فن الكلام الصادق (بين ناصر والبنا)
تاريخ النشر : 2018-10-12 13:04

نستكمل الحلقات حول فن الحديث والإلقاء ومن حيث أنه يمثل فنا حين القول ونطق اللسان، واختيار الكلمات المناسبة للموقف، وفن للصوت، وفن للحركة الجسدية بالعينين واليدين والجبين والصورة اجمالا، وعلم يؤمن بالاهداف والوسيلة والنتيجة

وضوح الهدف وابن حزم

الفقيه الإمام ابن حزم الأندلسي صاحب الأهداف الواضحة في مسيرة حياته كتب 400 مؤلف، وكان كما يقول المؤرخون يجد ويستريح-ويشهد مجالس الأصدقاء- ويسمر مع الظرفاء ويسمع أحيانا الغناء حتى الفجر، ثم يقوم للصلاة ويعتكف ليكتب ويؤلف ويعتذر لزائريه عن عدم استقبالهم، ثم يخرج من عزلته بعد أيام فيسترضي أصحابه ويعيد سيرته من جديد.

وهكذا الى آخر يوم في حياته بلا سأم ولا ملل ولا يأس من "أن الأوائل قد فازوا بكل فضل" ولم يعد هناك مجال للإضافة! فأصبح هو نفسه من "الاوائل" المجتهدين.

وهكذا شأن من يريد تعلم أي مهارة او صنعة فيطوّر ملكاته، ومنها فن إلقاء المحاضرات والحديث التي نحن بشأنها، فلا نتكاسل بل نتواصل بلا كلل ولا ملل بهدف واضح.

وكان الاديب الايرلندي "برنارد شو" يقول أنه يفضل أن يحيا وأمامه دائما هدف يسعى اليه من أن يعيش وقد حقق كل أهدافه وأصبحت وراءه، لأن النجاح التام لا يعني سوى انتهاء مهمة الانسان في الحياة، كذكر العنكبوت الذي تقتله انثاه بعد الإخصاب.

ولنا مثال آخر في العمل لهدف طوال حياتنا فالعالم البيروني زار قاضي القضاة وهو يحتضر ففوجيء به يسأله عن مسالة فقهية؟! فإذا ما أشفق عليه من أن يشغل نفسه بذلك وهو في لحظاته الأخيرة!

فيجيبه:لأن اموت وأنا عالم بهذه المسالة أفضل من اموت وأنا جاهل بها، فيجيبه عنها ويناقشه البيروني فيها، ثم يموت وهو عالم بها بعد دقائق من انصراف زائره.[1] وهو عموما في سياق الحديث الشريف "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها". 

ناصر والبنا

كان جمال عبد الناصر بشخصيته الآسرة ووقع كلماته مؤثرا الى الدرجة التي يستطيع فيها تحريك الجماهير بأي اتجاه تقررها سياسته، وللمفارقة فأن حسن البنا مؤسس الاخوان المسلمين كان يمتلك ذات الصفات المتعلقة بفن الحديث.

فان كانت دراسة حسن البنا في الكُتّاب ثم دار العلوم وحفظه -كما يذكر- ل18000 بيت من الشعر وكثير من النثر قد أثرت عليه في اتقان فن الخطابة واندفاعه وامتلاكه الهدف، فان جمال عبدالناصر قد صقلته التجارب العسكرية (منها في فلسطين) والسياسية الى الدرجة التي اتقن فيها تحريك الجماهير بإشارة من يده

تتخطى خطب ناصر الألف[2] وكثير منها على الشابكة (الإنترنت) على موقع تم إنشاؤه خصيصًا للرئيس الراحل بالتعاون بين مؤسسة جمال عبد الناصر ومكتبة الإسكندرية، ويتواجد ضمن هذا الكم الهائل خطب أمثلة لا تُنسى، وتُشكل علامات فارقة فى التاريخ المصرى، ومن أبرزها كلمته فى 27 يوليو عام 1954 بالإذاعة المصرية أثناء توقيعه بالأحرف الأولى من اسمه على اتفاقية الجلاء عن القناة.

ومن الخطب أيضًا التى يمكن القول بأنها واحدة من أهم بطاقات التعارف بين الرئيس الراحل والشعب المصرى خطبته فى ميدان المنشية يوم 26 أكتوبر عام 1954 بمناسبة عيد الجلاء، خاصة أنه تعرض خلالها لمحاولة اغتيال من عناصر "الإخوان"، إلا أنه عاد ليستكمل خطابه بسرعة كبيرة، ما يدلل على حسن استثماره للموقف والحديث دون ارتباك او انسحاب اوتراجع كما يفعل الرؤساء اليوم حينما يتعرضون لهجوم ما او خطر.

حيث انطلق يصرخ بعد تعرضه لاطلاق النار قائلا: «أيها الأحرار.. فليبق كل فى مكانه.. دمى فداء لكم.. حياتى فداء لكم.. دمى فداء مصر.. حياتى فداء مصر.. أيها الرجال.. أيها الأحرار.. أيها الرجال.. أيها الأحرار.. دمى فداء لكم.. حياتى فداء مصر".

بينما، يُعتبر الخطاب الأصعب فى تاريخ جمال عبد الناصر على الإطلاق كما يقول محمد سلطان في صحيفة اليوم السابع في 18 يناير 2018 هو خطاب التنحى الذى ألقاه من الرائي (التلفزة) المصرىة فى 9 يونيو عام 1967، وذلك على إثر الهزيمة من "إسرائيل"، وتعتبر أهم فقرة فى هذا الخطاب: "نصل الآن إلى نقطة مهمة فى هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسؤولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق - وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى فى الأزمة - فإننى على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر".

بكل بساطة اتسم حديث ناصر بالطلاقة بالحديث والصحة الجيدة اضافة للبساطة حيث كان يتنقل بين الفصحى والعامية وكلام التحفيز ذو الجرس القوي الى الطرفة والنكته اللطيفة سمة المصريين فيرى الناس انفسهم فيه.

حتى قال احد الكتاب الاجانب وهو "روبرت سان جون" في كتابه "الريس": ان الناس كانت ترى نفسها فيه لذا كانت تنظر اكثر مما تسمع.

وهو الى ذلك شكل رمزيته بالارتباط بالارض والقضية والشعب فتماهى مع لون الارض كما حصل لاحقا مع ياسر عرفات الذي كانت شعبيته طاغية وجاذبيته تطغى على عدم فصاحة ألفاظه.

اما حسن البنا فلقد كان ذو عزيمة وهدف واضح منذ بداياته فقد كتب موضوعًا إنشائيًا وهو في دار العلوم كان عنوانه ما هي آمالك في الحياة بعد أن تتخرج؟ أشار فيه بوضوح لفن الحديث والخطابة وسعيه الملحاح له، فقال فيه:

«إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أمل خاص وأمل عام. فالخاص: هو إسعاد أسرتي وقرابتي مااستطعت إلى ذلك سبيلاً. والعام: هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء وأقضي ليلي في تعليم الآباء أهداف دينهم ومنابع سعادتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.»[3]

وهو الى ذلك فلقد اكتسب رمزية وجاذبية طاغية دعت الكثير من جلسائه وأصدقائه يصفون الخضوع له "كالميت بين يدي المغسل"،[4] كما هو الشأن بالطرق الصوفية التي تأثر البنا بالطريقة الحصافية منها.

[1] عبدالوهاب مطاوع، أرجوك لا تفهمني، دار الشروق،القاهرة،ط3،2001 ص82

محمد سلطان في صحيفة اليوم السابع في 18 يناير 2018 [2]

[3] عن الموسوعة الحرة في الشابكة.

الكلام منسوب للتلمساني في وصفه لعلاقته مع حسن البنا.[4]