الرأسمالية تحفر قبرها بيدها " كارل ماركس" : من أزمة2008 المالية الكبرى إلى الإجراءات الحمائية الأمريكية

تابعنا على:   16:24 2018-07-11

عليان عليان

مر النظام الرأسمالي خلال ثماني سنوات بتطورين بارزين يعكسان أزمته التي لم تعد تنفع معها المسكنات ، التطور الأول ممثلاً بأزمة 2008 المالية والاقتصادية الكبرى التي لا تزال تداعياتها السلبية والخطيرة تعصف باقتصاديات الدول الرأسمالية وباقتصاديات دول العالم الثالث ، والتطور الأخير ممثلاً بالإجراءات الحمائية التي أقدمت عليها الإدارة الأمريكية مؤخراً..
قرارات الرئيس الأميركي الحمائية:
فالإجراءات التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على واردات الألمنيوم والصلب من الاتحاد الأوروبي والصين وكندا هو مؤشر من مؤشرات المرحلة الممتدة لحفر قبر بل قبور الرأسمالية.
فهو بهذه الإجراءات وتحت شعار " الولايات المتحدة أولاَ " سدد ضربة قاصمة للنظام التجاري الرأسمالي المعمول به في إطار منظمة التجارة العالمية ، وأدخل دول النظام الرأسمالية في حرب تجارية طاحنة مع بعضها البعض ، ناهيك أنه سدد ضربة للشركات متعدية الجنسية الأمريكية التي تعمل في الصين وكندا ودول الاتحاد الأوروبي ،إذ أن جزءاً كبيراً من الرسوم المفروضة على السلع المستوردة تخص الشركات الأميركية العاملة في تلك الدول.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي سبق وأن كشف عن توجهه في 15 حزيران 2018 بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على سلع صينية مستوردة بقيمة 50 بليون دولار تتضمن تكنولوجيا صناعية غاية في الأهمية ، معاقبة للصين التي يتهمها- حب زعمه - بسرقة الملكية الفكرية الأميركية، باشر بتنفيذ إعلانه بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على ما قيمته 34 بليون دولار من 818 صنفاً من البضائع الصينية، من بينها سيارات وقطع تدخل في صناعة الطائرات أو الأقراص الصلبة لأجهزة الكمبيوتر...وتشمل الرسوم ما قيمته 50 بليون دولار من الواردات الصينية.
من جانبها لم تتأخر الحكومة الصينية ،في ردها على الإجراءات الأمريكية إذ أعلنت أن رسوماً جمركية صينية على واردات من الولايات المتحدة بقيمة 34 بليون دولار دخلت حيز التنفيذ، مشيرة إلى أن الرسوم التي فرضتها نسبتها 25 في المائة أيضاً...ويبقى القلق قائماً من أن ينفذ ترامب تحذيرات أطلقها سابقاً بفرض رسوم على سلع صينية بقيمة 500 بليون دولار، أي ما يعادل تقريباً إجمالي واردات الولايات المتحدة من الصين عام 2017.
وسبق أن انقلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في التاسع من حزيران 2018على حلفائه الأوروبيين وكندا واليابان ، وهددهم بفرض رسوم جمركية كبيرة عليهم، بعد قمة لمجموعة السبع في مالبي في مقاطعة كيبيك الكندية، انتهت بفشل حين سحب توقيع إدارته على وثيقة أل 28 نقطة، على الرغم من تسوية تم التوصل إليها بشأن فرض الرسوم الجمركية بعد جهود شاقة حول القضايا التجارية.
الإجراءات الأمريكية سالفة الذكر وتداعياتها في حال عدم التراجع عنها ، تدق مسماراً غليظاً في نعش النظام التجاري الرأسمالي العالمي الذي انبثق غداة الحرب العالمية الثانية عبر اتفاقية " الغات " 1947 " التي تحولت في مراكش عام 1995إلى منظمة للتجارة العالمية عام ،بعد مفاوضات أوراغواي المضنية التي استغرقت ثماني سنوات ..هذا ( أولاً ) و( وثانياً) أنها تشكل ضربة للشركات متعدية الجنسية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن منظمة التجارة العالمية هي بمثابة البلدوزر الذي يمهد الطرق أمام هذه الشركات لاختراق دول العالم وخاصةً دول العالم الثالث ( وثالثا) أنها تضع علامة استفهام كبيرة حول مستقبل العولمة والنهج الرأسمالي النيوليبرالي.
اللافت للنظر أن بعض دول العالم الثالث التي ذاقت الويلات جراء قوانين منظمة التجارة العالمية ، التي تحرمها من أية إمكانية لمنافسة الواردات من دول الشمال ، هذه الدول تتباكى على الخطر المحدق بالنظام التجاري العالمي ،وبمنظمة التجارة العالمية ، متجاهلةً حقيقة أن هذه المنظمة هي أداة من أدوات الاستعمار الجديد وإدامة التبعية ، وأن وظيفتها أيضاً القيام بدور " البلدوزر " لشق الطريق أمام الشركات متعدية الجنسية.
وبهذا الصدد نذكر بما أشار إليه د. سمير أمين " في أن الهدف المركزي والأساسي لإنشاء منظمة التجارة العالمية، Iهو إخضاع العالم للقوى النيوليبرالية المعولمة ، وربما يتطور مجلس إدارة هذه المنظمة مستقبلاً ليحل محل الأمم المتحدة ، ولا يمكن أن يدار هذا النظام العالمي دون تدخل عسكري وهو ما يحدث عبر الذراع العسكري للمنظمة (حلف الناتو) وما حدث في الخليج ويوغسلافيا وغيرهما ، يؤكد هذه الحقيقة".
الحرب التجارية التي أعلنها ترامب تعكس أزمة الرأسمالية في الولايات المتحدة وفي علاقة الولايات المتحدة مع بقية دوال الشمال والصين ، وهذه الأزمة تضاف إلى مسلسل الأزمات التي تعصف بالرأسمالية وآخرها " أزمة 2008"- الأزمة المالية والاقتصادية- التي عصفت بالولايات المتحدة أولاً وبالعالم أجمع ثانياً، والتي لم يتعاف العالم منها بعد حتى اللحظة رغم استخدام دول النظام الرأسمالي العديد من المسكنات والإجراءات وأبرزها لجوئها إلى إجراءات التأميم لبعض البنوك لخدمة رأس المال.
أزمة 2008 المالية والاقتصادية الكبرى:
فالأزمة المالية التي بدأت مع انهيار سوق المساكن والعقارات ومن ثم البورصات والبنوك الكبرى ، وعلى رأسها بنك " ليمان برذرز " دفعت اقتصاد الولايات المتحدة إلى الركود ، الذي انتقل إلى العديد من الاقتصاديات الكبرى في العالم.
وحجم الأموال التي فقدتها الأسواق الغربية، كانت من الضخامة بحيث أذهلت وأربكت عقول الاقتصاديين البرجوازيين في مجال تدبر الحلول والمسكنات.

أزمة 2008 التي ارتبطت شرارتها بقضية الرهن العقاري وانهيار سوق المساكن والعقارات ومن ثم البورصات والبنوك الكبرى ، وعلى رأسها بنك " ليمان برذر أدت إلى إفلاس العديد من المؤسسات المالية الكبرى في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، و دفعت اقتصاد الولايات المتحدة إلى الركود ، الذي انتقل إلى العديد من الاقتصاديات الكبرى في العالم.
وحجم الأموال التي فقدتها الأسواق الغربية، كانت من الضخامة بحيث أذهلت وأربكت عقول الاقتصاديين البرجوازيين في مجال تدبر الحلول والمسكنات، ما دفع الإدارات الحاكمة في تلك البلدان إلى اللجوء لإجراءات التأميم لخدمة أصحاب رؤوس الأموال .
وهي بهذه الإجراءات بدأت بالتخلي تدريجياً عن النهج الاقتصادي الرأسمالي النيوليبرالي ، معلنةً فشل نظرية "فوكو ياما" -أحد أبرز منظري النيوليبرالية- التي اعتبر الرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية التاريخ ، وذهب بعض منظري الرأسمالية في حينه إلى الحديث عن فشل الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية ، وليس فشل النظام الرأسمالي عامةً، لكنهم اعترفوا بطول أمد الأزمة وبصعوبة التعافي منها .
وبهذا الصدد نشير إلى ما قاله الخبير الاقتصادي الألمان أولريش شيفر "" في "أن الأزمة التي عصفت بالنظام الرأسمالي أخيراً ستترك تداعيات طويلة المدى ، قد تمتد إلى خمسة أو عشرة أعوام ، وقد تدوم خمسة عشر أو عشرين عاما ، وأنها ستترك آثاراً عميقةً الغور في المجتمع ، وستغير العديد من مناحي الحياة".
لكن مشكلة شيفر أنه يرى أن حل الأزمة يكمن في الرأسمالية نفسها حيث يقول : "وستواصل الرأسمالية مسيرتها كأنها إنسان أصيب بحادث مروع وهو في غمرة السكر وفقد وعيه منذ أسابيع كثيرة ، وسيعود إلى وعيه ثانيةً في يوم من الأيام بلا أدنى شك ، وقد يواصل هذا الإنسان تعاطي المسكرات ثانيةً، وقد يكف عنها ويغير أسلوب حياته تغييراً جذرياً" . ( انظر :-أولريش شيفر، انهيار الرأسمالية، ترجمة عدنان عباس علي،عالم المعرفة ،عدد 371 ،يناير 2010 ،ص 216)
ويضيف شيفر "وأنه وبهذا المعنى ، قد تعيش البلدان الرأسمالية التي عصف بها الانهيار الكبير في خريف 2008 حقبة نشوة جديدة وجشع مهلك ثانية ، قد تعيش ثانيةً حقبةً يسود فيها الاعتقاد أن اقتصاد السوق ليس بحاجة إلى تغيير ذي بال ، عندئذ سيخدع الجميع أنفسهم وسيعتقدون أن في الإمكان إبطا مفعول قوانين تقلب الاقتصاد بين المد والجزر وبين الرخاء والكساد ، وبهذا النحو قد تنشأ الفقاعة المقبلة".
ويتجاهل منظرو الرأسمالية حقيقة أن ما يعيشه العالم اليوم، دليل على أنّ أزمة النظام الرأسمالي هي أزمة بنيويّة مرتبطة بسياسات النظام الرأسمالي وتطوّره التّاريخي ، ومرتبطة أيضاً بالصراع بين دول المركز الإمبريالي خاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، والانقلاب على الحمائية التجارية لصالح دولة المركز الإمبريالي الرئيسية بعد إجراءات ترامب الأخيرة.
فالتطور التاريخي للنظام الرأسمالي، وصل إلى مرحلة التمركز الأضخم للرأسمال المالي بيد فئات قليلة، سمّاها لينين بالطغمة الماليّة، التي تمسك بين أيديها بالقرار الاقتصادي العالمي، عبر توظيف المؤسسات الماليّة العالميّة (صندوق النقد الدولي البنك العالمي والمنظمة العالميّة للتجارة) وتتحكم بالقرار السياسي والاجتماعي عبر توظيف الدولة البورجوازيّة ، وتسيطر أيضا على البنوك والبورصات التي بنيت على قياسها لخدمة مصالحها (انظر :د . عبد الله بن سعد ، على هامش الأزمة المالية العالمية – وجهة نظر اشتراكية حول أزمة الرأسمالية 1/ 6، جريدة الشعب التونسية ، 7 ديسمبر2013).
وأخيراً ما يجب الإشارة إليه هنا ، بأن التوهم بإلقاء مسببات الأزمة على هذا القطاع أو ذاك ، لا يتواءم مع منطق الأشياء، فالأزمة كامنة تاريخياً في صلب النظام الرأسمالي ، ومنذ تسجيل أول أزمة عام 1804 ، وهذا النظام لا يزال عاجزاً عن خلق منظومة متكاملة لردع الأزمات، وهي تتمترس وراء هذا القطاع أو هذه الظاهرة، كونها المكان الأضعف الذي من خلاله يمكنها الولوج إلى مجمل الاقتصاد الرأسمالي، إلا أن هذه القطاعات تظل مضيفات وسطية للأزمة، ولهذا نلحظ أن أزمة 1929 ظهرت ابتداءً من سوق الأوراق المالية ، وأزمة سبتمبر- أيلول 2008 ظهرت هي الأخرى في قطاع العقارات.
وتذهب أغلب التحليلات إلى قشور الأزمة وليس إلى جوهرها، فالأزمة تظل تطال الاقتصاد الرأسمالي باستمرار ومن دون انقطاع ،وقد تقصر مدتها أو تنتقل من ما بين هذا المفصل الاقتصادي أو ذاك ، تتم معالجتها تارةً بالوسائل المالية وتارةً بالنقدية ، وتارةً تتدخل الدولة بقوة، وتارةً تنسحب .
لكن الثابت في كل ذلك أن هذا الاقتصاد بآليات العرض والطلب( ميكانزمات السوق) وبريادية القطاع الخاص ، قد فشل عدة مرات في ضبط إيقاع الاقتصاديات المنتمية لهذا النظام، وبالتالي يتبدى العجز عن المعالجة من دون استدعاء الدولة بقدرتها ، كونها السوق الأعظم – على حد تعبير ابن خلدون- في تحمل فشل وعنف السوق والغلو في الاعتماد على قرارات الأفراد والمؤسسات الخاصة ، وهمجية رأس المال الاحتكاري المعولم في استجلاب الأرباح، حتى وإن تم ذلك بوجه غير إنساني .

لقد أجمع منظرو الاقتصاد في العام الرأسمالي على أن هذا النظام قد جبل على خلق الأزمات، بل يذهب بعضهم للقول أن هذا النظام حامل لأزمات مثلما تحمل السحب المطر، وفيه سنوات عواصف شديدة ، إلا أنها تختلف في البدايات والحدوث، فقد تبدأ الأزمة في هذا القطاع أو ذاك، مثلما هو جسد أي دولة، فهنالك مناطق رخوة يمكن أن تكون هي مكمن الخطر ، كونها لم تكن قد تحسبت لما يمكن أن يحدث عندما تضعف آليات الضبط الاقتصادي ، التي يعتمدها كل نظام وبالتالي كل دولة (انظر.د .عبد علي كاظم المعموري- أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة النهرين ، الطوفان القادم- توالد الأزمات في النظام الرأسمالي، دار الحامد للنشر والتوزيع ، عمان ، ط1 ، 2012 ، ص14)

اخر الأخبار