بدي افهم مين جاب الانجليزي لعندنا هون؟ ......" ثم صرخ في وجه ايفانا وهي تمر من امامه"قولي للي مربيكي في بيته، سكان ساحة عبود ما بجوزوش بناتهم للانجليز، بكفيهم ثلاثين سنة راكبين البلد ومتشعبطين على كتافنا ومدندلين رجليهم، ناقص يركبو نسوانا كمان".

كما جسد موقف والدي ايفانا ورفضهما مصالحتها، والموت حتى دون الرد على رسائلها، رغم مرور السنوات الطويلة على ما فعلته، جسد بوضوح الموقف الشعبي المعادي للوجود البريطاني والتعامل معه. حملت ايفانا وولدت جولي وغادرت البلاد في مارس ١٩٤٨، حيث اعلنا والديها تبرؤهما من ابنتهما الوحيدة بعد يوم واحد من هروبها مع جون من الحارة. هاجر والداها وعاشا حياة بائسة في مخيم جسر الباشا في لبنان، ومات الاب مقهورا على اخيه وابنته التي رفض كل محاولات المصالحة معها، وماتت الام على ايدي قوات الكتائب اللبنانية التي اجتاحت المخيم في الحرب الاهلية ١٩٧٦ واجبرت اهله المسيحيين على مغادرته.

وها هي ايفانا تحاول ان تعتذر عما فعلت وتحاول ان تعود الى مسقط رأسها، حتى ولو كرماد في قنينة، حتى لا تلعنها عكا في مماتها كما لعنتها في حياتها. أوصت ايفانا قبل موتها ان توضع حفنة من رماد جسدها في قارورة ونقلها الى بيت والدها في ساحة عبود في عكا القديمة "خذو بعضي وكل روحي الى عكا يعتذران لها حار حارة ، خذو ما تبقى مني وشيعوني حيث ولدت ، .........اريد ان ادفن هنا وادفن هناك". صمتت لبرهة ثم قالت " ان تعذر الامر لسبب ما ، اكون سعيدة لو اخذتم هذا النصف من بقاياي الى القدس القديمة...". ادركت جولي بحسها ان والدتها "خشيت ان تلعنها عكا في مماتها كما لعنتها في حياتها حين هربت منها، ففتحت لروحها نافذة اخرى في القدس ، طلبا لمزيد من الرحمة".

كما تريد ايفانا من هذه العودة، بطريقتها الخاصة، الى الوطن ان تكون اول المنتظرين على باب الجنة، لتمنع المستوطنين اليهود من الاستيلاء على حصص الفلسطينيين هناك. مازح وليد، زوج ابنتها جولي، ايفانا "اتعرفين بان اليهود يعتقدون ان من تدفن جثته في تلك البلاد ، يكون اول من يبعث حيا، ويكون في مقدمة المنتظرين على باب الجنة يوم القيامة" اذن امنحوني الفرصة لان احجز لي مكانا في الطابور بحفنة من رماد ، قبل ان تمتلئ السماء بالمستوطنين الذين يزاحمون الفلسطينيين في الدنيا ويريدون الاستيلاء على حصصهم في الاخرة".

رحلت ايفانا في يوم صيفي، ومددت بثوب زفافها داخل التابوت الخشبي الذي تحرك ببطئ داخل المحرقة. تسلمت جولي رماد ايفانا في وعائين خزفيين صغيريين كما اوصت. من اعلى الجسر على نهر التايمز نثرت جولي رماد ايفانا في الهواء. رجع وليد وجولي غير مصدقين انهما دفنا بعض ايفانا في الريح، وجعلا فضاء لندن نصف مثواها الاخير.

بلغة بسيطة شعبية لخص الكاتب مأساة وواقع الفلسطينين الذين بقوا هناك في عكا القديمة في مواجهة اليهود الذين يريدون الاستيلاء ليس على بيوتهم فقط، بل وعلى تاريخهم. تجول وليد بين بيوت عكا القديمة وسكانها الخمسة الاف ونصف الالف الذين بقوا فيها، ينتظرون وبيوتهم ضحايا التهويد الزاحف من قبل اليهود الفرانسويين "اللي جيوبهم مليانة مصاري"، يا استاذ وليد "اليهود بدهم البيوت يشتروها وياخذوا تاريخها على البيعة اببلاش". تابع وليد طريقه بين يافطات تتحدى يافطات، "بيتي مش للبيع" مقابل يافطة اخرى "بيت للبيع". في ناس قاتلها الفقر وباعت بيوتها وفي ناس باعت من كثر مدايقات اليهود المتدنين، وفي ناس ما هانش عليها تبيع، هادول يا استاذ هن العكاوية الاصيلين ، ليش العرب اللي امتلتلين مصاري ما يشتروها؟! واصل وليد وجولي تجوالهما ووصلا الى مسجد الجزار ، دخلت جولي بعد ان خلعت نعليها، وغطت رأسها بشال، ورقصت في ساحة المسجد كصوفي عاشق ، وهي التي لم ترث المسيحية عن والديها ، ولم تتحول الى الاسلام حين تزوجته. وصلا الى كنيسة الروم الارثوذكس وعادا الى السوق الشعبي.

راجعت جولي امام وليد ما ذكرته لها والدتها ايفانا مرارا عن عكا وسورها "لم يحم عكا ويدافع عنها، في لحظات قوة رجالها وضعفهم، سوى سورها". في المطعم حاكت جولي لزوجها وليد قصة من خيالها عن الاستقبال الجيد الذي استقبلته لها السيد سمية، التي تقطن بيتهم في عكا وتريد ان تحوله الى نزل صغير للسياح وتسميه "نزل ايفانا" ، وكيف وضعت جولي التمثال الخزفي وما به من بقايا رماد امها فوق حامل ساعة الحائط الذي توقفت عقاربها عند فجر ١٨ مايو ١٩٤٨ بعد يومين من مغادرة جدها واهل عكا هاربين تلاحقهم القذائف والجوع والعطش وابتلعهم البحر ولفظهم في الغربة. بينما جولي غارقة في تأملها للبحر خيل الي وليد "انني أسمع اذان الفجر في مساجد المدينة، ولا ارى من يذهب الى الصلاة".

فجأة وفي مطار بن غوريون، بينما ينتظر وليد وجوليا لحظة المغادرة، اقترحت جوليا على وليد بيع بيتهم في لندن لتقضي ما تبقى من عمرها في عكا وليستعيد رأسها مسقطه، هي تريد ان تعيد كتابة ماضيها بطريقة تليق بها وبوالدها الضابط الانجليزي الذي احبته والدتها الارمنية الفلسطينية في لحظة ضعف بشري. اضافت جولي ، انها لن تمانع من شراء قطعة ارض في المجدل عسقلان، مسقط رأس وليد، يقيمان بيتا لهما. ما الذي فجر تلك الرغبة لدي جولي في العودة للاقامة في بلاد لا تعرفها؟! أهو ما حدث خلال الايام العشرة التي قضياها في البلاد، يقعان في عشق مدينة فتغار منها مدينة اخرى وتعاتبهما ثالثة؟.

يواصل ربعي المدهون في روايته الرائع وصف محاولة وليد في العودة الى مسقط رأسه المجدل، وين انت يمه، اجابها من خلال هاتفه الجوال، أنا في المجدل، معناتو الله راظي عليك يا مه، والله الروحه على المجدل زي الحجة الى بيت الله عشر مرات! بصلاة محمد عليك انك تبوس حيطان الجامع وتصلي فيه، الجامع الكبير الذي بناه الامير المملوكي سيف الدين سلار عام ١٣٠٠ ولم يتبق منه الا مأذنة ترتفع قليلا وبضع قباب باهتة، انا عارفاك ما بصليش، بس صلي فيه لامك بنوبك ثواب، الركعة في فلسطين بمائة الف ركعة في جامع المخيم!!! وين بقى بيتنا يا مه؟ وصفت له مكان البيت اللي تجوزت فيه وخلفت فيه وليد، فتل وليد حاله في الاتجاه الذي حددت فيه امه مكان بيتهم ، لم يجد الا ارض نظفتها جرافات الكتربلر الامريكية من ملامحها، ومكب للنفايات. قفز وليد الى الجانب الاخر من الشارع قبالة خان اشكلون موزيم، يا الهي، كيف اصلي ركعتين انذرهما لامي في مسجد اصبح متحفا وحانة؟

اخر الأخبار