
وأخيرا قالها هيكل
احمد عسيري
ينعته البعض بحارس القبور، خوفاً من أن تستيقظ وتصرخ من تحت التراب ضد مزاعمه وميراثه الفكري وتلفيقاته وتضليلاته، يملك ذاكرة صلدة وجاذبية أخاذة، واستثارة طاغية للرأي العام، ولكنه مدلس كبير، سعى لسنوات فارطة لصناعة منشأة لفظية وطرازات قولية حاضنة للاجترار المضطرب، والتقويم المزاجي وغواية الأوهام، أطل هذا الأسبوع وقد اشتعل رأسه شيبا، في حوار طويل مع الإعلامية لميس الحديدي، ليدون مسرداته وتوقعاته للعام القادم في ظل الواقع العربي المتخم بالفوضوية، والأحداث السياسية وليرصد بدقة متناهية تفاصيل المتواليات الضخمة، والمشتعلة في راهن العالم العربي وما فيه من مشاهد مفعمة بالخيبة والمرارة والقتل، والعبثية والتشظي والتحولات الدراماتيكية المدمرة.
تحدث محمد حسنين هيكل، بعيدا عن طقوس الوأد والنفي وما اعتدنا عليه من تشويه لطهارة الآخرين وسرقة ودفن لرموز تاريخية، ومواقف سياسية لدول وشعوب. سعى جاهداً لتبشيع صورتها والتغافل عن دورها الاستنهاضي والحضاري والوحدوي، وتقويض خطابها العاقل والمستنير والمنطلق من ثوابت قيمية شديدة الإخلاص، غير مرتهنة للمعادلات المغلوطة والمناخات المعتمة المشاكسة، ها هو هيكل يخفض غلواءه في انعطافة تاريخية، وقد استوعب الفضاءات الكابوسية والمفخخة، واستشعر خطورة الرياح العاتية التي يمر بها الوطن العربي، مما جعله لا يشيح بعقله عن الاعتراف بأن التكامل والتفاهم "السعودي المصري" هو الضمانة والمتن والضرورة والمهماز والبؤرة المركزية، والمنقذ من سقوط السقف وعواقب الدهر المتربص بهذه الأمة.
ها هو هيكل يأخذ التاريخ ـ ولو متأخراً ـ إلى محتواه المنصف، بعد أن وقف بالعرض زوراً وبهتانا لسنوات طويلة في شارع الأحداث والأزمات والتحولات، وهذا ما يجب أن يفعله ويقوله المخلصون، والذين لم يقعوا فريسة التعابث التاريخي والركض ضد التاريخ والذاكرة والحقيقة، نشهد في هذه الحقبة تهافت كثير من الحمولات والمكايدات والعنجهيات الخرقاء والانزياحات المختلقة، التي اقتات عليها بعض هواة الخطاب المستعر، والقراءات التأويلية الخاطئة والانفجارات الكلامية الغليظة، بعد أن سقطت الأقنعة وأشرقت الشمس وزال الالتباس الكثيف عن عقولها ومس أصابعها جمر الواقع.
إن الفكر النبيل هو الذي يسعى لتقليص المسافات، وإحياء المشتركات ودفن الملاسنات بين أجنحة الأمة ،أمام تعاظم المخاطر وتبدلات المواقف، بعيداً عن مكنونات الاشتهاء الذاتي والنرجسي والمفاهيم المبوبة والمستهلكة.
إن أي أمة تنطلق من المعيار الأخلاقي والفعل الوطني المستمد من ثوابتها المؤسسة على الصدق والوضوح والمكاشفة والإرادة المتعالية عن الصغائر، والامتلاء السياسي والعقلي والترفع عن المزايدات الرخيصة والمبتذلة، لهي جديرة بأن تقود وتحيا لتقي الأوطان من المتاهات والمزالق والحرائق والمصير الأسود، وهذا ما تفعله بلادنا ولو كره الكارهون.
عن الوطن السعودية