فليتسيا لانجر الشيوعية الانسانة

تابعنا على:   00:09 2018-06-23

جميل السلحوت

نقلت أنباء هذا اليوم 22 حزيران-يونيو- 2018 وفاة المحامية اليهودية فليتسيا لانجر عن عمر يناهز الثمانية وثمانين عاما، ومن شاهد صفحات التّواصل الاجتماعي هذا اليوم، وربّما في الأيّام القادمة سيشاهد دون عناء فجيعة المئات من المناضلين الفلسطينيين بوفاة المحامية لانجر التي دافعت عنهم باخلاص أثناء اعتقالهم من قبل المحتلين الاسرائيليين.

وقد ذاع صيت المحامية الشيوعيّة فليتسيا لانجر منذ احتلال اسرائيل للأراضي العربيّة في حرب حزيران 1967 العدوانيّة، وانخراط آلاف الفلسطينيين في مقاومة هذا الاحتلال، ودفاع المحامية لانجر عمّن وقعوا في الأسر.

وكانت صحافة القائمة الشيوعيّة الجديدة"راكح" "الإتحاد، الجديد والغد" تنشر أخبار المعتقلين، وما يجري في المحاكم ودفاع المحامين الشّيوعيّين تحديدا المشرّف عن المعتقلين الفلسطينيّين والعرب، وفي مقدّمة هؤلاء المحامية فليتسيا لانجر.

والمحامية لانجر كانت في دفاعها عن موكلّيها تؤكد على أنّهم أسرى حرب، وأنّ من حقهم مقاومة الاحتلال، وأنّ من تجب محاكمتهم هم قادة الاحتلال. ومن أشهر القضايا التي دافعت عنها لانجر في بدايات الاحتلال هي قضيّة المرحوم نبيل القبلاني وهو من أوائل المبعدين إلى الأردنّ، وما لبث أن عاد على رأس دوريّة مسلّحة، ووقع في الأسر في معركة غير متكافئة في وادي عربة، وقد لقيت محاكمته صدى اعلاميا واسعا، ومن تلك الحادثة التصق اسم المحامية لانجر بذاكرتي.

عرفت المحامية لانجر عندما اعتقلت في شهر آذار-مارس- 1969، وكان الطّقس ماطرا، وبعد عدّة أيام من اعتقالي قال لي أحد المحققين في معتقل "المسكوبية في القدس مهدّدا بأنّهم "سيتسامحون" معي إذا أوكلت محاميا عربيّا –ذكر اسمه لي- ليدافع عني، وإنّني سأندم إذا أوكلت المحامية الشيوعيّة فليتسيا لانجر!" وفي هذه الأثناء خرج المحقق ودخل محام عربيّ مسخ، وبعد أن ذكر اسمه لي مدّ لي ورقة لأوقعّ له على وكالة ليدافع عني!  فأجبته بأنّه لا يوجد عندي قضيّة تستحق توكيل محام! ورفضت التوقيع له. وعاد المحقق يهدّدني.

بعد حوالي نصف ساعة من تلك الحادثة دخلت امرأة حسناء ترتدي بدلة زرقاء، فحسبتها شرطيّة، وقالت لي بأنّها المحامية فليتسيا لانجر، وطلبت منّي أن أوقّع لها على وكالة، فقلت لها: وما يدريني أنّك فليتسيا لانجر؟ وذكرت لها تهديدات المحقق، فأخرجت بطاقة هويّتها وهي تقول باسمة: هذه هويّتي تأكّد منها.

وعندما عُرضت على قاضي الصلح لتمديد توقيفي،  وكانت لانجر قد شاهدت بعض آثار التّعذيب على جسدي، طلبت من القاضي أن ينظر إلى وحشيّة التّعذيب، وطلبت منّي أن أخلع قميصي، وعندما شاهدت الجزء العلوي من جسدي بكت بمرارة وهي تحتضنني بأمومة بائنة، وتصرخ بالقاضي وبالمدّعي العام.

وقد تمّ توقيفي اداريّا لمدة ثلاثة عشر شهرا قضيتها في سجن الدّامون على قمة جبل الكرمل الذي ترقد مدينة حيفا في حضنه الشّرقيّ، زارتني فيه المحامية لانجر والمحامي علي رافع الذي كان يتدرّب في مكتبها عدّة مرّات، كما زارنا طيّب الذّكر المحامي حنّا نقّارة.

وبعد أن تحرّرت من الاعتقال في نيسان-ابريل- 1970، خرجت من المعتقل بتقرّحات في القولون، وانزلاق غضروفيّ في الرقبة وأسفل الظهر، وتوجّهت لمستشفى المقاصد في  القدس، والذي كان حديث العهد، فأخطأ الأطباء تشخيص تقرّحات القولون، وظنّوها أوراما سرطانيّة، فعالجوني بالكيماوي الذي أسقط شعري وبشرة جلدي، ونقص وزني من 82 الى 49 كيلوجرام في ثلاثة وثلاثين يوما، وشارفت على الهلاك، وفي اليوم الثالث والثلاثين علمت المحامية لانجر بوجودي في المستشفى، فجاءت تزورني هي ومدير مكتبها يونا سلمان، والشّابّ الفلسطيني الياس نصرالله، وطالب طبّ يهوديّ لا أذكر اسمه، ولمّا رأت سوء حالتي جنّ جنونها، وأصرّت هي ومرافقوها على ضرورة نقلي إلى مستشفى هداسا، وهناك تمّ التّشخيص الصحيح للمرض، وأعطيت الدّواء الصحيح، ونما شعري من جديد بعد أن استبدل اللون الأسود باللون الأبيض، كما عادت لي بشرتي التي تساقطت، وبهذا فإنني مدين بحياتي للمحامية لانجر ولمدير مكتبها يونا سلمان.

يونا سلمان مدير مكتب لانجر

بعد أن استعدت صحّتي زرت المحامية لانجر في مكتبها في شارع كورش في القدس الغربيّة، وهناك شكرتها وشكرت مدير مكتبها يونا سلمان الذي تعرّفت عليه جيّدا، وهو يهودي شيوعيّ من أكراد العراق، يجيد العربيّة ومتمسك بالعادات العربيّة ومعاد للصهيونيّة، وهجرته هو وأفرد أسرته من العراق لها قصّة مثيرة، فقد كان شقيقه الأكبر "نعيم" معتقلا في سجن نقرة السلمان" بتهمة الشيوعيّة، وقد تمّ ترحيل الأسرة كاملة عام ١٩٤٩من السليمانية شمال العراق مقيّدي الأيدي إلى مطار بغداد، ومن هناك إلى مطار اللد مباشرة، حيث حلّت قيودهم. ولا يزال نعيم يحتفظ بجواز سفره العراقي، ومكتوب على صفحته الأولى بخط أحمر"مجرم شيوعي" مع خاتم وزارة الداخلية العراقية.

الياس نصر الله

وفي مكتب المحامية لانجر تعرفت على السيد الياس نصر الله، من شفاعمرو، حيث كان طالبا جامعيّا، وكان يزوّدنا بصحافة الحزب الشيوعي العربية. وأسس لاحقا منشورات صلاح الدين في القدس. وهو من خيرة أبناء فلسطين، واضطرته ظروف خاصّة على الهجرة إلى بريطانيا، حيث يعمل هناك في الصحافة العربية حتى يومنا هذا.

ولانجر التي تعادي الصهيونيّة تعاطفت بقوّة مع الفلسطينيين، وأصدرت كتابين عن المعتقلين هما" "بأمّ عيني وأؤلئك اخواني" فضحت فيهما ما يتعرض له الأسرى من عذابات، وفي ما، وتركت لانجر هي وزوجها وابنهما الوحيد العيش في اسرائيل وعادوا إلى المانيا وطنهم الأصلي وذلك في بدايات تسعينات القرن الماضي، حيث استمرّت لانجر في فضح السياسات الاسرائيلية، وبقيت تناصر الحق الفلسطيني وتدعو الى كنس الاحتلال، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف.

وقد أحسن الرّئيس أبو مازن صنعا عندما منح المحامية لانجر قبل سنوات قليلة وساما فلسطينيا رفيعا سلمه لها السفير الفلسطيني في المانيا.

وها هي لانجر ترحل عن هذه الحياة تاركة ذكرى طيبة ستخلد اسمها كمدافعة عن حقوق الانسان، وكمناضلة من أجل حرية الشعوب.

فطوبى لها.

اخر الأخبار