الخروج من حالة الفضاء العربى

تابعنا على:   10:57 2018-08-10

من أهم مخرجات ثورتى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 أن المجتمع المصرى كان رافضا «حالة»، ويريد التغيير إلى الأحسن فى مجالات مختلفة، وقرر أخذ زمام المبادرة، ورفع صوته للتعبير، وتأكيد حقه فى المشاركة فى بناء المستقبل.

استناداً إلى هذه المخرجات، أعلنت فى 2013 كوزير خارجية مصر خطة تحرك، لحماية الثورة، واستعادة دورنا الإقليمى، ولبناء المستقبل، مؤكداً على ضرورة أخذ العرب لزمام المبادرة فى رسم مستقبلهم.

وخلال نفس العام استلفت ذلك نظر السيد طلال سلمان، رئيس تحرير جريدة السفير السابق، فسألنى خلال زيارة للبنان عن المشروع الذى فى ذهنى لمصر، فأجبت «إنشاء دولة عربية عصرية تواكب القرن الـ21 ويحتذى بها فى الشرق الأوسط»، مؤكداً أن هذا يجب أن يكون أيضاً مشروعا عربيا، لأن الصحوات العربية منتشرة ومتكررة، جميعها تطالب بالتغيير وإصلاح الحال والمشاركة، بصرف النظر عن حدة أزمات سوريا وليبيا واليمن، أو كبوات مصر خلال عام 2012، أو النجاحات المتدرجة للبعض الآخر مثل تونس، وما نشهده من تغييرات مجتمعية فى المملكة السعودية.

غنى عن التأكيد على أن العماد الرئيسى للاستقرار العربى هو إيجاد معادلة اجتماعية متجددة بقبول الغالبية العظمى من الشعوب، بصرف النظر عن اختلاف انتماءاتهم السياسية أو الاقتصادية، وهو ما لا يتقق دون حكم رشيد، وأرجو أن يكون عالمنا العربى بحكامه وشعوبه قد أيقن ذلك وتقبله، حتى وإن قضينا بعض الوقت فى الاستقرار على الأسس السياسية لإدارة أمورنا، بما يضمن الشفافية، والمحاسبة، ولم الشمل وفقاً لدساتيرنا.

وإذا كانت أوضاع العرب الداخلية قد تعرضت لهزات وكبوات وعدم استقرار، فوضعنا العربى الإقليمى لم يكن أفضل حظاً، بل ليس من المبالغة القول بأن العالم العربى قد غاب عن دوره الإقليمى فترة طويلة، مما أتاح للأطراف الإقليمية غير العربية ممارسة سياسات على حساب العرب، بهدم إسرائيل فرص إقامة سلام الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، وتوغلات تركيا فى المشرق عسكرياً وسياسياً، خاصة فى سوريا والعراق، سعياً لتحقيق طموحات إقليمية واسعة، فضلاً عن تبنيها نظريات تيار «الإسلام السياسى» الذى هز استقرار المنطقة، وانتشار إيران مباشرة ومن خلال مؤيديها على الأرض من البحر الأبيض إلى الخليج العربى وباب المندب، بممارسات خشنة وتدخل صريح فى الشؤون الداخلية للدول المجاورة لها.

وقد كتبت بتاريخ 22 مارس 2016 بصحيفة الأهرام عن «الفضاء العربى» وبروز الدور الإسرائيلى فى صياغة «صفقة القرن»، وتركيا وإيران فى الجهود التى تتزعمها روسيا حول سوريا، فضلاً عن الوضع فى اليمن، وأكدت فى هذا السياق فى مناسبات عدة أن الشرق الأوسط والعالم العربى ظل لسنوات طويلة مطمعا للغير، الدولى والشرق أوسطى، مورست معه مؤامرات عديدة ومتنوعة، كان لها جميعاً تأثير على الحال العربى، وصعبت فى حالات عدة تحقيق طموحاتنا.

وأكدت أيضاً فى نفس الوقت أن العالم العربى هو المسؤول أولاً وأخيراً عن ماضيه ومستقبله، ويعانى من قصور فى عنصرين أساسيين، هما غياب الحكم الرشيد الذى يتعذر دونه التوصل إلى معادلة مجتمعية داخلية تجتمع حولها الغالبية العظمى، وثانيهما ضعف ممارساته وقدراته فى مجال الأمن القومى نظراً للاعتماد المبالغ فيه على الغير، خاصة فى تأمين السيادة، مما يترتب عليه تدنى القدرات الوطنية والسياسية والعسكرية لصالح أطراف إقليمية غير عربية، وهو ما ظهر جلياً بعدما قررت الدول العظمى خاصة الولايات المتحدة تحجيم عطائها الأمنى الشرق أوسطى بعد أحداث إرهاب 2001، وتداعيات أحداث أفغانستان والعراق، كما شهدنا فى ولاية بوش الثانية، وإدارة أوباما، والاقتراحات الأخيرة لإدارة ترامب الداعية لتشكيل حلف عربى مماثل للحلف الأطلنطى للتصدى لإيران.

يتساءل ويستغرب البعض عن أسباب فشل العرب فى إدارة عملية التغيير، وعن مبررات الفوضى السائدة بالمنطقة، فبالإضافة إلى الأسباب السابق شرحها أعلاه، فمن أهم الأسباب خلال العقود الأخيرة غياب النموذج العربى الذى يمكن أن يحتذى به كدولة معاصرة للقرن الحادى العشرين، وهو الدور الذى كانت تلعبه مصر فى سنوات كفاح العديد من الدول العربية للحصول على استقلالها من الاحتلال الأوروبى.

والحقيقة الثانية التى على الجميع الاعتراف بها هى أنه لن يسود أو يدوم الاستقرار فى المنطقة فى غياب توازن الشرق أوسطى فى مجال الأمن القومى، وبالتحديد أستبعد أن يعود الاستقرار قبل إعادة توجيه العلاقات بين تركيا ومصر، وبين المملكة العربية السعودية وإيران، وكلاهما على حد سواء صعب جداً، إن لم يكن مستحيلا على المدى القصير، لرعاية تركيا جماعة الإخوان المسلمين ومخاوف السعودية وقلقها من الممارسات الإيرانية فى دول الخليج العربى والعراق والمشرق مشروعة ومتجذرة عميقاً.

لكل هذه الأسباب يحتاج العالم العربى إلى صحوة دبلوماسية بنفس حجم الصحوات العربية الداخلية، دون أخطارها، خاصة أن الشرق الأوسط فى مرحلة تغيير تاريخية، ليبيا وسوريا واليمن، وحتى العراق على حساب الحكومات العربية المركزية. والخطورة هنا ليست فى تطبيق النظام الفيدرالى داخل المنظومة الوطنية فحسب، إنما فيما يبدو أن الخطوط الفاصلة المقترحة يتم وضعها وفقا لاعتبارات عرقية أو طائفية، مما من شأنه زعزعة استقرار المجتمعات العربية المستقرة وتأجيج نار الصراعات العرقية بدلاً من الهويات الوطنية، وهى معادلة يمكن سوء استغلالها لتفتيت الدول العربية، وتثبيت الأمر الواقع فى المشرق ومن بعده فى فلسطين. هناك مؤشرات بأن الدول الكبرى جميعاً أرهقت من نزاعاتنا، وتريد الانتقال إلى مرحلة إدارة الأزمة حتى وإن كان ذلك على حساب الحقوق الوطنية.

وأعتقد أن الدول العربية لديها الكثير من القواسم المشتركة من إرث تاريخى والقيم الثقافية المشتركة التى لا ينبغى الاستهانة بها، وعلينا أن نكون أكثر نشاطاً دبلوماسياً على الصعيدين الفردى والمشترك.

وأقترح فى هذا الصدد الخطوات التالية:

أولاً: إصدار وثيقة مواطنة للدول العربية، تتبنى مبادئ وأسسا معاصرة لحقوق المواطن، دون تمييز عرقى أو طائفى أو دينى، وتحافظ على وحدة الدول وتماسكها.

ثانياً: إجراء مشاورات عربية لوضع تصورات وضمانات للحفاظ على وحدة الدول العربية المتنازعة، فهناك دول غربية فيدرالية عديدة قسمت سياسياً،ومع ذلك حافظت على وحدتها من خلال معادلة من الحوافز سياسية واقتصادية وأمنية تدفعها للتعامل بمفهوم وطنى رغم تنوع أصولها العرقية.

ثالثاً: على العرب إعادة توجيه علاقتنا الخارجية بالاعتماد على الذات والتعاون فيما بيننا بدلا من الاعتماد المبالغ فيه على الغير.

رابعاً: تنشيط وتطوير هيئة التصنيع العربية، والتى يمكن أن تعيد التوازن جزئياً فى قدرات الأمن القومى العربى، وتمكن الدول العربية من التصدى بشكل أكفأ للعديد من النزاعات أو المخاطر الهامة، التى تتطلب ردعا أو تصديا سريعا ولا ترتقى إلى المستوى والمخاطر مما يشكل دافعا قويا لمساندة من الخارج.

خامساً: أؤيد تشكيل قوة عربية توفر رد فعل سريعا حماية للمصالح العربية، على أن يتم وضع ضوابط لعملها، توفر لها سرعة الحركة وحكمة اتخاذ القرار والتوقيت المناسب لتوظيفها.

سادساً: طرح العالم العربى نموذجا جديدا للأمن فى الشرق الأوسط من حدود العالم العربى إلى الداخل، وكذلك تجاه جيرانهم الإقليميين، تركيا وإيران وإسرائيل، بما يحافظ على الهوية العربية ويتعامل بواقعية وحكمة مع التغيرات الإقليمية والدولية كدول عربية قوية وفخورة، متطلعة لمستقبل أفضل. وأقترح فى هذا الصدد تشكيل مجموعة حكماء تكون مفتوحة العضوية للأمناء السابقين لجامعة الدول العربية، وزراء الخارجية العرب السابقين عامةً، وخاصةً من خدموا اعتباراً من عام 2000.

سابعاً: تشاور العالم العربى حول الإطارات المطلوبة من تركيا وإيران للبدء ببناء الثقة تجاه مصر والسعودية والدول الخليجية، كخطوات أولية تدريجية نحو السيطرة على تفاقم علاقتهما، وذلك من خلال تكليف المغرب والسعودية والأردن للتحدث بالنيابة عن العرب مع تركيا، مقابل تحدث مصر والجزائر والكويت نيابة عن العرب مع إيران.

ثامناً: من الواضح أن حكومة نتنياهو وإدارة ترامب غير ملتزمتين بأسس عملية السلام العربية الإسرائيلية التى حكمت كافة الاتفاقيات النهائية والمرحلية بين إسرائيل ومصر والأردن وسوريا وفلسطين، وأهمها احترام السيادة الوطنية العربية على حدود 1967 وإقامة دولة فلسطينية مقابل تواجد إسرائيل فى المنطقة والتعايش معها.

لذا ليس أمام العرب سوى تسجيل مواقفهم جماعية فى مجلس الأمن، وفقاً لمبادرة السلام العربية لعام 2002، حفاظاً على أسس عملية السلام، إلى أن تتهيأ الظروف مستقبلاً لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية جادة. لأن التفاوض على أساس مغالطات نتنياهو أو مفاهيم ترامب الفجة التى تسعى إلى تفتيت القضية الوطنية الفلسطينية مقابل دعم اقتصادى سيكون خطأ تاريخيا وجوهريا. وعلى الدول العربية بالتوازى مع هذا التصدى قانونياً فى المحافل المختلفة لمخالفات إسرائيل من توسع استيطانى وتهويد القدس وغير ذلك.

تاسعاً: استضافة مصر قمة ثلاثية تونسية مصرية جزائرية حول الوضع فى ليبيا لضبط المشاكل الحدودية مع الدول العربية الجارة، وتمهيداً للتحرك مع الأطراف الليبية المختلفة والمفوض الأممى لاستقرار الأوضاع داخل البلاد وفقاً لتصورات ليبية وعربية وللحد من التدخلات الخارجية.

عاشراً: إصدار إعلان مبادئ عربى إقليمى حول أمن البحر المتوسط، يمهد له بقيادة مصر بمشاورات سياسية للدول العربية المطلة على البحر وتعقبها مشاورات فيما بين تلك الدول وغيرها من الدول الإقليمية غير العربية خاصة بالنسبة لشرق إفريقيا والدول المطلة على باب المندب.

* وزير الخارجية المصري السابق

عن المصري اليوم

اخر الأخبار