زُرّاع الموت وحُصّاد الخراب

تابعنا على:   20:00 2018-03-21

ماجد الشيخ

لا تخلو حياتنا المعاصرة، كما لم تخل حياة القدماء من مسوغات موت كان يصنف على أنه من نوع "الموت المقدس"، أو مقاربة أفعال ميتات أخرى، منها ذاك "الموت المدنس". أما الميتات الأخرى فهي إما نفسية أو معنوية، أو القصد منها تحطيم صورة الآخر؛ فردا أو جماعة أو مجتمعات بأكملها، أريد الإطاحة بها أمام جبروت القوة/السلطة الغاشمة، الداخلة في كل مركبات الخراب والتخريب البنيوي.

في بلادنا يحضر "الموت المدنس" على شكل أدلوجات خاصة بالسلطة، سياسية كانت أو طائفية، تغذي وتتغذى من موت غير رحيم، مآله الخراب والاختراب لكل القيم والأخلاقيات التي يجري نخرها وترذيلها وتتفيهها من قبل "أهل السلطة" ومن التف حولهم من فئات رثة ومستفيدين، ومستوظفين باتوا خدما لسلطة المال وعبيدا لمال السلطة، من دون أن يدركوا مواقعهم الحقيقية في تراتبيات الاسترذال والاسترزال التي جادت وتجود بها طبيعة السلطة الرثة ذاتها، واستزلامها السياسوي والطوائفي لإقطاع يجدد أثوابه وصيغ تواجده وانبثاثه في ما يفترض إنها مؤسسات الدولة أو المجتمع أو البنى الحزبية وحتى النقابية؛ إقطاع امتهن وظيفة السلطة واستمسك بسلطة الوظيفة، بحيث أتاحت له الاستمرار بمواصلة إرث التسلط والاستبداد، والتجديد لذاته السلطوية عند المنعطفات السياسية أو الانتخابية، عبر ناخبين لا ينتخبون، بقدر ما أفهموا أو أشير لهم أن "طلبات" الزعيم، أو رجل الإقطاع السياسي أو الحزبي، أو رجل السلطة المخضرم، هي التي يجري انتخابها أو الاقتراع لها، انطلاقا من المصالح الخاصة بالزعيم، لا انطلاقا من مصالح الناس وتطلعها لخدمة مصالحها هي، بعيدا عن استثمار وتوظيف تلك المصالح في بازار البيع والشراء، في موسم انتخابي محدود ومحدد زمنيا، يعود بعدها الزعماء كل إلى خدمة مصالحه، لا لخدمة مصالح من أسموا "ناخبيهم"، والانتخاب براء مما يأفكون، قبل القوانين الانتخابية وبعدها.

هكذا تموت الحياة السياسية على أيدي "أهل السلطة" وبيوتاتها السلطوية من محترفي وممتهني السلطة، كما ماتت وتموت الثقافة على أيدي مؤدلجي ثقافة زائفة، لا تنتمي لجنس الثقافة، بقدر ما تنتمي لأجناس أخرى من انحيازات "مثقفين" لوظيفة واستثمار السلطة لصالح تراتبيات سلطة هي الحاكمة رغم جهلها، وتحيزاتها لما يضاد الثقافة والمعرفة والعلم، ومعاداتها للعلوم المعرفية والاستدلالية.

لهذا لم يبدأ الخراب السلطوي في هذه البلاد منذ هزائم النكبات الأولى، ولا في ما تلاها من نكبات، الخراب متأصل في ما عشعش في ثنايا أول سلطة سياسية ومنذ ما قبلها من سلطات إجتماعية، سابقة على وجود تكوينات الدولة أو الدول الجنينية عندنا، وصولا إلى بدايات نشوء "دولة الاستعمار"، وما استمر يتوالد من أشكال وصيغ "الدول الوطنية" التي لم تكن كذلك إلا اسما مجردا من غير تجسيد، ما تجسد تحت راياتها لم يكن إلا ذاك الشكل الجنيني لسلطة شمولية، انقادت لأيديولوجيا "سلطة أبوية" احتكرت لنفسها كل شيء، ولم تبق للتشكيلات الطبقية والفئوية الأخرى سوى الفتات، الذي عادت فصادرته حتى امتلكت كل شيء؛ الدولة والمجتمع والاقتصاد والناس، وهمشت كل ما كان يمكن أن ينتج بنى دولة/أمة غاب أثرها منذ البدء، ولم يظهر لها أي أثر حتى اليوم.

لهذا غابت وتغيب السياسة والثقافة في بنى الدولة/الدول القائمة، وما حضرت وتحضر منذ القدم سوى بنى الغلبة/العسكرة الإكراهية، والأيديولوجيات والفرق والتيارات والمزق الدينية الطائفية والمذهبية، وهي ما يتحكم بكل "حقول الدولة" و "ملاعب المجتمع" اليوم، في معاندة واضحة وفاضحة لما آل إليه حالنا وأحوالنا في عهد اجتمعت فيه كل الفواحش، وما أنبتته من زراعات موت أنبتت بدورها، كل ما جادت به قرائح ومسلكيات الدواعش وأضرابهم، وما ولدته وأنتجته من حصاد الخراب العميم. وما كان لذاك الزرع إلا أن ينتج مثل هذا الحصاد: هوامش ومظاهر وظواهر استبدادية، ومضامين ومتون أكثر استبدادية، وذاك هو إقطاعنا السلطوي الحديث، بل الأكثر حداثة وسلطوية، على ما آلت إليه مترادفات سلطة المال ومال السلطة، وهما يصنّعان "سلطة أهلية" موازية لسلطة الإقطاع التي سادت يوما، ومطلوب منا جميعا ضرورة التحرر منها، لا الوقوع أسرى استلابها واسترهانها.

اخر الأخبار