في تأصيل مفهوم السلام الاقتصادي

تابعنا على:   11:52 2018-09-12

محسن ابو رمضان

في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ، كانت دولة الاحتلال تروج لمشروع تحسين مستوى المعيشة التي كانت الإدارة الامريكية ووكالة التنمية الامريكية تدعمه بقوة بالإضافة إلى روابط القرى إلى جانب التطبيع التي كانت بداياتها ترويج وتشجيع اللقاءات الاكاديمية الفلسطينية – الاسرائيلية .

لم تغير دولة الاحتلال سياستها تجاه التعامل مع شعبنا كمجموعات سكانية ليس لها الحق في تقرير المصير لذلك فإن كل المشاريع والمقترحات سواءً من اليمين أو الوسط أو اليسار في اسرائيل لم تتجاوز فكرة الحكم الإداري الذاتي او إدارة شؤون السكان أو الادارات المحلية علماً بأن شعبنا بقواه السياسية و الجماهيرية الفاعلة بالأراضي المحتلة استطاع ان يقبر هذه المشاريع ومنها مشروع تحسين مستوى المعيشة.
تستند قناعة الاحتلال بهذه المشاريع إلى أن شعبنا لا يملك جذوراً بهذه الارض او حقوق وطنية وسياسية وبالتالي من الممكن اغرائه بتحسين أحواله المعيشية والاقتصادية ليتم تجاوز مطالبه بتطبيق حقه في تقرير المصير وحقوقه الوطنية المسنونة بالقانون الدولي بما في ذلك حق العودة وفق القرار 194 .
وتستند ايضاً إلى المقولة الصهيونية الشهيرة والتي شكلت اساس قدوم المهاجرين اليهود الجدد على ارض فلسطين في بداية القرن الماضي والمجسدة بأن " فلسطين ارض بلا شعب لشعب بلا ارض " ، فالأيديولوجية الصهيونية تنكر علينا مفهوم الشعب الذي يترتب عليه الحق في تقرير المصير بما يتضمن السيادة والدولة .
في اواسط التسعينات من القرن الماضي وبالتزامن مع توقيع اتفاق اوسلو روج شمعون بيرس أحد قادة حزب العمل الرئيسيين لمشروع الشرق الاوسط الجديد ، الذي من الممكن ان يتحول إلى حالة من الازدهار والنهوض الاقتصادي في حالة تلاقي الرأسمال العربي مع العقلية التكنولوجية والعلمية الاسرائيلية ، وذلك تعميقاً لفكرة السلام الاقتصادي ، علماً بأن منظور بيرس لم يكن يشمل ضمان شعبنا لحقه في تقرير المصير والسيادة الوطنية في اطار رؤيته لطبيعة الشرق الاوسط الجديد ،حيث أن تصوره لحل القضية الفلسطينية لم يتجاوز اطار الحكم الاداري الذاتي للسكان مع استمرارية السيطرة الاسرائيلية على الحدود والمعابر والموارد وهو ما تجسد واقعياً في اتفاق اوسلو ، الذي استغلته اسرائيل لتنفيذ الوقائع الاستيطانية على الارض على حساب حقوق شعبنا ، تقويضاً  لممكنات اقامة الدولة المستقلة ذات السياسة تنفيذا للقانون الدولي .
قام نتنياهو عندما تراس لأول مرة حكومة اسرائيل في منتصف ونهاية التسعينات من القرن الماضي بتعزيز مفهوم السلام الاقتصادي بدلاً من الحقوق السياسية مروجاً لفكرة المناطق الصناعية والانشطة والمشاريع الاقتصادية المشتركة بين الفلسطينيين والاسرائيليين وذلك بديلاً للحل السياسي القائم على قرارات الشرعية الدولية .
استغلت اسرائيل الوقت بصورة كبيرة والذي كان يعمل لصالحها ووسعت من عمليات مصادرة الاراضي وتهويد القدس وقامت ببناء جدار الفصل العنصري ، كما استغلت حالة الانقسام الذي حدث في حزيران عام 2007 ، وذلك لتفكيك اية امكانية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وباتجاه تمرير حلول ذات طبيعة انسانية ومعيشية وجهوية على حساب الحقوق السياسية .
قامت كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن بالتنظير لفكرة الشرق الأوسط الكبير ، الذي يمتد من باكستان إلى المغرب والذي تصاحبه الفوضى الخلاقة وذلك باتجاه استثمار الثروات العربية لصالح القوى الخارجية وتفتيت وتجزئة الوطن العربي وفق الصراعات الطائفية والاثنية والجهوية والقبلية ، وبما يعمل على اضعاف الحالة العربية على المستوى القطري ، وبما يعزز تفوق اسرائيل اقتصادياً وعسكرياً وذلك على طريق بلورة حلف اقليمي تقوده في مواجهة الاعداء "المشتركين " .
واضح ان هذه النظرة نفدت من خلال الصراعات التي بدأت منذ حوالي 6 سنوات وما زالت تفاعلاتها مستمرة حتى هذه اللحظة ، حيث تشهد العديد من البلدان العربية صراعات طاحنة أدت إلى استنزاف طاقاتها ومواردها وثرواتها واضعافها وتفتيتها ، وقد استثمرت ذلك بعض القوى الدولية ، مع العلم ان الرابح الاكبر من وراء هذه الصراعات هي اسرائيل التي تعمل على استغلال حالة الاستنزاف الداخلي باتجاه يعزز من تفوقها على حساب الثروات العربية.
جاء الرئيس الامريكي ترامب وإدارته اليمينية الجديدة لتتماهي بالكامل مع توجهات حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل بقيادة نتنياهو ،وقد تعزز هذا التماهي من خلال انطلاق ترامب من اصول تجارية لها علاقة بالمضاربات والعقارات والاستثمارات ، بالوقت الذي يؤمن نتنياهو بفكرة السلام الاقتصادي والتي يعتبرها بديلاً عن الحلول السياسية وعن حق شعبنا في تقرير المصير .
إن تهديد مندوبة امريكيا بالأمم المتحدة نيكي هيلي للأعضاء بحرمانهم من الاموال الامريكية في حالة صوتوا في معارضة مع ما تصوت عليه امريكا يعكس صلافة وعنجهية رأسمال الذي يعتقد ان كرامة وقرارات الشعوب ممكن ان تتأثر من أدوات الابتزاز المالي وفي تناسي كامل لإرادة الشعوب الحية تاريخاً والتي استطاعت طرد الاستعمار وتحقيق الاستقلال والتحرر الوطني وفي تجاوز للأعراف الدبلوماسية والدولية التي تريد اميركا استبدالها بأدوات الهيمنة عبر القوة العسكرية والاقتصادية والمالية.
تتقاطع فكرة السلام الاقتصادي والمبنية على تنفيذ مشاريع واستثمارات تساهم في معالجة مشاكل الفقر والبطالة ، مع ما يروجه العديد من الاوساط والكتاب ومراكز الابحاث الاسرائيلية وذلك فيما يتعلق بإنشاء كيان فلسطيني في قطاع غزة وهو عبارة عن اقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي ليصبح مركز الكيان الفلسطيني الذي من الممكن ان يمتد جغرافياً أو تمتد اذرعه الإدارية إلى الجيوب والمعازل بالضفة ، والتي يخطط لضم مساحات واسعة منها لإسرائيل .
أحد ابرز المروجين لدولة غزة كان غئولا آيلند وهو رئيس مجلس الامن القومي الاسرائيلي السابق الذي تحدث بتفاصيل عن دولة غزة مستنداً لما صدر من معهد " جافي " عام 1992  والذي يعتبر نتاجاً لمؤتمر هرتسيليا والذي ضم نخبة الصهاينة بالداخل والخارج ، وذلك باتجاه يساهم في حل المشكلة الديمغرافية حيث ان قطاع غزة يبلغ عدد سكانه حوالي 40% من عدد سكان الاراضي الفلسطينية المحتلة  عام 1967 كما أن مساحته تبلغ حوالي 3% منها ، الأمر الذي يساهم بالتخلص من عبأ سكاني كبير لقاء مساحة جغرافية صغيرة ، ويتم بالتالي استسهال الاستفراد بالضفة التي تعتبر مستهدفة وفق الاستراتيجية الصهيونية بأبعادها السياسية والاستراتجية والايديولوجية .
فرضت دولة الاحتلال حصاراً مشدداً على قطاع غزة منذ منتصف حزيران 2007 ومنعت ادخال العديد من المواد اللازمة لعمليات التنمية والانتاج ، وتراجعت مستويات المعيشية وارتفعت معدلات الفقر والبطالة بصورة غير مسبوقة وقد عمق ذلك العمليات العسكرية الاسرائيلية الواسعة على القطاع وكان آخرها عدوان 2014 ، حيث اصبحت الحياة على المستوى المعيشي صعبة للغاية وقد عكس ذلك تقرير الامم المتحدة عام 2016 ، والذي أكد بأن قطاع غزة سيكون مكان غير ملائم للعيش في عام 2020 .
كان من الطبيعي ان تتحرك القوى السياسية ومعها قطاعات اجتماعية وجماهيرية واسعة باتجاه العمل على انهاء الحصار فكانت فكرة مسيرات العودة وكسر الحصار عن قطاع غزة والتي اعادت القضية الفلسطينية وحالة الحصار إلى المشهد الدولي من جديد .
ومن اجل تطويق تداعيات الحراك وعدم تطويره إلى حالة من التصادم العنيف تحركت بعض الاوساط الدولية والاقليمية لاحتواء الحالة ، حيث ادى ذلك إلى مباحثات التهدئة .
وإذا كانت التهدئة وانهاء الحصار هو مطلوب وطني وشعبي وانساني وحقوقي مشروع فمن الهام وضعه في اطار التصور الوطني الفلسطيني الذي من الضروري ان يكون موحداً في مواجهة صفقة ترامب التي تتبنى بالكامل مشروع نتنياهو المجسد بمفهوم " السلام الاقتصادي " .
وهنا ومرة اخرى  فيجب الاخذ بعين الاعتبار ما صدر عن معهد جافي في اسرائيل عام 1992، من " كتاب الدولة الفلسطينية " ، والذي نتج عن مؤتمر هرتسيليا ، حيث اجابوا المشاركين الصهاينة حينها على سؤال يتجسد بكيفية حل المشكلة الديمغرافية ، وذلك من خلال التخلص من قطاع غزة والذي من الممكن ان يتحول إلى كيان فلسطيني وبالمقابل يتم الاستفراد بالضفة الغربية عن طريق الاستيطان ومصادرة الاراضي وهذا ما نفذه شارون في مشروع إعادة الانتشار عام 2005 ، وقد ادرك ذلك العاملين بالحقل القانوني ، حيث صنفوا ما قام به شارون بإعادة انتشار أو انفصال احادي الجانب ، ولكن ابقى ذلك مسؤولية الاحتلال مستمرة على القطاع بوصفه اراضي محتلة تنطبق عليه وثيقة جنيف الرابعة .
وبما أن اسرائيل لا تعترف بحق شعبنا في تقرير المصير فإن أية معالجات حتى لقطاع غزة وحده ترى به حلاً انسانياً واقتصادياً لا يرتقي للحق بالسيادة وتقرير المصير ، لأن هذا الحق حتى لو كان على جزء صغير من ارض فلسطينية فهو يتنافى مع الرواية الصهيونية حول أن فلسطين " ارض بلا شعب لشعب بلا ارض " .
تعتبر حكومة اليمين المتطرف برئاسة نتنياهو بأنها مارست خلال أكثر من 11 سنة من الحصار ومن العمليات العسكرية العدوانية الواسعة على القطاع أنها تريد بذلك ان تحقق حالة من " كي الوعي " ترغم شعبنا بالقبول بالحلول الاقتصادية على حساب الحقوق السياسية وعلماً بأن التجربة الفلسطينية اشارت بما لا يدع مجالاً للشك بأن شعبنا تواقاً للحرية والكرامة وليس للحلول الانسانية والاقتصادية المبنية على اهمية ذلك الاخيرة وقد برز ذلك بوضوح في عام 1987 والتي كانت افضل اعوام الاقتصاد الفلسطيني نمواً ولكن وبالرغم من ذلك فقد اندلعت في هذا العام الانتفاضة الشعبية الكبرى .
يثار هنا تساؤل عن أولوية المصالحة على التهدئة ام العكس ، حيث انني ارى ان المصالحة هي الممر الاجباري والطريق الوحيد لاعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة وترتيب البيت الداخلي على طريق تعزيز مقومات الصمود واستكمال مهمات التحرر الوطني ، الأمر الذي يتطلب السعي المستمر لتحقيقها وليس اعتبارها خياراً من الخيارات ، فهي الخيار الاجباري والضروري والذي من خلاله يمكن افشال مخططات التجزئة والتفتيت واستعادة العمل الوطني الفلسطيني الموحد .

وعليه فإننا بحاجة إلى تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية الشاملة والشراكة السياسية التي من خلالها نستطيع افشال صفقة ترامب المبنية على فكرة السلام الاقتصادي ونستطيع احياء البعد السياسي والحقوقي لشعبنا عبر إدارة وطنية جامعة ، خاصة ان اسرائيل تعتقد انها في فترة ذهبية غير مرغمة بها على تقديم أية تنازلات ممكنة ، الامر الذي يتطلب العمل على تعزيز مقومات الصمود وابقاء القضية حية في مواجهة التحديات الخطرة التي تواجهها والعمل على تعديل موازين القوى على الارض عبر وسائل النضال الشعبية والسياسية والقانونية المختلفة .
 وعليه وفي اطار تصور نتنياهو لمعالجة الحالة الفلسطينية عبر تقديم حلولاً اقتصادية لقطاع غزة ليصبح هو مركز الكيانية الفلسطينية ، فإن المشاريع المقترحة تكون عبارة عن تسهيلات تستطيع اسرائيل سحبها متى تشاء ، كما انه لن يتم اعطاء شعبنا بالقطاع الحق في بناء ميناء ومطار تحت السيادة الفلسطينية ولكن في اطار استمرارية الرقابة الاسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة عليها ، حيث ان اسرائيل ترفض السيادة الفلسطينية على الموارد والمعابر وتعتبر المطار والميناء من مقومات السيادة إلا إذا تم ذلك في اطار تسوية تنهي الصراع لتقم هي بضم مساحات واسعة بالضفة الغربية مقابل منح شعبنا لكيانه السياسي المحدود في قطاع غزة .
 
    

اخر الأخبار