جيريمي كوربن... كابوس نتنياهو

تابعنا على:   15:16 2018-08-19

مصطفى كركوتي

أن يدب الذعر في قلب سياسي إسرائيلي جبّار تُفتح أمامه بوابات البيت الأبيض والكونغرس الأميركي حيثما يشاء، من سياسي بريطاني دخل حديثاً غمار السياسة من هامشها، له دلالة كبيرة على تفاهة حكومة بنيامين نتانياهو وخشية يمين الصهيونية حتى من ظلها. فقد بات الشغل الشاغل للحكومة الإسرائيلية في الأسابيع الأخيرة قضية واحدة تقريباً وهي كيف يمكن إسقاط جيريمي كوربن من زعامة حزب العمال البريطاني المعارض.

لقد جيّش نتانياهو جميع قوى اللوبي الإسرائيلي العتيد لتحقيق هذا الهدف وفي مقدمها «مجلس الأمناء اليهودي» البريطاني، وبين أعضائه نواب من الأحزاب الرئيسية الذي لا هم له غير دعم حكومات إسرائيل مهما كان لونها.

ولفهم الحملة الشرسة ضد كوربن، يجب وضع الأمور في نطاقها المنطقي، إذ يندر أن يصمد سياسي غربي أمام حملة كهذه عنوانها «معاداة السامية»، لا سيما أنه مرشح كي يصبح رئيس وزراء دولة مؤثرة في العالم دائمة العضوية في مجلس الأمن على رغم توسط حجمها. وكونه زعيم ثاني أكبر أحزاب بريطانيا تمثيلاً في مجلس العموم، فكوربن قد يُكلّف تشكيل الحكومة المقبلة في ما لو شغر منصب تيريزا ماي وتعثر خليفتها المحافظ في تشكيل البديل.

 

كوربن ليس ابن المؤسسة، هو نقابي حتى النخاع لا يزال ينتمي إلى فكر مدرسة توني بن ومايكل فوت الديموقراطية الاشتراكية لعقد الثمانينات، وكان دائماً يسبح في فضاء مستقل عن سياسة حكومات العمال منذ آخر الستينات. وهو معروف بتصويته ضد سياسات حزبه (بخاصة في مجال السياسة الخارجية) أكثر من 535 مرة منذ دخوله البرلمان لأول مرة في 1974 وحتى فوزه بزعامة الحزب في 2015. كوربن (69 سنة) أمضى جلّ حياته السياسية في هامش حزبه معارضاً سياساته إزاء معظم الأزمات، لا سيما في عهدي زعامة كلٍّ من توني بلير وغوردن براون. موقفه من المسألة الفلسطينية لا يحتاج إلى توضيح منذ انخراطه في العمل النقابي والسياسي، وهو معروف لمعاصريه الكثيرين بإطلالاته المنتظمة ومشاركته الكثيفة بنشاطات الاحتجاج ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ أواخر الستينات.

ومذّاك، يعبر كوربن عن معارضته الحادة ضد سياسات الحرب ويشارك في حملات مضادة للتسليح النووي، ويدعو دائماً إلى نزع الأسلحة حتى لو كان من جانب واحد ويؤيد التدخل السلمي. ومن موقعه في مجلس العموم كان يتميز بشخصيته المتمردة ونشاطه المعارض للحروب، بخاصة خلال ترؤسه «تحالف الدعوة لوقف الحرب» حتى عام 2015. هذا التحالف يضم مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وناشطي حقوق الإنسان والراديكاليين للوقوف ضد الحرب في أفغانستان والعراق. وكان كوربن يقف سنوات طويلة وحتى التوقيع على اتفاقية «الجمعة العظيمة» الإرلندية، ضد ما اعتبره «استعماراً بريطانياً» لإرلندا الشمالية. عدا دعواته المتكررة إلى إلغاء سياسات التقشف وخفض تمويل الخدمات الاجتماعية والطبية، كما دعا حديثاً إلى إعادة تأميم الخدمات العامة وسكك الحديد التي باعتها حكومات المحافظين للقطاع الخاص.

وكعضو فعال في حملة التضامن مع فلسطين، شارك كوربن في تظاهرات احتجاجية عدة ضد حرب إسرائيل في قطاع غزة وسياسة الأبرتايد ضد أقلياتها العربية. وهو يتميز بين سياسيي بريطانيا بوقوفه ضد تدخل إسرائيل في سياسة بلاده الداخلية، إذ دعا في عامي 2012 و2017 إلى فتح تحقيق رسمي حول تأثير سفارة إسرائيل في لندن في بعض النواب والسياسيين البريطانيين. فهو يتهم علناً أحد أعلام إسرائيل وسفيرها في لندن خبير العلاقات العامة مارك ريجيف ولوبيّها البرلماني وأصدقاءها في الإعلام وخصومه في حزب العمال نفسه، بتنظيم حملة منسقة لتهشيم قيادته لزعامة المعارضة.

وبجهود المؤسسة اليهودية في بريطانيا، يواجه كوربن هجوماً غير مسبوق لتفشيله، إذ لم يعد فقط «معادياً للسامية» في نظرها بل بات «عدواً للشعب اليهودي». فقد خرجت ثلاث صحف يهودية بريطانية ورئيسية بمقال افتتاحي موحد ادعت فيه أن «الحياة اليهودية تواجه خطر الاندثار الآن».

في كل الأحوال، ليس كوربن أول، ولن يكون آخر، سياسي بريطاني يتعرض لحملة مثل هذه، فالاتهام بمعاداة السامية بات أقصر طريق ضد كل من يعارض سياسة الحكومة في إسرائيل والأراضي المحتلة. فقد سبقه زعيم عمالي مرموق في التعرض لاتهام المعاداة للسامية على رغم يهوديته وكونه حفيد أسرة تعرضت للإبادة في الهولوكوست. إنه وزير خارجية الظل الراحل جيرالد كوفمان الذي قال في تصريح برلماني له في 2009 أنه اتُهم بـ «الكراهية لليهود من قبل أحد أعضاء مجلس الأمناء اليهودي».

كوفمان الذي بدأ نشاطه السياسي في تجمع الاشتراكيين اليهود في حزب العمال البريطاني (بوالي صهيون) تعرض لحملة شرسة ومنظمة لشجبه المتواصل لسياسة الاحتلال. وطالب المجـــتمع الدولي بمقاطعة إسرائيل بإجراءات مماثلة لتلك المتخذة ضد جنوب أفريقيا. وكان كوفمان قد بدأ سلسلة من اللقاءات منذ 1988 مع ممثلي منظمة التحرير انتهت بلقائه كأول سياسي بريطاني مع رئيسها الراحل ياسر عرفات في مقره التونسي.

في الواقع، لعب كوفمان، أحد نواب مدينة مانشيستر في مجلس العموم حتى وفاته في 2017، دوراً رئيسياً في ترتيب أول زيارة لعرفات إلى بريطانيا بعد التوقيع على أوسلو. وفي 2002، وصف إسرائيل في خطاب له في البرلمان بـ «الدولة المارقة» ووصف بعض سياسييها بـ «مجرمي حرب»، وخاطب الرئيس - يومذاك - آرييل شارون، إثر الحرب على غزة، و «عملية الدرع الدفاعية» بالقول: «حان الوقت لتذكير شارون بأن نجمة داود لكل اليهود وليست لحكومته المقيتة فحسب... مواهب اليهود في سياقهم الحضاري المتمثل بآنشتاين وإبستاين ومندلسون ومهلر وسيرجي آينستاين وبيلي وايلدر هي الآن في الحضيض نتيجة الهجمة المتوحشة [على غزة] وتورطه بجريمة مخيم صبرا وشاتيلا» في 1982. وفي 2004، كتب كوفمان مقالاً في «الغارديان» تحت عنوان «ما تحقق ضد الأبرتايد يمكن أن ينجح في الشرق الأوسط: دعوة إلى مقاطعة إسرائيل».

كوفمان لم يشكل في أي حال خطراً حقيقياً على سياسة إسرائيل، إذ إنه لم يكن على مقربة من ترؤس منصب رئاسة الحكومة مثل ما هي حال كوربن راهناً. ولكن لوبيّي إسرائيل يدركون أنه إذا كانت ثمة مشكلة في حزب كوربن، فهي ليست حول «معاداة السامية»، بل تدور حقيقة حول سياسة إسرائيل العنصرية في داخلها والتوسعية في خارجها.

عن الحياة اللندنية

اخر الأخبار