محنة خالد مشعل تعيد الاعتبار إلى«العرفاتية» ؟

تابعنا على:   18:06 2015-01-13

أمد/ الدوحة: كم يبدو تراجيدياً أن يحتار زعيم سياسي مثل خالد مشعل في تحديد مكان إقامته الشخصية. فخلال أقل من شهر واحد اضطر مشعل للتردد بين أربع عواصم كمستقر له ولـ «حاشيته» السياسية. كان يأمل بفشل المفاوضات القطرية - المصرية، ليبقى مقيماً في الدوحة، ثم ملأته الأماني بفوز نسبي لحركة النهضة التونسية، عله يلقى مكاناً في ظلال حُكمها في تونس، ثم زار طهران عله يُحسن شيئاً ما من الشروط الإيرانية لإعادة احتوائه سياسياً ومالياً و»عسكرياً»، وأخيراً استقر به المقام في أنقرة، بعد اجتماع مع رئيس الوزراء التركي أحمد أوغلو دام أربع ساعات؛ أغلب الظن أنهما تناولا التفاصيل والشروط والكلف السياسية لإقامته في تركيا.

يبدو ذلك الشهر وكأنه تكثيف بليغ لما كان قد عاشه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لأكثر من ثلاثة عقود، حين تنقل بين الكويت والقاهرة وعمان ودمشق وبيروت وتونس، كأماكن لقيادة نشاطه السياسي، دافعاً أثماناً بالغة جراء ذلك، دماً وحروباً أهلية مرات، وأشكالاً من التواطؤ والتنازل السياسي مرات أكثر.

دفع فلسطينيو المهاجر والمخيمات عبر تلك السنين الفاتورة الأغلى ثمناً، وخرجت القضية الفلسطينية في الكثير من اللحظات عن شرطها وسؤالها وفعلها الجوهري المركزي. حدث كل ذلك قبل أن يتجرع عرفات «كأس السم» النسبي، ويقبل بشروط أوسلو السياسية، علها تنقذه من محنة الجغرافيا القاسية، وتصنع له موطئ قدم في البقعة المركزية التي يود التحرك فيها، وأن يخرج ولو في شكل نسبي من وطأة شروط «الأخوة الأعداء» الذين استضافوه بشروطهم، التي رآها عرفات أكثر قسوة من شروط أوسلو.

بالضبط كان هذا «المعيار العرفاتي» هو ما حوّله إلى «خائن» و «عميل» في خطابات التيارات السياسية الفلسطينية التي ناهضت أوسلو، وكانت حماس أكثرها راديكالية وانتهازية، إذ حاولت إعادة تجريب ما كان الراحل عرفات قد جربه من قبل، وبشرط لم يقبل عرفات به بتاتاً، وهو تحويل التنظيمات السياسية والعسكرية الفلسطينية إلى لعبة جهازية عسكرية في قبضة الأنظمة العربية والإقليمية، حيث يشكل الاستحواذ على القرار السياسي «السيادي» الفلسطيني أساس ذلك.

منذ أواسط التسعينات، حين بدأت «حماس» لعبتها وتجربتها هذه، وحتى الراهن، اكتشفت الأوهام الثلاثة التي سبق للراحل عرفات أن جربها قبل زمن طويل.

الوهم الأول يتعلق بطبيعة علاقة النظام السوري بعموم المسألة الفلسطينية. هذا النظام الذي لم ير نفسه إلا وصياً كلياً وفوقياً وحصرياً على هذه المسألة، متجاوزاً حتى الأصحاب المفترضين للقضية نفسها، واضعاً شروطاً ومعايير ومقاييس معينة لما يجب أن تكون عليه مسارات المسألة الفلسطينية، محولاً كل من يعارض تلك الشروط إلى خائن وعميل، أو معنف بالآلة العسكرية المباشرة، التي ذاق منها الفلسطينيون كثيراً، منذ رفض الأب المؤسس للنظام حافظ الأسد تقديم الدعم الجوي للأجنحة الفلسطينية في معارك أيلول الأسود عام 1970، حين كان وزيراً للدفاع، وقبل ان ينفذ انقلابه الشهير بأقل من شهر واحد بعد ذلك الحدث، وعلى أساسه، وليس انتهاء بمعارك مدينة طرابلس الشهيرة عام 1983، مروراً بأحداث مخيم تل الزعتر الشهير عام 1976.

 فعل النظام السوري كل ذلك ليس في سبيل تقديم أكثر مما كان عرفات ومنظمة التحرير يسعيان إلى تقديمه، دماً ونضالاً مسلحاً، بل فقط للاستحواذ على القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ورقة ومنصة بالغة الثراء في ضبط استقرار وتوازن النظام الحاكم دمشق، في علاقته وتوازنه مع القوى الإقليمية والدولية المتشابكة مع المسألة الفلسطينية.

اعتقدت «حماس»، أو أوهمت نفسها، لأكثر من ربع قرن بأنها يمكن أن تستحصل من النظام السوري ما هو خير من ذلك، وحولت نفسها لرأس حربة في حرب النظام السوري على التجربة الفلسطينية الحديثة ما بعد أوسلو، إلى أن وصل المقام بها للدخول في حرب أهلية فلسطينية فلسطينية عنيفة، للهيمنة المباشرة على قطاع غزة ومماحكة سلطة رام الله.

لم تعد «حماس» إلى «رشدها» السياسي إلا حينما رأت بأم عينها كيف يقوم النظام السوري بقصف مواطنيه المدنيين بالصواريخ البالستية، وسلمت في شكل نسبي تحت تأثير خجلها الأيديولوجي من التيارات والمجتمعات السورية والإقليمية الإسلامية المحافظة بفداحة استمرار ارتهانها بيد هذا النظام الحاكم.

الوهم الآخر كان يتعلق بموقع وطبيعة استخدام إيران لعموم الملفات الإقليمية الساخنة. حيث آمنت «حماس» لوقت طويل بأن النظام الإيراني يشكل موازياً استراتيجياً وأيديولوجياً إقليمياً للنفوذ الأميركي وعلاقته بإسرائيل، القائمة على الدعم المطلق والندّية في الشراكة. توهمت «حماس» بقدرتها على اصطناع شيء من ذلك في تحالفها مع إيران؛ إلى أن اكتشفت المضامين الجوهرية للإستراتيجية الإيرانية، والتي تستخدم جميع القوى والتنظيمات السياسية والعسكرية «العميلة» لأجهزتها الاستخبارية والسياسية، كأدوات وأوراق في لعبة أمنها القومي و»الطائفي» الكبرى، والتي تستطيع لأجله أن تفعل أي شيء، كأن تتخلى أو حتى أن تبيع واحداً من هذه التنظيمات التي تصطنع تحالفاً سياسياً وإستراتيجياً معها. إذ إن موقع «حماس» بالنسبة إلى إيران لا يضاهي البتة موقع إسرائيل بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ولا حتى موقع «حزب الله» نفسه من النظام الإيديولوجي «الطائفي» الأمني الإيراني.

أما آخر الأوهام، فكان يتعلق بما كانت تتخيل «حماس» من قدرة اللعب على التوازنات الضابطة للعلاقات الإقليمية، حين اعتبرت نفسها ورقة رابحة ولاعباً سياسياً بهلوانياً، يمكنها الجمع بين مراكز نفوذ وقوى إقليمية متنافرة ومتناقضة؛ وإن تنافر هذه القوى وتباينها هو الشيء الذي سيعطي الحركة قيمة مضافة، حيث سيسعى كل طرف لاستمالتها والاستفادة من طاقتها وحضورها الرمزي في الداخل الفلسطيني. هذا الوهم الذي كان الراحل عرفات قد عبره قبل أحيان كثيرة، حينما أدرك بعمق مدى ترابط النظام الإقليمي بعضه ببعض، ومدى قدرة اللاعبين الكبار على تجاوز المساهمين الأصغر حجماً. وما كان التوافق المصري - القطري الأخير، سوى واحد من الدروس التي مسّت حماس في شكل مباشر في ذلك الاتجاه.

لن يعود خالد مشعل إلى رام الله، كما استشعر حازم الأمين في مقالة سابقة، لأنه في رام الله بالذات يكمن اعترافه الواجب بواقعية الرؤية العرفاتية، والتي على نقيضها بنت حماس أوهامها السياسية. لكن الغريب أن خالد مشعل لن يعود إلى غزة نفسها، كي لا يخضع للشروط الموضوعية التي تحيط بالفلسطينيين والمسألة الفلسطينية، تلك الشروط القاسية كالعيش في غزة تماماً، لكنها في الأخير الشروط الأكثر موضوعية وحقيقية، لأنها تلامس فلسطين الجوهرية، لا الأوهام والألاعيب الإقليمية التي اصطنعت حولها، تلك التي اكتشفها عرفات في مراحل كثيرة، إلى أن استقر به المقام في بناء المقاطعة في رام الله، وقد فضّله على كل فنادق العواصم.

عن الحياة اللندنية

اخر الأخبار