تفكيك الألغاز في الهجوم الاستعماري على أمتنا
تاريخ النشر : 2017-10-12 23:54

لم يستطع الواقع بكل معطياته القاسية إلغاء احد أهم مسلَّماتنا أننا أمة واحدة، وأننا نتعرَّض لعدوان غربي متواصل منذ عدة قرون، ولازالت عوامل وحدتنا كما هي جلاء وقوة وضرورة؟ وهنا لابد من الاقتراب من الموقف الغربي الذي انتقل مركز فعله مرات عدة لينتهي به المطاف الآن في واشنطن.. نقترب في محاولة لتفكيك الألغاز فهل لازالت الدوافع العقائدية نفسها؟ وأين حصلت التطورات في تشكيله؟ وما هي الأبعاد النفسية التي حافظت على قوة دفعه قرونا عدة؟ وفي المقابل اين نحن في مواجهة ذلك كله؟

قبل الذهاب الى قراءة العمق في تشكيل الموقف الغربي في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية من المفيد ملاحظةُ تغيُّر جوهري حصل في جبهتنا بفعل تراكم التحديات.. في مراحل الاستعمار الأولى كانت لدينا مجموعة عوامل ضعف شكلت ما اسماه المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي "القابلية للاستعمار" وكانت معظم عناصر القابلية للاستعمار تدور حول عناوين ثقافية وقيمية ونفسية ومعرفية كانت توفر الأرضية اللازمة للغزو العسكري والاقتصادي الغربي.. وكانت الفكرة في حد ذاتها صادمة لكثير من أصحاب الأيديولوجيا والمشاريع الذين رفضوها وغاب عنهم خطورة فعلها في إمكانية تشكيل منظومات فكرية ونفسية تمكّن للمستعمرين.. الا اننا الان نواجه حالة اكثر تعقيدا من "القابلية للاستعمار" اصبحنا اليوم نواجه ادوات الاستعمار المباشِرة بثوب محلي وقد استطاع الغرب تفجير اهم مقدساتنا من الداخل بتشكيل منظومات فكرية وسياسية في كتل بشرية تقوم بمهمات تفجير تستدعي تدخلات الاستعمار الغربي بطرق أخرى غير السابقة.

هنا نرى ان تطورا عمليا حصل على طبيعة الهجمة الاستعمارية فلم تعد الاحتلالات العسكرية التامة مناسِبة ولم تعد مجرد العلمنة والتغريب كافيا للتكامل مع المعامل الاستعماري.. فلقد انزوى اصحاب التغريب والعلمنة لتتقدم نماذج مدججة بمقولات وتركيب عقائدي ليس من مهمة له الا التخريب والتدمير الثقافي والحضاري والاجتماعي وذلك ضمن صياغات استشرافية لمستقبل امتنا.

في سياق هذا التطور لابد من ملاحظة ان الدولة القُطرية الوطنية التي كان تشكلها يتم دونما انزعاج من صناع المشروع الاستعماري في مرحلة كانت دعوات الوحدة كاسحة في الامة.. كانت الدولة القُطرية تعاني ازمات اقتصادية وعلمية وادارية تشل ارادتها في القيام بواجبات المواجهة لهجوم المشروع الاستعماري في أماكن عدة من عالمنا العربي والاسلامي.. الا ان هذه الدولة في احد جوانبها نظمت الحياة الى حد بعيد بروح المواطنة وازداد العدد السكاني، وحسب نظرية الكيف والكمّ اصبح اكثر من بلد عربي واعد بأن يحمل مبادرات نهضة واكتفاء ذاتي كالعراق وسوريا والجزائر ومصر.. كما انّ هناك بلداناً كان يمكن لها في حال نهوض عربي ان تمثل مخزونا استراتيجيا للغذاء مثل السودان.. لقد كبرت الدولة الوطنية الى الحد الذي اهّلها ان تبحث لها عن ادوار اقليمية ودولية وبدات تلوح في الافق اهمية العمل المشترك في اكثر من مكان لبناء كتل اقتصادية والبحث عن تكنلوجيا حديثة.. هنا تحرك الاستعماريون الغربيون ولا يمكن تخيل ان تحرّكهم كان عفويا او ردة فعل بل هو مبني على دراسات استباقية وروح استشراف ولّدتها المتابعات الدقيقة للاوضاع في بلداننا.

هناك ثابت واضح لكل مشاريع الاستعمار.. ان التطور يحصل على الادوات والرؤية وعلى السيناريو ولكنه لا يمس مطلقا الهدف الاستراتيجي الذي يتفرع عنه جملة اهداف يبدو كل واحد منها وكانه هو الاساس.. فالهدف الاستراتيجي الاساس هو منع الامة من القيام على ساقيها وإبقائها ترسف في الأمراض والجهل والمعاناة والفقر حيث يتم النظر إليها لا على اساس انها كتلة بشرية كبيرة لديها ثروة فقط بل على اساس ما تمثله من بديل استراتيجي يمتلك كل عناصر النهضة البديلة من منهج ومنظومة قيم ومفاهيم رغم كل ما لحقه من تشويه الا انه في لحظة صحو يستطيع ان ينسف كل ما أفكوا من مناهج معوجّة واوضاع سقيمة، وزيادة على ذلك تتمتع هذه الكتلة البشرية بمناخات جيوسياسية حاسمة في توسّطها بين الشمال والجنوب حيث يلعب التوسط الجغرافي الكوني للامة دورا متفردا في امكانيات الاستبدال الحضاري.. هذا هو الهدف الاستراتيجي الكبير الذي يشغل صناع السياسات والافكار والرؤى ولكنه لا يقف عند هذا الحد حيث يتم تفريغه في اهداف استراتيجية كبرى تتعاضد لتحقيقه وكل منها تعدّ له اليات ضخمة ويشتغل فيه الغرب بكل امكاناته وبلا توان ولا غفلة على الصعيد الاقتصادي حيث مشروع النهب لثروات الامة واستنزاف طاقاتها وافشال مشاريع التنمية فيها وإبقائها في ذيل عمليات التفكير والنهوض الاقتصادي وحرمانها من مجالات معينة، وعلى الصعيد السياسي حيث تتم باستمرار عمليات ارهاقها بمناوشات خارجية وداخلية على طريقة الصدمات المتلاحقة، وعلى الصعيد الاجتماعي حيث تتم عمليات التغريب والتضليل وصناعة الافكار بعدة اشكال، وفي هذا الاطار لم تنجُ المقولة الدينية من إعادة التشكل في مختبرات الغرب واعادة انتاجها في تيارات سياسية اجتماعية.. وكما هو واضح فان إغلاق باب النمو العلمي في معاهدنا وجامعاتنا وتحويل كل محاولاتنا للنهضة العلمية الى مجال محو الامية فقط لنكون مجرد مستهلكين لمنتجاته وغير قادرين ان نسير على سلمّ النهضة.. بمعنى واضح ان العملية المركبة تسير بتواز من اجل فتح جبهات عديدة على المجتمع والدولة.

صحيح ان النظام الراسمالي الامبريالي تطور واصبح الان في مرحلة ما بعد الدولة حيث اصبحت الشركات العملاقة واصحاب المال العالميين يمثلون حكومة حقيقية تدير شئون العالم، ومن المعلوم ان اكثر من نصف المال العالمي تديره مؤسسات امريكية وهذا المال الذي حوّل الدولة في الغرب لاسيما امريكا الى اداة من ادواته لمزيد من النهب والاستحواذ يتحرك بلا ضوابط اخلاقية ولا معاهدات انما فقط خلف الربح والربح فقط.. وهذه الحكومة الحقيقية في العالم لا تضبطها ضوابط من قانون واعراف وهي تصنع ديانات وتشجِّع قوميات وتفسخ مجتمعات وتثير حروباً وتفرض حلولا ولكل ذلك فقط من اجل الربح..

وهنا يمكن ملاحظة الاثار الوخيمة على المجتمعات البشرية عامة والغربية منها رغم الفتات الذي تتلقاه من سقط الأموال وهي جزء من فائض القيمة المذهل جراء نهب الشعوب والامم.. وبلا شك ان معاناة الانسان في الغرب من لون آخر تتجلى في نماذج رفض عديدة؛ فلا يمكن اغفال ملايين البشر في الولايات المتحدة الذين تلقيهم الحضارة الغربية على هامشها بلا تامين صحي وبلا حدود معقولة من الحياة المادية، كما ان تلك الشعوب رغم رفضها للحروب والمآسي التي تقودها الحكومة السرية الا انها تدفع الثمن الباهظ لتلك الحروب.. ومن هنا نكتشف تطورات الصراع ونقترب من تفكيك ألغاز الهجوم الغربي والياته، وهنا فقط ليس اكثر من اثارة لموضوع يحتاج ارقاما واحصائيات ومتابعات لتشكيل الرأي المتكامل.. وكان الله في عون امتنا لتنهض برسالتها.