تزييف الوعي، مرحلة طويلة من العبث؟!

تابعنا على:   00:43 2018-09-23

د. رياض عبدالكريم عواد

لقد أدت عوامل عديدة، متناقضة ومتقاطعة الى تشويه وتزييف وعي المجتمع الفلسطيني، جماعات وافراد، مما أدى إلى التأثير علي مقدرة الجميع في تبني خيارات سياسية واقعية، جرى هذا التشويه والتزييف بعدة طرق.
استطاع تيار الإسلام السياسي، متحالفا مع فصائل اليسار الفلسطيني، أن يقنع المجتمع بعدم فائدة طريق السلام مع إسرائيل، وأن اتفاقية اسلو حتى لو طُبقت، فقد تنازل موقعوها عن 78% من الأرض الفلسطينية، كما انهم تنازلوا عن الكفاح المسلح والقدس وحق العودة. ان التنازل على أرض فلسطين، التي هي أرض وقف اسلامية، حرام شرعا ومرفوض ثوريا!.
ساهم اليسار الفلسطيني في تعزيز هذا الخطاب ولكن بطريقة اخرى، من خلال التركيز على الجملة الثورية، والمخزون الوطني للشعب الذي يعشق الكفاح المسلح، ويقدس حق العودة، ويرى في التنازل عن أي شبر من أرض الأجداد نكوص على العهد، وتراجع عن القيم والمبادئ التي انطلقت من أجلها فصائل الثورة الفلسطينية المعاصرة.
التف حول هذا الخطاب الديني والثوري غالبية المجتمع، بما فيها أبناء وكوادر وبعض قيادات حركة فتح، التنظيم الذي من المفترض أن يكون قائدا لعملية السلام بسبب وعيه وقناعته بأهمية وموضوعية هذا المسار، والذي من واجبه أن يقنع المجتمع به، ويدافع عن مساره وإنجازاته.
باختصار، كانت اتفاقية اسلو لا تفتقد فقط إلى حاضنة شعبية، بل وهذا هو الأخطر، تفتقد إلى حاضنة وطنية، ومنظرين وطنيين صادقين يؤمنون بنهج السلام ويفهمون دوافعه ومبرراته ويذودون عن هذا النهج بقناعة وإيمان.
قد نجد العذر لاغلبية الكادر الوطني خلال المرحلة الأولى لتطبيق اتفاقيات اسلو، بسبب فجائية التوقيع على الاتفاقية، وعدم التثقيف باسباب ودوافع القيادة من وراء هذا التوقيع، وكذلك عدم سهولة الانتقال من ثقافة المقاومة، التي تعتمد على الكفاح المسلح، إلى مقاومة من نوع جديد، لم يعرفها ولم يتربى عليها المناضلين الفلسطينيين.
ترافق هذا الخطاب المعادي لاتفاقية اوسلو بتصعيد العمليات العسكرية ضد إسرائيل والبدء بعمليات تفجير بين المدنيين، في الحافلات وعلى محطات انتظار الأتوبيسات ومحطات انتظار الجنود داخل اسرائيل.
صفق الفلسطينيون وانشرح صدرهم لهذه العمليات، التي اروت غليلهم، واعادت لهم الثقة بأنفسهم، وعززت لديهم إيمانهم من جديد بحتمية الانتصار من خلال فوهة البندقية، وحشرت هذه العمليات اتفاقية اسلو ومؤيديها القلائل في زاوية ضيقة.
لقد كان لهذه العمليات تأثيرا هائلا على المجتمع الفلسطيني، الذي تعاظم فيه معارضوا اتفاق أوسلو، واتسع حجم التأييد للتنظيمات الرافضة لهذه الاتفاقية، وارتفعت الأصوات ضد اعتقال أي من المجاهدين أو أعضاء الاجنحة العسكرية أو حتى السياسية لهذه التنظيمات، مما دفع بالعديد من كوادر وقادة السلطة ليعارضوا هذه الاعتقالات، ويعملوا، كوسطاء خير ورسل محبة ووئام، بين الأجهزة الأمنية والرئاسة من جهة، وبين هذه التنظيمات من جهة اخرى، من أجل الإفراج الفوري عن أي معتقل من صفوف هذه التنظيمات.
لقد دفعت هذه الأوضاع السلطة الفلسطينية أن تستخدم سياسة الباب الدوار مع كل من تعتقلهم، وفشلت في الدفاع عن نفسها واقناع المجتمع، فضلا عن ابنائها، بمبررات هذا الاعتقال، مما زاد في تشويه صورتها. لقد تكون داخل السلطة مجموعة من الوسطاء يفتخرون بتأديتهم لمهمة الصليب الاحمر النبيلة؟!.
لم يقتصر تأثير هذه العمليات على المجتمع الفلسطيني، بل تعداه ليؤثر تأثيرا هائلا على المجتمع الاسرائيلي، الذي تحول تحت تأثير هذه العمليات إلى رافض ومن ثم معادي إلى اتفاقيات اسلو، تحت وقع هذه العمليات التي استغلها اليمين الصهيوني، وكثف من تحريضه ضد اتفاقية أوسلو، مصورا لها بالعدو الحقيقي لإسرائيل والصهيونية، هذه الاتفاقية التي جرى تمريرها في الكنيست بأغلبية غير يهودية. كل هذا أدى إلى ان تتحالف المؤسسة الامنية الصهينية مع اليمين اليهودي المتطرف الذي قرر التخلص من اهم قادة اتفاقية اسلو، وأطلق الرصاص علي رابين في وضح النهار.
كان للانتفاضة الثانية دورا هاما في استكمال تزييف وعي المجتمع وتشويهه، ودفعه لسلوك طريق لا يقدر عليها، وتتناقض كليا مع امكانياته وواقعه ومصلحته من اتفاقية أوسلو، التي مازال يعيش في كنف الكثير من إنجازاتها.
استغلت إسرائيل هذه الانتفاضة ابشع استغلال، ووجهت كل أسلحتها ضد السلطة الوطنية، فدمرت مقراتها ومؤسساتها، ولاحقت أفراد المؤسسة الأمنية، الذين قادوا هذه الانتفاضة، بالقتل والاعتقالات، واغتالت الشهيد عرفات بالسم، مما خلق حالة ارباك وفراغ امني ومؤسساتي، وبروز فئات هامشية جديدة مستفيدة من حالة الفراغ والفوضى والفلتان الأمني، تضغط على السلطة من أجل مصالحها الخاصة.
كل ذلك فاقم من الوضع الأمني المجتمعي، وأدى الى تعالي الأصوات التي بدأت تطالب بتوفير الامن الشخصي، خاصة في ظل تغول كثير من الدشر، وتفاقم المشاكل بين العائلات الكبيرة، وازدياد ظاهرة الاعتداء على مؤسسات السلطة وقادتها، وصولا لاضطرار بعض القادة اتخاذ عناصر من أبناء التنظيمات المعارضة مرافقين لهم لحمايتهم، وكله بثمنه؟!.
ترافقت حملات تزييف وعي المجتمع، الذي نجحت فيه الفصائل المعارضة لاتفاقية اوسلو مستخدمة كل المنابر، من المساجد إلى الإذاعات والتلفاز والصحف وخطباء مآتم الشهداء، مع اتباع سياسة ممنهجة لتشويه العديد من القادة والأجهزة والمجموعات، واطلقت عليهم صفات والقاب، اصبحت رائجة ومقبولة، ليس في المحتمع فقط، بل وبين ابناء السلطة وكوادرها، مستغلة حالة التنافس والتعارض بين بعض هذه الاجهزة. لقد وصلت حالة التعارض هذه والتنافس إلى عدم معرفة الجهة/الجهات التي اغتالت عددا من كوادر وقادة الأجهزة الأمنية.
لقد أدى البطش الاسرائيلي الممنهج والمتواصل ضد السلطة وأجهزتها ومؤسساتها وابنائها، وتنكر إسرائيل وتراجعها عن تطبيق العديد من بنود الاتفاقية، باستخدام ذرائع مختلفة، خاصة ذريعة ضعف السلطة وعدم مقدرتها على منع العمليات العسكرية ضد اسرائيل. بالاضافة الى طول مدة المفاوضات وتمديدها إلى أكثر من مرة، دون انجازات واضحة على الارض، وبهتان صورة المفاوض الفلسطيني، وظهوره بأضعف صوره، بسبب التعنت الاسرائيلي، والتسريبات المقصودة، والدعاية الداخلية السوداء والمتواصلة. ترافقت هذه الصورة مع تغول الاستيطان والمستوطنين والجدار والنهب المبرمج للأرض والمياه، والاذلال المقصود للسلطة وابنائها وشعبها.
أدت كل هذه العوامل إلى خلق حالة من الفوضى والفراغ الامني والتنظيمي داخل معظم مؤسسات السلطة، دفعت بالكثير من الناس أن تتوق لليوم الذي تتخلص فيه من هذه السلطة، الفاشلة والضعيفة.
لقد وصلت السلطة وحركة فتح إلى الانتخابات منهكة ومفككة وضعيفة ومشوهة، مما أدى إلى خسارة هذه الانتخابات وتقدم حركة حماس، خاصة في انتخابات الأفراد، ووصولها إلى أغلبية برلمانية وتشكيلها لحكومة جديدة.
لن نواصل سرد ما حدث، ولكن النتيجة تظهر انه كما كانت تتوق الناس للتخلص من حكومة فتح، أصبحت الناس اليوم في غالبيتها تتوق إلى هذه الحكومة، وتتمنى اليوم الذي تعود فيه، مقارنة بين مختلف أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية السابقة وبين شظف الحياة الذي تعيشه اليوم، اضافة الى تراجع القضية، من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، تطمح إلى تهدئة أو هدنة تطول أو تقصر، والى مطار وميناء في البلاد البعيدة. لقد انكشف بوضوح للكثيرين حجم التزييف والتشويه الذي لعبه الخطاب الديني والفصائلي الثورجي.
أن هذه المرحلة الطويلة من المعاناة والخسارة والتراجع قد يكون لها أهمية وفائدة واحدة فقط. لقد تعلم الكثير من أبناء المجتمع أهمية الواقعية السياسية، وعدم الركون للخطابات والشعارات الكبيرة، التي تحاكي عاطفة المجتمع وتطلعاته، وتتناقض مع واقعه ومقدرته وإمكانياته. فهل تعلم الكثيرين حقا؟!


الخلاصة
اسلو كانت ضرورة ناريخية أضطرت لها القيادة الفلسطينية تحت الشروط الذاتية والموضوعية التي كانت سائدة. لقد ماتت اتفاقية أوسلو وتجاوزها الزمن لذلك لا فائدة من المطالبة بالغائها ومن المفيد التعامل مع نتائجها بإيجابية.
لم تكن اتفاقية أوسلو استكمالا أو نتيجة لمرحلة كامب ديفيد، كما انها لم تنهي النضال الوطني الفلسطيني، ولم تسهل لا الاحتلال، ولا الاستيطان الذي هو احد نتائج هذا الاحتلال، ولن يزول الا بزواله. ان هذه الادعاءات التي تحاول ان تشيعها قناة الجزيرة وموقعها الإلكتروني من خلال كتابات بعض الفلسطينيين عارية عن الصحة، وتفتقد لأي موضوعية، أن هذا الربط المفاجئ بين اسلو وكامب ديفيد ومحاولة النبش في التاريخ له أهداف بعيدا عن المراجعة التاريخية.
أن هذه المرحلة الطويلة من العبث والخسارة الصافية على كل الصعد تؤكد أهمية تبني السياسة الوطنية الواقعية التي ترتكز على العمل السياسي المتواصل والمقاومة الشعبية السلمية.
أن التاريخ سيسجل للرئيس ابو مازن وعيه المبكر لأهمية السياسة الوطنية الواقعية ومقدرته، من خلال قناعاته وليس استجابة للواقع السياسي، على التأثير على شرائح وافراد وجماعات من المجتمع، واقناعهم بأهمية تبني هذه السياسة الواقعية.
أن هذه اللحظة تحتم على الكل الفلسطيني الالتفاف والتوحد حول الرئيس ابو مازن وسياسته الواقعية في التصدي لكل المخاطر التي تواجه القضية الفلسطينية.

اخر الأخبار