قراءة في رواية فلسطينية حتى النخاع

تابعنا على:   11:29 2018-08-03

عثمان محمد الأخرس

رواية فلسطينية من منشورات دار الشروق للنشر والتوزيع وهي معنونة باسم - الجرمق ... للكاتب مهند الأخرس , والرواية تقع في أكثر من أربعمائة صفحة حازت على الجائزة الأولى في فلسطين - وهي جائزة جبرا ابراهيم جبرا ... وقد سجل الكاتب في روايته الأولى تجربته الوطنية والثورية المكتسبة من المعرفة والقراءة الجيدة والخبرة المتواضعة في واقع الثورة والثوار الذين خاضوا معركـة التحرير من أجـــل فـلسـطـيــن .

والرواية بأحداثها الكبيرة والصغيرة مروية بقلم كاتب أنا أعرفه معرفة جيدة , فهو قارئ شغوف وباحث جيد . أدرك منذ طفولته في مخيم البقعة معنى الثورة والوطن , وجعلته يعتقد كغيره من أطفال المخيم ان الوجود الفلسطيني في مخيمات الشتات هو وجود مؤقت , وان طريق عودته الى فلسطين باتت قريبة , وقد اختزنت لدى ذاكرة الكاتب العديد من المواقف والذكريات في المخيم . صاحبه حس ثوري عميق وعاطفة قوية تجاه من قدموا أرواحهم فداءاً لفلسطين .

وكان لشخصية الفدائي الفلسطيني علي ابو طوق نصيب في قلب وذاكرة الكاتب , لذلك صارت شخصية ابو طوق الشخصية المحورية في الرواية , وقد اختارها الكاتب عن قناعة وحب لأنه يعرف تماماً ان هذه الشخصية عاشت تجربة العمل الفدائي منذ البداية وكان مثالاً للشجاعة والبطولة والسلوك الثوري النظيف , وهو صورة رائعة للمقاتل الفتحاوي الذي آمن بقضيته وآمـن بالثـورة فعـاش معها الفـرح والحـزن والألــم والنصـر .

هذا العمل الطويل وعلى ما فيه من صبر وجهد في التدوين تمكن فيه الكاتب من تسليط الضوء على العديد من الأحداث المهمة التي مرت في تاريخ الشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية , واختص الكاتب مرحلة بيروت , فأبدع في وصف هذه المرحلة . وكان علي ابو طوق بطل رواية الجرمق عنواناً لهذه المرحلة ... لماذا علي ابو طوق ؟

السؤال بحد ذاته وعلى ما أظن انه اتعب الكاتب فكرياً وذهنياً حيث اعترف بنفسه في الرواية بأنه لم يكن يعرف عن علي إلا ما اختزنته الذاكرة من قصص وحكايات . فوجد الكاتب ضالته في الكتب والمجلات والصحف المختصة بفلسطين , وتتبع أيضاً كل من كتب عن علي ابو طوق , واستمع الى كل من عاصروا هذا الأسطورة , فقالوا عنه الكثير, وتغنوا به حتى صار سيمفــــونيـة ساحـرة تعشقهـا عندمـا يراودك الحنين للثورة ولبيروت .

ــ وحين تريد الذاكرة أن تتكلم ... كل شيء يبدأ...

والبداية أو مدخل الرواية كانت في أولى الصفحات , حيث استهلها المؤلف بحوار مع صديق اتبعه قسم باسم علي ابو طوق وبالرغم من استهجان الكاتب للقسم أو اليمين , إلا أنني كقارئ اعتبــرتــه قسمـــاً غيــر مقصـــود .

ولأن الثقة والإعجاب بمن تحب أحياناً تجعلك تحلف بحياته كما تحلف بحياة والدك . فالقسم هنا كبير , والمحبة ليس لها حدود ولكنها تحتاج الى شرعيــة تـستـنــد إلـيـهـــا . والشرعية عند صاحب القسم هو الانتماء الوطني الذي اكتسبه من شخصية علي ابو طوق , فكان علي ابو طوق بالنسبة لصاحب القسم قـدوة ومثــل فــي الأخـلاق والسلــوك الثــوري النـقـــي .

والقسم هنا هو الذي أعطى الكاتب الحق في البحث والدراسة عن البطل , لتكون محوراً أساسيا في روايته ومدخلاً يقوده أيضاً الى مجموعة من التساؤلات حول العديد من القضايا الوطنية والثورية التي رواها المؤلف من خبرته في العمل الطلابي والتنظيمي ومن الأصدقاء المثقفين ورفاق الدرب وشركاء الفكرة الذين أيقنوا تماماً صعوبة المرحلة السابقة في تاريخ الشعب والثورة الفلسطينية .

في بيروت خسر الفلسطينيون الكثير , إلا أن الوعي الفكري وثقافة بيروت النضالية بقيت راسخة في أذهان كل فرد عاصر هذه المرحلة . وذكريات بيروت ما زالت محفوظة في أرشيف الذاكرة الفلسطينية , وكل الشخصيات التي جاء بها الكاتب في روايته كانت من الواقع وليس من وحي الخيال , وبالتالي هي تحمل في ذاكراتها الكثير من الصدق والأمانة حول علي ابو طوق , وقد خصص المؤلف صفحات عديدة من روايته استنطق فيها كل من عاصروا هذا البطل ليبقى خالداً بحجم القسم الذي اقسمــه المـحـــب .

من المهم ان نؤكد ان الرواية كتبت من اجل علي ابو طوق وستكتشف من خلال القراءة انك أمام فدائي وثائر من نوع خـاص اتفـق عليـه الجميـع , فأعطـى للثـورة أكثــر ممــا أخــذ.

ــ انه علي عبد سعيد ابو طوق , فارس من فرسان حركة فتح من مواليد حمص عام 1950م لعائلة فلسطينية وطنية هاجرت إليها من مدينة حيفا , استشـهد في مخيم شاتيلا بتاريخ 27- 1 - 1987...

تلك هي بطاقة التعريف لشخصية البطل في رواية الجرمق والتي وردت في صفحة 223. والحقيقة ان ما لفت انتباهي قبل ان أبدأ في قراءة الرواية هو العنوان , وتساءلت كما يتساءل غيــري مــن القــراء لمــاذا الجــرمـــق ؟

ولأني كنت قبل قراءتي لأي كتاب استشعر دائماً بالمثل القائل : اقرأ المكتوب من العنوان . إلا انني هنا وقفت طويلاً أمام هذا الاسم , فوجدته مبهماً بالنسبة لي , والذاكرة عندي لم تقدني لفهم معنى الجرمق إلا بعد أن قرأت الرواية بالكامل , وعليه استرجعت ما قاله المؤلف في صفحة 58 ...

ـــ أنا حين أتحدث عن وطني ... لا أشبع ولا أمل .

وقد أخذني قلم الكاتب الى العنوان المنشود , فقد قادني في رحلة سياحية الى عمق تاريخ فلسطين , وحمل إلينا بين السطور الكثير من الأحداث ومظاهر التقاليد والعادات , وكان أهم ما ذهب اليه الكاتب هو توكيد الحضارة الفلسطينية وتراثها القديم , ومن تفاصيل الوطن اختص الكاتب حيفا ويافا وتعمق في الحديث عن طبريا وما حول طبريا وهي من أهم وأقدم مدن فلسطين التاريخية , وقد أبدع الكاتب في الوصف فحلقت أنا كقارئ مع النورس الكنعاني الذي رسمه الكاتب فأخذني الى جبـال فلسطيـن الموجـودة فـي الجليـل الأعلـى .

وبالقراءة في صفحة 68 وجدت ان الجرمق جبل حيث يقع شمال غرب مدينة صفد وهو أعلى قمة في فلسطين , وكان هذا أول خيط يقودني اليه الكاتب للوصول الى معنـى العنــوان .

وبالكشف التدريجي لمعنى الجرمق , نقلني الكاتب من المشروع التاريخي والحضاري لفلسطين القديمة الى مشروع الثورة في بيروت , وتوقفت عند صفحة 282 , لأجد بين السطور ان هنـاك كتيبـة ثـوريــة فلسطينيــة اسمهــا الجـرمــق .

وبعد القراءة والتأمل وجدت ان هناك نمط ثقافي فلسطيني لدى الكاتب أفرز لدي رؤية جعلني أفكر بها أكثر وهو الربط في العلاقة ما بين كتيبة الجرمق التابعة لحركة فتح في بيروت وبين جبـل الجــرمــق فــي فلسطيــن .

أعتقد ان الكاتب كان موفقاً في اختيار عنوان الرواية , لأنه حاول أن يربط بين تاريخ الأرض القديم المغتصب مع ثقافة المقاومة المعاصرة , فجاء اختيار اسم الجرمق ليقدم لنا اختصاراً لبيئة تاريخية قديمة كنعانية امتدت لتصل بجذورها الى مخيمات اللجوء في بيروت .

وفي بيروت أيقظ فينا الكاتب ذكريات بطولية قامت بها حركة فتح من خلال كتيبة الجرمق ودورها البطولي في قلعة الشقيف اللبنانية , ولم تك تلك الذكريات مجرد أصداء تاريخية في أحداث الرواية بل هو ربط أيضا ما بين هوية جبل الجرمق في تاريخ الوطن الفلسطيني القديم وهــويــة كتيبـة الجرمـق في تاريخ الثـورة الفلسطيـنيــة المعاصرة وبيــروت .

وعن هوية كتيبة الجرمق فقد تنوعت إسهامات الكاتب في الحديث عنها , وفي أكثر من موضع في الرواية أعطانا نموذجاً لفئة من الشباب الوطني الصادق جمعهم الحس الثوري والانتماء للوطن وقد قاموا بتشكيل السرية الطلابية أو الكتيبة الطلابية التي تحول اسمها الى كتيبة الجرمق , وليس مستغرباً ان تكون ان تكون هذه الكتيبة عنصراً أساسياً في الرواية , فقد كشف الكاتب تفاصيل العلاقة المشتركة ما بين الكتيبة الطلابية - كتيبة الجرمق منذ تأسيسها والدور البطولي الذي لعبه بطل الرواية علي ابو طوق فـي قـلعــة الـشـقـيـــف .

ومن بوابة بيروت أدخلنا الكاتب الى التفاصيل فتحدث عن حرب المخيمات وصمود المخيمات ومتاعب الحياة التي قست عليهم وحرمتهم من كل شيء . ولم يفصل الكاتب واقع المخيمات عن واقع الثورة , فالمصير كان واحد .

لذلك قدم الكاتب قراءة عميقة لتجربة المخيمات في بيروت , والدور البطولي الذي قامت به المقاومة في حماية المخيمات . فالواقع الذي تعايش معه الكاتب وقدمه لنا هو الثورة وبيروت بكل تفاصيلها المؤلمة , بيروت الأسرار والخفايا والصمود ... بيروت الجرح وأنين المقاتل الفلسطيني ... بيروت بداية الوجع ونهـايــة المشـوار والــرحـيــــل . وعندما تحدث الكاتب عن الرحيل من بيروت , فقد استحضر البحر وكتب عنه في صفحة 34 , واعتقد ان البحر كان حاضراً في وجدان الكاتب قبل ان يكتب الرواية لأنه المكان الوحيد الصالح للعودة الى الذكريات , وقد ربط الكاتب البحر بياسر عرفات , لأنه كان يعرف جيدا ان عرفات هو الوحيد الذي عرف معنى البحر وعايشه وعاينه وعانقه , فالبحر عند ياسرعرفات هو حلم العودة الى فلسطين , وهو الرحيل الى المجهـــول . وخيار الرحيل أمام ياسرعرفات هو الموت أو ان يركب السفينة في عرض البحر ويغادر بيروت الى المجهول من اجل ان يحيا ويعيش ليقود الثورة وشعبه الى بر الأمان , وقد عبر الكاتب بإحسـاس رائـع عـن خـوفـه وحبـه لقـائــد الثــورة ياسر عرفات .

ــ عليه أن يحيا لندرك ما البحر , عليه أن يحيا لنبلغ البر .

والحديث عن ياسرعرفات لم يك لينتهي عند الكاتب إلا بالاعتراف بقيمة الرجل وانه اختيار الشعب , فهو الواقع والأسطورة سواءاً بالنسبة للشعب الفلسطيني أو الثورة الفلسطينية وقد عبر الكاتب عن ذلك بالقول : ــ قد اخترنا بحرية كاملة أن يكون حاكمنا ياسرعرفات

ولأن عرفات كان صورة الثورة وعنوانها , فقد عبر الكاتب عن إحساسه بقيمة الرجل :

ـ ليكن هو نحلة الفكرة وخليتها التي تبدع مكانا على أية زهرة ممكنة , لأنه هو الممكن الوحيد للتفاوض مع المستحيل , لأنه هو المكان أينما كان .

وقد امتلأت صفحات الرواية بالحوارات العاطفية تجاه الوطن , وبعد ان تحدث الكاتب عن حيفا ويافا وصفد , رجع الى ذكريات المنفى والغربة والحنين للوطن , فوضع الكاتب وجعه وحيرته أمام القارئ في حوارات عديدة انبعثت منها رائحة الخوف من المجهول , إلا انه كان مصراً ويؤكد على ان الوطن لنا ... وفي صفحة 79 يقول :

ــ وأنا يا صديقي لا أعرف أبداً ملامح الغروب في حيفا , ولم أجلس في ظل سور عكا , أو أتتبع خطوات تركتها حضارات عبرت وبقيت وأخرى اندثرت على شاطئ يافا , ولم أعرف طعم الخشوع في القدس , ولا لون الحصار في غزة ...

وهنا ينهي الكاتب كلامه بالقول :

ـ لكن يا صديقي شيئا واحدا يجب أن أعرفه أن هذه البلاد لنا وأنا أعرف ذلك جيداً .

وفي الرواية حزن موروث حمله قلم الكاتب الى القارئ الفلسطيني, جيلاً بعد جيل منذ ان فقد الفلسطيني أرضه في عام 1948 حتى الخروج من بيروت في عام 1982 , فالحزن عند الفلسطيني له قامة مقدسة وله ملامح قد تميزه عن حزن الآخرين , فحزن الفلسطيني مرتبط بالأسرى والسجون والشهداء ومقابر الشهداء , وفي صفحة 80 انبثقت من الكاتب شكوى ملتهبة وحزن عميق نابع من القلب , تكاد تشبه القذائف التي ألقيت على مخيمات بيروت...

ــ كبرنا وكثرت الطرق المعمدة بدماء الشهداء ,

ـ كبرنا وكبرت مقابر الشهداء ,

ــ يا إلهي على أي حزن تنام المقابر .

في صفحة 81 - 111 رسم الكاتب خريطة للمخيمات بكل أبعادها المأساوية , والمأساة عند الفلسطيني هي شهداء ومخيمات , وقد نقلني الكاتب الى رحلة شقاء وتعب , رحلة بحجم الحب والمنفى , رحلة بحث عن أسرار مدفونة في أزقة وشوارع المخيمات , عن الشهداء ومقابر الشهداء ... رحلة قام بها احد أصدقاء الكاتب المغتربين من مقدونيا الى لبنان , حيث المخيمات ... الرشيدية , تل الزعتر , صبرا وشاتيلا ... هنا مخيمات يذكرها التاريخ دائماً ولن تكون منسية في تاريخ الشعب الفلسطيني ... المشهد هنا شهداء ومقابر ... هنا عتمة الشوارع ولم ينرها إلا صور حملتها أزقة وشوارع مخيم شاتيلا للشهيد علي ابو طوق , وهنا جامع شاتيلا أناره الله بجثامين الشهداء ... هنا يرقد جثمان الشهيد علي ابو طوق (مساحة المسجد تبلغ مائتين وخمسين مترا مربعا مدفون في هذا الجامع سبعمائة وثمانية عشر شهيدا) !!! ...

كان عليك ان تستريح وتبتعد عن المشهد الذي وصفه الكاتب لكي تكفكف دموعك بصمت وتقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء .

ـ رأيت بعيني وجع الحرية فشعرت أن من الظلم أن لا يدفن الشهداء في أوطانهم , لكن وجدت الظلم أكثر حين لم تتسع لهم مقابر المنفى .

في الرواية يتحدث الكاتب عن قيمة الشهيد ويقدم لنا دعوة من بين السطور لزيارة مدافن الشهداء , وأنا سأقف هنا عند صفحة 111 ... وأدعو القارئ ان يكمل رحلة البحث عن الشهيد علي ابو طوق وعن مقابر أخرى ليعلم القارئ الكريم ان هناك مقابر مجهولة فيها أبطال شهـداء يستحقـون منا الزيــارة .

ــ في المشهد تستعيد صور لك استشهد بعضهم , رموز شامخة وقادة بارزون ومناضلون متفانون , فتقرأ في كل واحد منهم حكايــة بطولــة وقصـة عطــاء بــلا حـــدود .

ومن حكاية الشهداء ... انتقل بنا الكاتب الى صفحة 168 - 196 وتحدث فيها عن الفكر الثوري وما قدمه من قصائد وأغاني وأناشيد في خدمة الثورة والجماهير الفلسطينية , وقد تكون القصيدة أو الأغنية في تاريخ الفلسطيني هوية يستطيع المرور بها الى وجدان كل من يتعاطف مع القضية الفلسطينية , وقد أولى الكاتب جزءاً من اهتمامه عن الحديث في أغاني الثورة الفلسطينية وعن وظيفة الأغنية الثورية ومدى تأثيرها على الإنسان الفلسطيني , وتحدث في الرواية عن شعراء وملحنين , واستمع الكاتب الى البعض من هؤلاء الذين عاصروا هذه الفترة وشاركوا في خلق الأغنية الثورية الفلسطينية , ولم ينس الكاتب ان يتحدث عن الأغاني والأهازيج والحكايات الفلسطينية , وهي من عمق التراث الشعبي الفلسطيني , وقد ربط الكاتب بين التراث الشعبي وبين الأغاني التي قدمتها الثورة , ليؤكد ( أصالـة هــذه الثــورة بالانتمــاء لهـويتـهــــا )

ويستطيع القارئ أن يتعرف على هذه الأغاني ويتذكـرها جيـدا , فالكاتب أمتعنا في هذه الصفحات , لأن في كـل أغنيــة قصـة وتـاريــخ .

وما تبقى من الرواية هو وصف كامل لذكريات لا تنسى وهي مرحلة الثورة والنضال في بيروت والمخيمات , وهي فترة تعتبر مادة تاريخية للكاتب حيث اسقط عليها شخصية واقعية وليست من الخيال هو الثائر علي ابو طوق ليكون رمزا معبراً في تاريخ الثورة والشعب الفلسطيني

أما التعبير عن الهموم الاجتماعية فقد عبر عنها الكاتب من خلال تجربته الذاتية في مخيم البقعة وبإمكان القارئ الرجوع الى صفحة 24 .

ومن يتأمل ويقرأ كل ما ورد في الرواية يجد نفسه أمام باحث ومؤرخ وصحفي ومراسل يبحث عن الحقيقة وليس مجرد كاتب رواية فقط ... والباحث الكاتب هنا لم ينفصل عن الواقع , فهموم الفلسطيني منذ البداية هي رحلة عذاب ومعاناة .

فحالة القهر والتشرد التي عاشها الفلسطينيون بفعل النكبة , هي التي شكلت في نفسية الكاتب ملامحه الفكرية والثورية , وهي التي شكلت ثقافته الواسعة , وهي التي شكلت ذاكراته التاريخية , وهي التي جعلته يبحث عن فدائي فلسطيني اسمه علي ... لمــاذا علــي ؟ ... استرجعت ما قاله الكاتب في صفحة 1 ...(هو بطل شاتيلا , بطل حرب المخيمات في لبنان , وقائد العديد من العمليات والدوريات خلف خطوط العدو , وفي داخل الأرض المحتلة ) ...علي ابو طوق هو اللغز في رواية الجرمق وهو الذي سيقودك الى قراءة ما تبقى من سيرته على لسان كل من عرفه وقابلة , وقد التقى الكاتب بالعديد من الوجوه الذين كانوا جميعهم شركاء مع علي ...

رحل علي ابو طوق وفي جعبته الكثير من أسرار الثورة , رحل وهو يدافع عن الجياع والمشردين في المخيمات , رحل وهو يبحث عن وطن - ( من البحث عن الوطن , إلى البحث عن المنفى , إلى البحث عن قبر ) ... وأنا كقارئ سأهمس في أذن علي ... لا يوجد بيننا الآن من يشبهك !!! ...

لقد دفنا البندقية في الذاكرة , وتحولنا اليوم الى الطنطنة والخطابه الفارغة , ولا نعرف ما هي الخاتمة ... إلا انني قرأتها في الرواية ... هي حزن ويأس عبر عنه الكاتب من خلال صرخته الأخير في صفحة 409 - ( من يخبر علياً )

ـ ان الصهاينة يقتلوننا اليوم علانية

ـ ان الحرة تصرخ في بلادنا عارية

ـ ان الدماء في وطني صارت أنهارا جارية

ـ ان الحرة نادت ولم تجد مجيباً , فقالت يا ليتها كانت القاضية !

 

 

نحن أمام عمل روائي وطني فلسطيني للكاتب مهند الأخرس , حمل بين سطوره رموز وأسماء لشهداء دافعوا عن الثورة ومجموعة من القضايا جميعها نوقشت من موقف فكري والرواية تعتبر وثيقة تاريخية ومرجعاً لأي باحـث يمـكـن له الـــرجـوع إليهـــا... فهـي تستحــق القـــراءة

رواية فلسطينية من منشورات دار الشروق للنشر والتوزيع وهي معنونة باسم - الجرمق ... للكاتب مهند الأخرس , والرواية تقع في أكثر من أربعمائة صفحة حازت على الجائزة الأولى في فلسطين - وهي جائزة جبرا ابراهيم جبرا ... وقد سجل الكاتب في روايته الأولى تجربته الوطنية والثورية المكتسبة من المعرفة والقراءة الجيدة والخبرة المتواضعة في واقع الثورة والثوار الذين خاضوا معركـة التحرير من أجـــل فـلسـطـيــن .

والرواية بأحداثها الكبيرة والصغيرة مروية بقلم كاتب أنا أعرفه معرفة جيدة , فهو قارئ شغوف وباحث جيد . أدرك منذ طفولته في مخيم البقعة معنى الثورة والوطن , وجعلته يعتقد كغيره من أطفال المخيم ان الوجود الفلسطيني في مخيمات الشتات هو وجود مؤقت , وان طريق عودته الى فلسطين باتت قريبة , وقد اختزنت لدى ذاكرة الكاتب العديد من المواقف والذكريات في المخيم . صاحبه حس ثوري عميق وعاطفة قوية تجاه من قدموا أرواحهم فداءاً لفلسطين . 

وكان لشخصية الفدائي الفلسطيني علي ابو طوق نصيب في قلب وذاكرة الكاتب , لذلك صارت شخصية ابو طوق الشخصية المحورية في الرواية , وقد اختارها الكاتب عن قناعة وحب لأنه يعرف تماماً ان هذه الشخصية عاشت تجربة العمل الفدائي منذ البداية وكان مثالاً للشجاعة والبطولة والسلوك الثوري النظيف , وهو صورة رائعة للمقاتل الفتحاوي الذي آمن بقضيته وآمـن بالثـورة فعـاش معها الفـرح والحـزن والألــم والنصـر . 

هذا العمل الطويل وعلى ما فيه من صبر وجهد في التدوين تمكن فيه الكاتب من تسليط الضوء على العديد من الأحداث المهمة التي مرت في تاريخ الشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية , واختص الكاتب مرحلة بيروت , فأبدع في وصف هذه المرحلة . وكان علي ابو طوق بطل رواية الجرمق عنواناً لهذه المرحلة ... لماذا علي ابو طوق ؟ 

السؤال بحد ذاته وعلى ما أظن انه اتعب الكاتب فكرياً وذهنياً حيث اعترف بنفسه في الرواية بأنه لم يكن يعرف عن علي إلا ما اختزنته الذاكرة من قصص وحكايات . فوجد الكاتب ضالته في الكتب والمجلات والصحف المختصة بفلسطين , وتتبع أيضاً كل من كتب عن علي ابو طوق , واستمع الى كل من عاصروا هذا الأسطورة , فقالوا عنه الكثير, وتغنوا به حتى صار سيمفــــونيـة ساحـرة تعشقهـا عندمـا يراودك الحنين للثورة ولبيروت . 

ــ وحين تريد الذاكرة أن تتكلم ... كل شيء يبدأ... 

والبداية أو مدخل الرواية كانت في أولى الصفحات , حيث استهلها المؤلف بحوار مع صديق اتبعه قسم باسم علي ابو طوق وبالرغم من استهجان الكاتب للقسم أو اليمين , إلا أنني كقارئ اعتبــرتــه قسمـــاً غيــر مقصـــود .

ولأن الثقة والإعجاب بمن تحب أحياناً تجعلك تحلف بحياته كما تحلف بحياة والدك . فالقسم هنا كبير , والمحبة ليس لها حدود ولكنها تحتاج الى شرعيــة تـستـنــد إلـيـهـــا . والشرعية عند صاحب القسم هو الانتماء الوطني الذي اكتسبه من شخصية علي ابو طوق , فكان علي ابو طوق بالنسبة لصاحب القسم قـدوة ومثــل فــي الأخـلاق والسلــوك الثــوري النـقـــي . 

والقسم هنا هو الذي أعطى الكاتب الحق في البحث والدراسة عن البطل , لتكون محوراً أساسيا في روايته ومدخلاً يقوده أيضاً الى مجموعة من التساؤلات حول العديد من القضايا الوطنية والثورية التي رواها المؤلف من خبرته في العمل الطلابي والتنظيمي ومن الأصدقاء المثقفين ورفاق الدرب وشركاء الفكرة الذين أيقنوا تماماً صعوبة المرحلة السابقة في تاريخ الشعب والثورة الفلسطينية . 

في بيروت خسر الفلسطينيون الكثير , إلا أن الوعي الفكري وثقافة بيروت النضالية بقيت راسخة في أذهان كل فرد عاصر هذه المرحلة . وذكريات بيروت ما زالت محفوظة في أرشيف الذاكرة الفلسطينية , وكل الشخصيات التي جاء بها الكاتب في روايته كانت من الواقع وليس من وحي الخيال , وبالتالي هي تحمل في ذاكراتها الكثير من الصدق والأمانة حول علي ابو طوق , وقد خصص المؤلف صفحات عديدة من روايته استنطق فيها كل من عاصروا هذا البطل ليبقى خالداً بحجم القسم الذي اقسمــه المـحـــب . 

من المهم ان نؤكد ان الرواية كتبت من اجل علي ابو طوق وستكتشف من خلال القراءة انك أمام فدائي وثائر من نوع خـاص اتفـق عليـه الجميـع , فأعطـى للثـورة أكثــر ممــا أخــذ. 

ــ انه علي عبد سعيد ابو طوق , فارس من فرسان حركة فتح من مواليد حمص عام 1950م لعائلة فلسطينية وطنية هاجرت إليها من مدينة حيفا , استشـهد في مخيم شاتيلا بتاريخ 27- 1 - 1987... 
تلك هي بطاقة التعريف لشخصية البطل في رواية الجرمق والتي وردت في صفحة 223. والحقيقة ان ما لفت انتباهي قبل ان أبدأ في قراءة الرواية هو العنوان , وتساءلت كما يتساءل غيــري مــن القــراء لمــاذا الجــرمـــق ؟
ولأني كنت قبل قراءتي لأي كتاب استشعر دائماً بالمثل القائل : اقرأ المكتوب من العنوان . إلا انني هنا وقفت طويلاً أمام هذا الاسم , فوجدته مبهماً بالنسبة لي , والذاكرة عندي لم تقدني لفهم معنى الجرمق إلا بعد أن قرأت الرواية بالكامل , وعليه استرجعت ما قاله المؤلف في صفحة 58 ... 

ـــ أنا حين أتحدث عن وطني ... لا أشبع ولا أمل . 

وقد أخذني قلم الكاتب الى العنوان المنشود , فقد قادني في رحلة سياحية الى عمق تاريخ فلسطين , وحمل إلينا بين السطور الكثير من الأحداث ومظاهر التقاليد والعادات , وكان أهم ما ذهب اليه الكاتب هو توكيد الحضارة الفلسطينية وتراثها القديم , ومن تفاصيل الوطن اختص الكاتب حيفا ويافا وتعمق في الحديث عن طبريا وما حول طبريا وهي من أهم وأقدم مدن فلسطين التاريخية , وقد أبدع الكاتب في الوصف فحلقت أنا كقارئ مع النورس الكنعاني الذي رسمه الكاتب فأخذني الى جبـال فلسطيـن الموجـودة فـي الجليـل الأعلـى .

وبالقراءة في صفحة 68 وجدت ان الجرمق جبل حيث يقع شمال غرب مدينة صفد وهو أعلى قمة في فلسطين , وكان هذا أول خيط يقودني اليه الكاتب للوصول الى معنـى العنــوان . 

وبالكشف التدريجي لمعنى الجرمق , نقلني الكاتب من المشروع التاريخي والحضاري لفلسطين القديمة الى مشروع الثورة في بيروت , وتوقفت عند صفحة 282 , لأجد بين السطور ان هنـاك كتيبـة ثـوريــة فلسطينيــة اسمهــا الجـرمــق . 
وبعد القراءة والتأمل وجدت ان هناك نمط ثقافي فلسطيني لدى الكاتب أفرز لدي رؤية جعلني أفكر بها أكثر وهو الربط في العلاقة ما بين كتيبة الجرمق التابعة لحركة فتح في بيروت وبين جبـل الجــرمــق فــي فلسطيــن . 
أعتقد ان الكاتب كان موفقاً في اختيار عنوان الرواية , لأنه حاول أن يربط بين تاريخ الأرض القديم المغتصب مع ثقافة المقاومة المعاصرة , فجاء اختيار اسم الجرمق ليقدم لنا اختصاراً لبيئة تاريخية قديمة كنعانية امتدت لتصل بجذورها الى مخيمات اللجوء في بيروت . 

وفي بيروت أيقظ فينا الكاتب ذكريات بطولية قامت بها حركة فتح من خلال كتيبة الجرمق ودورها البطولي في قلعة الشقيف اللبنانية , ولم تك تلك الذكريات مجرد أصداء تاريخية في أحداث الرواية بل هو ربط أيضا ما بين هوية جبل الجرمق في تاريخ الوطن الفلسطيني القديم وهــويــة كتيبـة الجرمـق في تاريخ الثـورة الفلسطيـنيــة المعاصرة وبيــروت . 

وعن هوية كتيبة الجرمق فقد تنوعت إسهامات الكاتب في الحديث عنها , وفي أكثر من موضع في الرواية أعطانا نموذجاً لفئة من الشباب الوطني الصادق جمعهم الحس الثوري والانتماء للوطن وقد قاموا بتشكيل السرية الطلابية أو الكتيبة الطلابية التي تحول اسمها الى كتيبة الجرمق , وليس مستغرباً ان تكون ان تكون هذه الكتيبة عنصراً أساسياً في الرواية , فقد كشف الكاتب تفاصيل العلاقة المشتركة ما بين الكتيبة الطلابية - كتيبة الجرمق منذ تأسيسها والدور البطولي الذي لعبه بطل الرواية علي ابو طوق فـي قـلعــة الـشـقـيـــف .

ومن بوابة بيروت أدخلنا الكاتب الى التفاصيل فتحدث عن حرب المخيمات وصمود المخيمات ومتاعب الحياة التي قست عليهم وحرمتهم من كل شيء . ولم يفصل الكاتب واقع المخيمات عن واقع الثورة , فالمصير كان واحد . 
لذلك قدم الكاتب قراءة عميقة لتجربة المخيمات في بيروت , والدور البطولي الذي قامت به المقاومة في حماية المخيمات . فالواقع الذي تعايش معه الكاتب وقدمه لنا هو الثورة وبيروت بكل تفاصيلها المؤلمة , بيروت الأسرار والخفايا والصمود ... بيروت الجرح وأنين المقاتل الفلسطيني ... بيروت بداية الوجع ونهـايــة المشـوار والــرحـيــــل . وعندما تحدث الكاتب عن الرحيل من بيروت , فقد استحضر البحر وكتب عنه في صفحة 34 , واعتقد ان البحر كان حاضراً في وجدان الكاتب قبل ان يكتب الرواية لأنه المكان الوحيد الصالح للعودة الى الذكريات , وقد ربط الكاتب البحر بياسر عرفات , لأنه كان يعرف جيدا ان عرفات هو الوحيد الذي عرف معنى البحر وعايشه وعاينه وعانقه , فالبحر عند ياسرعرفات هو حلم العودة الى فلسطين , وهو الرحيل الى المجهـــول . وخيار الرحيل أمام ياسرعرفات هو الموت أو ان يركب السفينة في عرض البحر ويغادر بيروت الى المجهول من اجل ان يحيا ويعيش ليقود الثورة وشعبه الى بر الأمان , وقد عبر الكاتب بإحسـاس رائـع عـن خـوفـه وحبـه لقـائــد الثــورة ياسر عرفات . 
ــ عليه أن يحيا لندرك ما البحر , عليه أن يحيا لنبلغ البر .
والحديث عن ياسرعرفات لم يك لينتهي عند الكاتب إلا بالاعتراف بقيمة الرجل وانه اختيار الشعب , فهو الواقع والأسطورة سواءاً بالنسبة للشعب الفلسطيني أو الثورة الفلسطينية وقد عبر الكاتب عن ذلك بالقول : ــ قد اخترنا بحرية كاملة أن يكون حاكمنا ياسرعرفات . 

ولأن عرفات كان صورة الثورة وعنوانها , فقد عبر الكاتب عن إحساسه بقيمة الرجل : 
ـ ليكن هو نحلة الفكرة وخليتها التي تبدع مكانا على أية زهرة ممكنة , لأنه هو الممكن الوحيد للتفاوض مع المستحيل , لأنه هو المكان أينما كان .
وقد امتلأت صفحات الرواية بالحوارات العاطفية تجاه الوطن , وبعد ان تحدث الكاتب عن حيفا ويافا وصفد , رجع الى ذكريات المنفى والغربة والحنين للوطن , فوضع الكاتب وجعه وحيرته أمام القارئ في حوارات عديدة انبعثت منها رائحة الخوف من المجهول , إلا انه كان مصراً ويؤكد على ان الوطن لنا ... وفي صفحة 79 يقول : 

ــ وأنا يا صديقي لا أعرف أبداً ملامح الغروب في حيفا , ولم أجلس في ظل سور عكا , أو أتتبع خطوات تركتها حضارات عبرت وبقيت وأخرى اندثرت على شاطئ يافا , ولم أعرف طعم الخشوع في القدس , ولا لون الحصار في غزة ... 
وهنا ينهي الكاتب كلامه بالقول : 

ـ لكن يا صديقي شيئا واحدا يجب أن أعرفه أن هذه البلاد لنا وأنا أعرف ذلك جيداً . 
وفي الرواية حزن موروث حمله قلم الكاتب الى القارئ الفلسطيني, جيلاً بعد جيل منذ ان فقد الفلسطيني أرضه في عام 1948 حتى الخروج من بيروت في عام 1982 , فالحزن عند الفلسطيني له قامة مقدسة وله ملامح قد تميزه عن حزن الآخرين , فحزن الفلسطيني مرتبط بالأسرى والسجون والشهداء ومقابر الشهداء , وفي صفحة 80 انبثقت من الكاتب شكوى ملتهبة وحزن عميق نابع من القلب , تكاد تشبه القذائف التي ألقيت على مخيمات بيروت... 

ــ كبرنا وكثرت الطرق المعمدة بدماء الشهداء , 

ـ كبرنا وكبرت مقابر الشهداء , 

ــ يا إلهي على أي حزن تنام المقابر . 

في صفحة 81 - 111 رسم الكاتب خريطة للمخيمات بكل أبعادها المأساوية , والمأساة عند الفلسطيني هي شهداء ومخيمات , وقد نقلني الكاتب الى رحلة شقاء وتعب , رحلة بحجم الحب والمنفى , رحلة بحث عن أسرار مدفونة في أزقة وشوارع المخيمات , عن الشهداء ومقابر الشهداء ... رحلة قام بها احد أصدقاء الكاتب المغتربين من مقدونيا الى لبنان , حيث المخيمات ... الرشيدية , تل الزعتر , صبرا وشاتيلا ... هنا مخيمات يذكرها التاريخ دائماً ولن تكون منسية في تاريخ الشعب الفلسطيني ... المشهد هنا شهداء ومقابر ... هنا عتمة الشوارع ولم ينرها إلا صور حملتها أزقة وشوارع مخيم شاتيلا للشهيد علي ابو طوق , وهنا جامع شاتيلا أناره الله بجثامين الشهداء ... هنا يرقد جثمان الشهيد علي ابو طوق (مساحة المسجد تبلغ مائتين وخمسين مترا مربعا مدفون في هذا الجامع سبعمائة وثمانية عشر شهيدا) !!! ... 
كان عليك ان تستريح وتبتعد عن المشهد الذي وصفه الكاتب لكي تكفكف دموعك بصمت وتقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء . 

ـ رأيت بعيني وجع الحرية فشعرت أن من الظلم أن لا يدفن الشهداء في أوطانهم , لكن وجدت الظلم أكثر حين لم تتسع لهم مقابر المنفى . 

في الرواية يتحدث الكاتب عن قيمة الشهيد ويقدم لنا دعوة من بين السطور لزيارة مدافن الشهداء , وأنا سأقف هنا عند صفحة 111 ... وأدعو القارئ ان يكمل رحلة البحث عن الشهيد علي ابو طوق وعن مقابر أخرى ليعلم القارئ الكريم ان هناك مقابر مجهولة فيها أبطال شهـداء يستحقـون منا الزيــارة . 

ــ في المشهد تستعيد صور لك استشهد بعضهم , رموز شامخة وقادة بارزون ومناضلون متفانون , فتقرأ في كل واحد منهم حكايــة بطولــة وقصـة عطــاء بــلا حـــدود . 
ومن حكاية الشهداء ... انتقل بنا الكاتب الى صفحة 168 - 196 وتحدث فيها عن الفكر الثوري وما قدمه من قصائد وأغاني وأناشيد في خدمة الثورة والجماهير الفلسطينية , وقد تكون القصيدة أو الأغنية في تاريخ الفلسطيني هوية يستطيع المرور بها الى وجدان كل من يتعاطف مع القضية الفلسطينية , وقد أولى الكاتب جزءاً من اهتمامه عن الحديث في أغاني الثورة الفلسطينية وعن وظيفة الأغنية الثورية ومدى تأثيرها على الإنسان الفلسطيني , وتحدث في الرواية عن شعراء وملحنين , واستمع الكاتب الى البعض من هؤلاء الذين عاصروا هذه الفترة وشاركوا في خلق الأغنية الثورية الفلسطينية , ولم ينس الكاتب ان يتحدث عن الأغاني والأهازيج والحكايات الفلسطينية , وهي من عمق التراث الشعبي الفلسطيني , وقد ربط الكاتب بين التراث الشعبي وبين الأغاني التي قدمتها الثورة , ليؤكد ( أصالـة هــذه الثــورة بالانتمــاء لهـويتـهــــا ) 
ويستطيع القارئ أن يتعرف على هذه الأغاني ويتذكـرها جيـدا , فالكاتب أمتعنا في هذه الصفحات , لأن في كـل أغنيــة قصـة وتـاريــخ . 

وما تبقى من الرواية هو وصف كامل لذكريات لا تنسى وهي مرحلة الثورة والنضال في بيروت والمخيمات , وهي فترة تعتبر مادة تاريخية للكاتب حيث اسقط عليها شخصية واقعية وليست من الخيال هو الثائر علي ابو طوق ليكون رمزا معبراً في تاريخ الثورة والشعب الفلسطيني 
أما التعبير عن الهموم الاجتماعية فقد عبر عنها الكاتب من خلال تجربته الذاتية في مخيم البقعة وبإمكان القارئ الرجوع الى صفحة 24 . 
ومن يتأمل ويقرأ كل ما ورد في الرواية يجد نفسه أمام باحث ومؤرخ وصحفي ومراسل يبحث عن الحقيقة وليس مجرد كاتب رواية فقط ... والباحث الكاتب هنا لم ينفصل عن الواقع , فهموم الفلسطيني منذ البداية هي رحلة عذاب ومعاناة .
فحالة القهر والتشرد التي عاشها الفلسطينيون بفعل النكبة , هي التي شكلت في نفسية الكاتب ملامحه الفكرية والثورية , وهي التي شكلت ثقافته الواسعة , وهي التي شكلت ذاكراته التاريخية , وهي التي جعلته يبحث عن فدائي فلسطيني اسمه علي ... لمــاذا علــي ؟ ... استرجعت ما قاله الكاتب في صفحة 1 ...(هو بطل شاتيلا , بطل حرب المخيمات في لبنان , وقائد العديد من العمليات والدوريات خلف خطوط العدو , وفي داخل الأرض المحتلة ) ...علي ابو طوق هو اللغز في رواية الجرمق وهو الذي سيقودك الى قراءة ما تبقى من سيرته على لسان كل من عرفه وقابلة , وقد التقى الكاتب بالعديد من الوجوه الذين كانوا جميعهم شركاء مع علي ... 
رحل علي ابو طوق وفي جعبته الكثير من أسرار الثورة , رحل وهو يدافع عن الجياع والمشردين في المخيمات , رحل وهو يبحث عن وطن - ( من البحث عن الوطن , إلى البحث عن المنفى , إلى البحث عن قبر ) ... وأنا كقارئ سأهمس في أذن علي ... لا يوجد بيننا الآن من يشبهك !!! ... 
لقد دفنا البندقية في الذاكرة , وتحولنا اليوم الى الطنطنة والخطابه الفارغة , ولا نعرف ما هي الخاتمة ... إلا انني قرأتها في الرواية ... هي حزن ويأس عبر عنه الكاتب من خلال صرخته الأخير في صفحة 409 - ( من يخبر علياً )
ـ ان الصهاينة يقتلوننا اليوم علانية 
ـ ان الحرة تصرخ في بلادنا عارية 
ـ ان الدماء في وطني صارت أنهارا جارية
ـ ان الحرة نادت ولم تجد مجيباً , فقالت يا ليتها كانت القاضية ! 

نحن أمام عمل روائي وطني فلسطيني للكاتب مهند الأخرس , حمل بين سطوره رموز وأسماء لشهداء دافعوا عن الثورة ومجموعة من القضايا جميعها نوقشت من موقف فكري والرواية تعتبر وثيقة تاريخية ومرجعاً لأي باحـث يمـكـن له الـــرجـوع إليهـــا... فهـي تستحــق القـــراءة

 

اخر الأخبار