ميثاق "حماس" الجديد: "الفلسطنة" على حساب "الأسلمة" (1 من 2)
تاريخ النشر : 2017-11-19 20:52

في الأول من أيار 2017، أصدرت "حماس" ما أسمتها "وثيقة المبادئ والسياسات العامة"، بعد تكهنات استمرت سنوات، بأن الحركة تعكف إما على تغيير ميثاقها الأصلي الذي أصدرته عام 1988، أو على صياغة وثيقة سياسية جديدة تعيد من خلالها الحركة تقديم نفسها وفكرها في ضوء خبرتها المتراكمة ونضج تجربتها. الوثيقة التي بين أيدينا تقدم مؤشراً مهماً على الشوط الذي قطعته "حماس" في مسيرتها السياسية، إن لجهة الفكر والنظرية أو الممارسة العملية، وتعيد تأكيد مواقف الحركة القديمة والثابتة، إلى جانب طرح بعض المواقف الجديدة. ويحيلنا التأمل في توقيت إصدار هذه الوثيقة، إضافة إلى التدقيق في مضامينها المهمة وإمكانيات تطبيقها؛ إلى اعتبار هذه الوثيقة بمثابة ميثاق جديد لـ"حماس"، ذاك أنها تفصّل رؤية الحركة للنضال ضد "المشروع الصهيوني" وإسرائيل، كما تحدد خطوط إستراتيجيتها العامة في مواجهة ذلك المشروع. وفي ضوء هكذا جدة وتجدد لميثاق "حماس" تهدف هذه الدراسة إلى طرح تحليل يأمل بأن يكون دقيقاً وموضوعياً يتناول جوهر الوثيقة الجديدة ومضامينها ومحاولة تخطيها إشكاليات فكرية وسياسية ظلت تواجه "حماس" في السنوات الماضية، كما تتعرض الدراسة إلى ما قد يترتب على إصدار الوثيقة من فرص ومخاطر محتملة. وسوف يُستهلّ النقاش بتسليط الضوء على تلك الجوانب من الوثيقة التي يمكن اعتبارها مغايرة لما جاء في ميثاق "حماس" الأصلي الصادر في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، والتي تشير إلى تغيّر في خطاب الحركة، إن لجهة الصياغة أو المضمون. يلي ذلك تقديم تحليل سياقيّ يستكشف الدوافع الإقليمية، والدولية، والداخلية وراء إصدار هذه الوثيقة. وأخيرا، يُختم النقاش باختبار ما للوثيقة من نتائج محتملة على الحركة نفسها، وكذلك على الفلسطينيين وعلى الصراع مع إسرائيل.

ابتداءً، ثمة ملاحظة أولية تخصّ النبرة واللغة العامة والصياغة اللفظية للوثيقة. وهنا تتسم الوثيقة، التي أُعلنت في أوائل أيار 2017، بالدوحة، من قبل رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" المنتهية ولايته خالد مشعل، بصياغات مباشرة تغلب عليها اللغة السياسية البراغماتية. وهذه اللغة تأتي على النقيض من لغة النصوص التأسيسية الأولى مثل ميثاق "حماس" الأول وغيره من الوثائق التي هيمنت عليها لغة خطابية دينية فضفاضة وتعبيرات طوباوية مربكة. تعبّر وثيقة "حماس" الجديدة عن مواقف الحركة من القضايا الجوهرية للصراع العربي الإسرائيلي في ديباجة واثنتين وأربعين فقرة مرقمة ومصاغة بحذر وعناية ومن دون رطانة لغوية فائضة. وفيما تؤكد الوثيقة التزام الحركة بمبادئها الأساسية، فإنها تبدي قسطاً وافراً من المرونة عبر ترك مساحات رمادية تمكن "حماس" من المناورة السياسية في المستقبل. لكن هذه المحاولة الحذرة من المقاربة والتسديد تتناقض، عملياً، مع ما تحاول الوثيقة والحركة تحقيقه في نفس الوقت، من إرضاء توقعات واشتراطات متنافرة لأطراف عديدة من الفرقاء، وأهمهم: القاعدة الحركية الأساسية لـ"حماس" ودوائر مؤيديها الأوسع داخل وخارج فلسطين، وحلفائها من الإسلاميين في المنطقة وخارجها (وتحديداً المنظمات المرتبطة بـ"الإخوان المسلمين")، ثم الحكومات العربية وغير العربية في المنطقة (خاصة إيران وتركيا)، وأخيراً ساسة القرار الغربي والإسرائيلي. وليس من السهل بطبيعة الحال تدبيج وثيقة سياسية أو اجتراح خطاب سياسي يتمكن من إرضاء كافة هذه الأطراف مجتمعة. ولهذا، ما أن تمّ إعلان الوثيقة حتى صدرت انتقادات بحقها من أطراف متنوعة تعددت بتعدد دوائر من تخاطبهم. كما تباينت نبرة تلك الانتقادات باختلاف الجهات المستقبلة لها، فكان هناك الاستخفاف بالوثيقة وبـ"حماس" لجهة عدم طرح ما هو جديد، وكان هناك في المقابل الاتهام بالتنازل عن الكثير بلا مبرر ودونما مقابل. الرد الإسرائيلي الرسمي كان استعلائياً واحتقارياً للاثنتين، الوثيقة و"حماس"، واتصف بالجلافة، خاصة مع تمزيق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نسخة من الوثيقة أمام الكاميرات التلفزيونية. المنظمات الإسلامية الشقيقة لـ"حماس" مثل الجهاد الإسلامي في فلسطين انتقدت الوثيقة بسبب ما رأته من إعادة إنتاج للبرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي ادخل الفلسطينيين في متاهة. أما الردود الأميركية والأوروبية فبدت باردة في العلن، وإن كانت فيما يبدو قد أولت الوثيقة اهتماماً شديداً "من خلف الستار".

 

الوثيقة: مضامين جديدة؟

 

في الديباجة والمقدمة تطرح الوثيقة تعريفاً لافتاً يبتعد عن التعريفات الدينية السابقة لفلسطين والتي درجت الحركة على اعتمادها. التعريف الجديد ينص على التالي: "فلسطين أرض الشعب الفلسطيني العربي، منها نبت، وعليها ثبت، ولها انتمى، وبها امتدّ واتّصل". تختلف هذه الصياغة اللفظية وإلى حد بعيد عن نظيرتها في ميثاق عام 1988 والتي تصف فلسطين بـأنها "وقف إسلامي" وملك للأمة الإسلامية جمعاء. لكن في ذات الوقت وبهدف المحافظة على قدر من "إسلامية" الخطاب ورطانته تشير الوثيقة الجديدة إلى البعد الإسلامي وإن كان مُخففاً من ناحية سياسية، وتؤكد بعبارات عامة أن "فلسطين روح الأمة، وقضيتها المركزية، وروح الإنسانية، وضميرها الحي". رغم ذلك، يظل زخم الديباجة متركزاً على فلسطين حصرياً، خلافاً لديباجة الميثاق الأول التي تحيل القضية إلى مواجهة كونية بين "قوى الحق والباطل" وتموقع الصراع ضمن إطار حرب أبدية بين المسلمين وغير المسلمين.

استتباعاً لذلك، وتحت العنوان الفرعي "أرض فلسطين" تحدد الوثيقة أرض فلسطين جغرافياً بأنها تلك الممتدة "من نهر الأردن شرقاً وإلى البحر المتوسط غرباً، ومن رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش جنوباً"، ثم يؤكد هذا الجزء من الوثيقة أن فلسطين "وحدة إقليمية لا تتجزّأ، وهي أرض الشعب الفلسطيني ووطنه"، ويتبع هذا التحديد الوطني الجغرافي الواضح، إشارة إسلامية عامة تنص على أن "فلسطين أرض عربية إسلامية. وهي أرض مباركة مقدّسة، لها مكانتها الخاصة في قلب كل عربي ومسلم". ومن الملفت أيضاً أن الوثيقة تستعير من ميثاق منظمة التحرير (المُنقح) للعام 1968 تعريفاً محدداً لـ "شعب فلسطين" ينص على ما يلي: "الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون في فلسطين حتّى سنة 1947، سواء من أخرج منها أم بقي فيها؛ وكل مَنْ ولد من أب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ، داخل فلسطين أو خارجها، هو فلسطيني... الشخصية الفلسطينية صفة أصيلة، لازمة، لا تزول، وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء". تقدّم هذه الاستعارة الواضحة والواعية من الميثاق الفلسطيني رسالة مهمة ومثيرة من قبل "حماس"، وتدلل على تواصل منحنى "الفلسطنة" داخل فكر ومنظور وسياسة الحركة على حساب "الأسلمة" التي عُرفت بها الحركة.

وعلى نفس المنوال "الفلسطيني" يأتي توصيف "حماس" لنفسها تحت الجزء المعنون بـ "الحركة" المُصاغ بلغة شديدة البعد عما يقابلها في ميثاق عام 1988. فالوثيقة هنا، وخلال استعراض الغرض من وجود "حماس"، تشدد على أهمية الأبعاد الوطنية والمقاومة أكثر بكثير من الأبعاد الدينية والوحدة الإسلامية وسوى ذلك، أو ارتباطها بـ"الإخوان المسلمين" وإعلان نفسها ذراعاً لتلك الحركة في فلسطين. فهنا تعرف الحركة نفسها كما يلي: "حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينيَّة إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيَّتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها". وتأتي الصفة الفلسطينية الوطنية في هذا التعريف سابقة للصفة الإسلامية الدينية، وهو ترتيب لا يمكن النظر له بعفوية ولم يأخذ هذا الشكل بطريقة اعتباطية.

إن الجِدةَ في تعريف الصراع وتحديده بصيغ لفظية ومفردات وطنية في وثيقة 2017 لا تقتصر على كونها مجرد شكل لغوي، بل هي أيضاً أمر يجري تأكيده مراراً ويعبّر عنه بشكل واضح يحاول تفادي اللبس. وفي هذا توكيد للافتراق عن منطوق الميثاق الأول الذي يصور الصراع ضد إسرائيل كصراع ديني،. فهنا تؤكد "حماس" في الوثيقة الجديدة وبجلاء أن "الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم؛ و"حماس" لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، وإنّما تخوض صراعاً ضد الصهاينة المحتلين المعتدين؛ بينما قادة الاحتلال هم من يقومون باستخدام شعارات اليهود واليهودية في الصراع، ووصف كيانهم الغاصب بها". ومن باب الإنصاف، تنبغي الإشارة إلى أن "حماس" وقيادتها لطالما عبّرت عن هذا الفارق بين الصهيونية واليهودية منذ أوائل التسعينيات، حيث تكرر هذا الموقف في كثير من التصريحات والبيانات منذ ذلك الحين. لكن رغم كل ما صدر عن "حماس" طيلة عقود من تفريق واضح بين الصهيونية واليهودية، إلا أن كفة تصريحاتها أخفقت في أن ترجَح على كفة ميثاقها لعام 1988 وما يحمله من نبرة عداء للسامية، وبكونه الوثيقة الرسمية الأهم المُعبرة عن الحركة. والآن تطرح الوثيقة الجديدة إطاراً ومنظوراً للصراع ضد الصهيونية وإسرائيل من منطلق وطني ولا يموضع الصراع من منظور ديني.

في "الموقف من الاحتلال والحلول السلمية" تعبّر الوثيقة عن موقف يعكس إجماع الحركة داخلياً على حل الدولتين، بمعنى، تأسيس دولة فلسطينية ضمن حدود 1967. ورغم أن هذا الموقف ليس بجديد أو غير مسبوق، إلا أن تضمينه رسمياً إلى ما يمكن اعتباره ميثاق "حماس" الجديد بحكم الأمر الواقع له أهمية بالغة. ذلك أن الموقف المستبطن هنا هو أن "حماس" تقبل بحل سلمي قد يفضي إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وتؤكد "حماس" أن قبولها بهذا المبدأ يأتي لأجل توثيق وتدعيم لحمة "الإجماع الوطني"، وتنص الفقرة ذات الصلة على ما يلي: "لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض "حماس" أي بديل عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية فإن "حماس" تعتبر أن قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة".

تتناول الوثيقة أيضاً اتفاق أوسلو تحت نفس العنوان الفرعي، أعلاه. والعنصر الجديد واللافت هنا هو موضعة موقف "حماس" الرافض لأوسلو ضمن إطار السجال السياسي ومبادئ القانون الدولي بدلاً من الركون إلى المسوغات الدينية. ميثاق عام 1988 هاجم الحلول السلمية كما هاجمت وثائق "حماس" الأخرى اتفاق أوسلو وغيره من "الاتفاقيات التنازلية" بسبب تفريطها بأرض الإسلام. أما في الوثيقة الجديدة فيأتي تبرير رفض أوسلو مختلفاً كثيراً حيث: "تؤكد حماس أن اتفاقات أوسلو وملحقاتها تخالف قواعد القانون الدولي الآمرة من حيث إنها رتبت التزامات تخالف حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ولذلك فإن الحركة ترفض هذه الاتفاقات، وما ترتب عليها من التزامات تضر بمصالح شعبنا، وخاصة التنسيق (التعاون) الأمني".

القسم الخاص بـ "المقاومة والتحرير" من الوثيقة الجديدة يتباين أيضاً وإلى حد كبير في لغته وصياغته عن ميثاق 1988 وغيره من الوثائق السابقة. إذ تؤكد الوثيقة وبوضوح الحق في النضال التحرري الوطني انطلاقاً من القانون الدولي: "إن مقاومة الاحتلال، بالوسائل والأساليب كافة، حقّ مشروع كفلته الشرائع السماوية والأعراف والقوانين الدولية، وفي القلب منها المقاومة المسلحة التي تعدُّ الخيارَ الإستراتيجي لحماية الثوابت واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني". على أن الأمر الأهم هنا هو ما يرد في هذا الجزء من توسيع لتعريف المقاومة كي يشمل فكرة "إدارة المقاومة" بصورة تتيح الجمع بين تكتيكات التصعيد والتهدئة مع غيرها من "الطرق والوسائل المتنوعة". وبناء على ذلك وبالتوازي معه: "ترفض حماس المساس بالمقاومة وسلاحها، وتؤكد حق شعبنا في تطوير وسائل المقاومة وآلياتها. وإنَّ إدارة المقاومة من حيثُ التصعيد أو التهدئة، أو من حيث تنوّع الوسائل والأساليب، يندرج كلّه ضمن عملية إدارة الصراع، وليس على حساب مبدأ المقاومة".

وفي جزء معنون بـ "النظام السياسي الفلسطيني" تتوجه الوثيقة بصياغتها اللغوية ووجهات نظرها إلى الشعب الفلسطيني والساحة السياسية الفلسطينية. وهنا يمتاز الخطاب بنبرة تصالحية واضحة تهوّن من أمر التباينات، وتبرز نقاط التشابه، وتعلي من شأن الشراكة الوطنية. أما على صعيد الطرح الفكري، فيتم تأكيد الأفكار المتعلقة بالسياسة والممارسة الديمقراطية. وفي هذا الإطار فإن المقارنة مع الميثاق القديم تبرز جدة اللغة المستخدمة في الوثيقة الجديدة التي تقول: "تؤمن حماس وتتمسك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار، بما يعزّز وحدة الصف والعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتطلعات الشعب الفلسطيني".

بعد ذلك تتجه الوثيقة لتناول قضية شائكة طالما واجهتها "حماس" وهي الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية وصفتها التمثيلية. "حماس" قدَّرت دائماً أن أي اعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني يحرم الحركة من فرصة طرح نفسها كبديل. رغم ذلك، تجنبت الحركة أي رفض علني وصريح لتلك الصفة التمثيلية للمنظمة لأنها تدرك الكلفة الباهظة لأي رفض من هذا النوع على شعبيتها وسط الأغلبية الفلسطينية التي تعتبر المنظمة مظلتها الوطنية السياسية. لكن "حماس" برفضها الانضمام إلى الفصائل السياسية الفلسطينية الأخرى تحت تلك المظلة، لطالما أثارت الشكوك حول مكانة المنظمة كـ "ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني". في الميثاق القديم، "حماس" اشترطت على المنظمة التخلي عن "أيديولوجيتها العلمانية" مقابل الانضمام إليها، وهو موقف لم يكن سوى مناورة بلاغية ولفظية تكفل للحركة تجنب الاعتراف بالصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية. في الوثيقة الجديدة تقر "حماس" بأن منظمة التحرير هي "إطار عمل وطني" للفلسطينيين وتدعو إلى إصلاحه وإعادة هيكلته لتصبح المنظمة إطاراً جامعاً بحق وبما يمهد طريق انضمام "حماس" إلى صفوفها. وحسب تعبيرات الوثيقة الجديدة، فإن "منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، تضمن مشاركة جميع مكونات وقوى الشعب الفلسطيني، وبما يحافظ على الحقوق الفلسطينية". كما يلمح هذا الجزء من الوثيقة أيضاً إلى ضرورة بناء المؤسسات الديمقراطية لتكون أساساً للشراكة الوطنية؛ ويشدد على أن دور السلطة الفلسطينية "يجب أن يكون في خدمة الشعب الفلسطيني وحماية أمنه وحقوقه ومشروعه الوطني".

وأخيراً، تسلط الوثيقة الضوء على دور النساء في المجتمع الفلسطيني، وهو الدور الذي تعتبره الوثيقة "أساسياً" في "بناء الحاضر والمستقبل، كما كان دوماً كذلك في صناعة التاريخ الفلسطيني، ومحورياً في مشروع المقاومة والتحرير وبناء النظام السياسي". في ميثاق 1988، لم يتم النظر إلى دور النساء إلا من منظور ديني حيث تقول "حماس": إن "الأعداء" أدركوا أهمية دور المرأة وهم يحسبون أنهم إن تمكنوا من " توجيهها وتنشئتها النشأة التي يريدون، بعيداً عن الإسلام فقد ربحوا المعركة"، وعليه فإن من واجب "حماس" إعادة النساء المسلمات الفلسطينيات العلمانيات إلى الإسلام وتدريبيهن لإرشاد وتعليم الأجيال.

آخر جزأين من الوثيقة، يحملان عنوانين فرعيين هما: "الأمة العربية والإسلامية" و"الجانب الإنساني والدولي"، ويتناولان معاً رؤية الحركة لعلاقاتها مع الدول والحكومات إقليمياً ودولياً. ما يهم "حماس" هنا، وبحسب ما تعبّر عنه الوثيقة، أمرين: أولهما، تأكيد سياسة الحركة في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، حيث توجه الحركة هنا رسالة واضحة خاصة إلى مصر كما غيرها من حكومات ما بعد حقبة الربيع العربي بأن "حماس" لن تصطف إلى جانب أي طرف في النزاعات الداخلية والإقليمية: "حماس" ترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول. كما ترفض الدخول في النزاعات والصراعات التي تجري بينها، وثانيهما، تشديد الحركة على حصر صراعها في محاربة إسرائيل و"المشروع الصهيوني". وهنا من اللافت للنظر إمساك الحركة عن تسمية الولايات المتحدة والدول الغربية لدى الإشارة إلى ما تحظى به إسرائيل من دعم وتأييد من قبل هذه الدول، والاكتفاء بالتلميح: "تدين حماس دعم أي جهة أو طرف للكيان الصهيوني أو التغطية على جرائمه وعدوانه على الفلسطينيين".

 

أهمية الوثيقة وخلفياتها

 

القراءة المتعجلة لوثيقة "حماس" الجديدة قد تخلص إلى الاستنتاج المتسرع بأن ليس فيها من جديد سوى القليل، إن كان لجهة ما عبّرت عنه من أفكار ومواقف بعينها أو مجمل الوثيقة ككل. لكن التحليل المتأني يكشف عن جِدّة في الطرح والتناول، ويستكشف تلاوين من الفروقات الدقيقة في المواقف والسياسات، وعن استعداد لترك ثغرات وغموض في الصياغة تحقيقاً لهدفين في آن واحد، وهما: تبديد التصور القاضي بجمود "حماس" السياسي من ناحية، والإبقاء على تماسك موقفي وفكري وسياسي تعبّر عنه الوثيقة من خلال سياسات رسمية جديدة تتحدث باسم الحركة جمعاء. وعند النظر إلى الوثيقة كأجزاء منفصلة، يتضح أن بعض المواقف المنصوص عليها ما هي إلا سياسات عبّرت عنها "حماس" خلال السنوات الماضية، إن عبر تصريحات قادة الحركة أو بياناتها الرسمية. لكن حزمة المواقف السياسية المتباينة أو المبعثرة تلك لُملمت الآن وجُمعت بشكل مترابط ورسمي في وثيقة واحدة، إلى جانب عدد آخر قليل وجديد من المواقف التي دمغت جميعاً بختم الحركة الرسمي. ورغم حقيقة أن العديد من هذه المواقف كان قد عبّر عنها الناطقون الرسميون للحركة في الماضي، إلا أنها قوبلت أحياناً بالتشكيك انطلاقاً من أن من صرَّح بها أفراد لا يمثلون الحركة جمعاء، أو أنهم ينطقون بمواقف خاصة بهم. مثل تلك المحاججات كانت تساق بالأخص حيال قبول "حماس" بإنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967، ذاك أن أحد أهداف الحركة الأولى والأرسخ والمعلنة دوماً هو تحرير كامل فلسطين التاريخية.

بعض المواقف الواردة في الوثيقة الجديدة، والتي عبّرت عنها شخصيات من الحركة في أوقات مختلفة في الماضي، كانت تقابل بتهم بأنها غير جدية بل ذات طبيعة تكتيكية أو بأنها ظرفيّة وصادرة تحت ضغط آني. ثم هناك أيضاً تلك الشكوك التي كانت تُستقبل بها آراء ومواقف محددة تصدر عن فروع "حماس" المختلفة (في قطاع غزة، الضفة الغربية، أو خارج فلسطين) وتثير التساؤلات حيال تمثيلها عموم الحركة أم لا. تنطوي هذه النقطة الأخيرة على أهمية خاصة تستوجب بعض الاستطراد. فهنا ثمة تصور شائع ولكنه مضلل عن "حماس" يقوم على تقسيم الحركة إلى فروع ثلاثة تكاد تكون منفصلة ولكل منها ملامح وصفات محددة: "حماس" قطاع غزة، "حماس" الضفة الغربية، و"حماس" الخارج. ووفقاً لهذا التصور، فإن "حماس" غزة هي الجناح الأكثر "راديكالية"، أما "حماس" الضفة فهي الأكثر "اعتدالاً" في حين أن "حماس" الخارج تقع في منزلة بين المنزلتين، أو "الوسطية". على أن واقع "حماس" الداخلي من هذه الزاوية كان دوماً أشد تعقيداً. فراديكالية واعتدال ووسطية الآراء والقادة أمر موجود في صفوف الحركة المختلفة دون شك، لكنها لا ترتبط وعلى نحو قاطع بموقع جغرافي دون الآخر. أي أن تطرف واعتدال أو وسطية المواقف والقيادات تتواجد في الجغرافيات الثلاث من دون أي تصنيف يربط نوع الموقف بالمكان. مع ذلك، وبناء على تلك الثلاثية الجغرافية المفترضة، فإن تصريحاً يقول به مسؤول في "حماس" الضفة، مثلاً، قد يُرفض انطلاقاً من أنه غير ممثل للحركة جمعاء. ومن هنا تأتي وثيقة أيار الجديدة لتبدد أي شكوك ما زالت ماثلة حيال المواقف التي يعتمدها قادة "حماس" ومجاميعها المتعددة، وهي المواقف التي تم تسطيرها في الوثيقة رسمياً الآن. كما أن الوثيقة توحد خطاب تلك الفروع الثلاثة حيال أشد القضايا الملحة التي غالباً ما تكون عرضة للنقاش. خلاصة الأمر، إن الوثيقة الجديدة لا تطور وتؤكد مواقف الحركة المختلفة فحسب، بل توحد أيضاً تصورات وخطاب ولغة الحركة السياسية بشكل رسمي ومؤسساتي يمنع إثارة الجدل حولها.