محمود درويش.. الشاعر والانسان والسياسي !!

تابعنا على:   19:20 2018-03-14

د. عبد القادر فارس

 في ذكرى ميلاد سيد الشعراء , الراحل الكبير , محمود درويش , الثالث عشر من مارس ( آذار) 1941 في بلدته ( البروة ) في الجليل الفلسطيني الأشم , نتذكر شاعرا بحجم الأمة بما قدمه للأدب والثقافة العربية , وبحجم فلسطين التي أنجبته مولداً وثقافة وسياسة , وفي هذه العجالة نكتب عن درويش في بعض اهتماماته ونوادره في الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية , في أربعة محاور :
أولا - محمود درويش .. اللغة والكتابة :
* كان محمود درويش يمتك لغة فارهة , ويجترح صورا شعرية " طازجة " في كل مرة , وكان مسكونا بــ " التجريب " والبحث عن الجديد والتجديد المدهش والحداثة لغة ومضمونا, وكان كل ديوان له يتضمن تجربة مغايرة لسابقتها , فهو كان يرى دائما أن أجمل قصيدة هي القصيدة التي لم يكتبها بعد.
*رغم ميول درويش اليسارية , ونشأته في الحزب الشيوعي " الاسرائيلي " , كان قارئا جيدا للقرآن , وقد تجلت اللغة القرآنية في العديد من نصوصه المرموقة , كقصيدة " أخوة يوسف " وقصيدة " الهدهد " و" القربان " , وغيرها من القصائد التي كانت فيها اللغة القرآنية تمتاز بالروعة , فضلا عن الأحاديث النبوية, ومن يقرأ قصيدته المطولة " الجدارية " يلمس ذلك عميقا.
* رغم أن محمود درويش كان متفتحا على ثقافات العالم , والتجليات الابداعية العالمية , إلا أنه ظل متشبثا بالتراث العربي عميقا , فديوان " جده " أبو الطيب المتنبي كان صديقا ملازما له في حله وترحاله , ولشعر المتنبي حضور مضيْ ومميز في قصائد درويش , ولنا أن نتذكر قصيدته الرائعة " هجرة المتنبي إلى مصر ورحيله عنها " , وتضميناته الواعية والمبدعة لجمر ذلك العملاق الكبير , التي ظلت متوهجة في قصيدة درويش.
* اعتاد محمود درويش الكتابة بقلم الحبر السائل , وخطه جميل وأنيق , وهو بدون الكتابة بهذا النوع من الاقلام لا يحس بالكتابة , أو يرى أن النص الذي يكتبه بقلم لم يتعود الكتابة به نص ليس جميلا وليس ناضجا , فالحبر السائل يجعله يثق فيما يكتب . وهذا يذكرني بحوار صحفي أجريته مع الروائي الجزائري الكبير الدكتور واسيني الأعرج الذي قال لي " أنا لا أكتب إلا بقلم الحبر السائل , وباللون الأسود تحديدا , لأنني أشعر أنني أكتب بمداد دمي , ولا يمكن أن اشعر بالكتابة على الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر , بأنني أكتب نصا أدبيا من دواخلي " .
*ومحمود درويش كان مبدعا في كتابة النثر بالدرجة نفسها التي أبدع فيها بالشعر , فلغته النثرية أنيقة وعميقة ومشرقة دائما , وعندما نقرأ " الرسائل " التي تبادلها مع شاعرنا الكبير سميح القاسم , نكتشف عمق اللغة وحلاوتها , حيث لا فرق تقريبا بين الشعر والنثر. لقد كان محمود درويش يحب التأمل , فكان يمشي متأملا في " حديقة "مثلا , فالمشي وحيدا وهادئا يجعله يقتنص صورا جديدة , ويشعل فيه الشرارة الأولى للكتابة الزاخرة بالحياة والأمل والحياة.
ثانيا - محمود درويش .. الوقت والقراءة :
* من عادات محمود درويش أنه يخصص وقتا من النهار للقراءات التي يمكن وصفها بالجافة , مثل التاريخ أو السياسة , فيما يخصص وقتا من الليل لقراءة الشعر أو كتابته , من دون أن يترك ذلك لمزاجه الشخصي , وهو بذلك يذكرنا بسيد الرواية العربية صاحب نوبل للآداب الكاتب الكبير نجيب محفوظ . فمحمود درويش لا يدع القراءة والكتابة للصدف , بل يخضع ذلك لإرادته الصارمة , ولهذا تطور درويش وأنتج وأبدع , وظلت في حوزته الكثير من مشاريع الكتابة الشعرية العميقة والمدهشة .
* كما أن درويش وبحكم نشأته الأولى , وبقائه في الأرض المحتلة عام 1948 , إلى غاية مغادرتها عام 1972 , كان قارئا جيدا لــ " التوراة " , واستفاد كثيرا من لغتها وفضاءاتها المضمونية , ومناخاتها وظلالها , وخلفيتها التاريخية .
* كذلك كان محمود درويش يقرأ كثيرا في التاريخ , وفي التاريخ الانساني على وجه الخصوص وهو قارئ شغوف للأساطير الكونية , وكان على اطلاع واسع على تجارب الشعوب وآدابها , مثل الهنود الحمر وخطبهم ونصوصهم الانسانية.
*كان محمود درويش لا يؤمن بالفوضى في حياته , ولا بالصعلكة الفارغة , ولا بجلسات المقاهي , حيث انتاج الثرثرة والتنظير العقيم وهدر الوقت . فوقت شاعر كبير بقامة محمود درويش ثمين للغاية , ولهذا حرص أن يستثمره بطريقة منظمة , وبأسلوب حياة منضبط , فهو يقرأ في موعد , ويكتب في موعد , ولا يستقبل في بيته أحدا , إلا إذا كان صديقا حميما جدا. ينهض في الصباح باكرا , وحين يعود للبيت يطهو طعامه بنفسه , ومن طرائف درويش في الطعام أنه لا يحب طعاما تدخل فيه " الكزبرة " فهو يضيق ذرعا برائحتها. وكان درويش يخلد للقيلولة لمدة نصف ساعة تحديدا , فنصف الساعة هذه , في رأيه. تكفي لاستعادة الحيوية والنشاط , أما إذا زاد وقت القيلولة عن ذلك , فإنه يستحيل مرضا وخمولا.
ثالثا - محمود درويش والمرأة :
*المرأة في حياة درويش هي الأم , الحبيبة , الجمال , الدفء , الحلم , كانت حاضرة دائما في شعره , وكتب فيها أعذب النصوص , وأكثرها جمالا , ونالت شهرة وانتشارا كبيرا , وحظوة عند القارئ والمتلقي. فأمه السيدة " حورية " ظلت حاضرة اسما صريحا , وصفات ورائحة وذكرى , وذاعت كثيرا من قصائده التي تغني فيها بأمه طويلا وعميقا , ومن لا يذكر قصيدته الشهيرة " أحن إلى خبز أمي " , التي غناها الفنان اللبناني المبدع والملتزم مارسيل خليفة , والتي يحفظها الكثيرون عن ظهر قلب.
* المرأة / الزوجة في حياة محمد درويش : كانت محض وجود سريع الزوال , ربما بسبب عصبيته المفرطة وغضبه السريع , فضلا عن قلقه الدائم " وهي صفة دائمة للمبدع الحقيقي ".
* تزوج درويش مرتين في حياته , الأولى من الكاتبة السورية رنا صباح قباني وهي ابنة شقيق الشاعر السوري الكبير نزار قباني , لكن زواجه ذلك مني بالفشل , ولم يستمر طويلا , وقالت مطلقته السيدة الدمشقية : " إن محمود لم يخلق ليكون زوجا ورب أسرة وأبا , فهو شاعر رائع , لكنه في الوقت نفسه زوج فاشل " . أما الزواج الثاني فكان من الفنانة والمترجمة المصرية حياة الهيني واستمر لعدة أشهر فقط وانفصلا بعدها . وكان درويش يقول عن الزواج " المؤسسة الزوجية قيد يجب أن يبتعد عنها أي إنسان يحمل في داخله بذرة فن أو ابداع ". 
* رغم زواج محمود درويش مرتين , لكنه عايش حياة العازب , كان يحب أن يطهو الطعام بنفسه , لكنه يكره الكزبرة في الطعام , واشتهر بولعه في شرب القهوة , وله طقوس خاصة لها , فهو يعدها بيده ويتفنن في إعدادها على مهل وعلى نار هادئة , ولا يشربها إلا في فنجان أبيض , وباتت القهوة دليله إلى عادات الناس وتفاصيل حياتهم , فمثلا إذا أراد تناول قهوة ذات رائحة ما التقطتها من شيء آخر , فهذا يعني أن سيدة البيت مهملة , وبيتها غير مرتب , ومطبخها نهب للفوضى وهكذا دواليك باقي الأشياء.
* المرأة في شعر محمود درويش : كانت المرأة كما قلنا آنفا هي الجمال والدفء , والوجود الفاتن في كثير من قصائد درويش , وكان منها مثلا وليس على سبيل الحصر " امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها " , و"امرأة تتشمس في نفسها " , وقصيدته الشهيرة " ريتا والبندقية " , التي غناها مارسيل خليفة أيضا , ونالت شهرة كبيرة منذ بداياته المثيرة. 
رابعا - محمود درويش .. القضية والسياسة: 
* دخل محمود درويش المعتقلات الاسرائيلية , حين كان مناضلا سياسيا في صفوف الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي كان متنفسا للمناضلين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الداخل الفلسطيني , وطرد من أرضه , وتنقل من منفى إلى منفى , عاش في العديد من المدن والعواصم , من القاهرة إلى عمان إلى بيروت وعدن وتونس , وباريس وروما وهلسنكي .. وغيرها من مدن المنفى والشتات , وقد تركت مدن كثيرة بصماتها وظلالها وجروحها في نفسه , إلا أن مدنا كثيرة أفاد منه كثيرا , ثقافيا على الأقل , واكتشف فيها غربة الروح , بالإضافة إلى غربة الوطن , فاتخذ من اللغة مقر إقامة ووطنا , ولهذا حرص على أن تكون اللغة جميلة ومدهشة وغنية بالحياة , والاحتمالات والأحلام والألم الصعب. 
*ارتبط اسم محمود درويش بالقضية الفلسطينية ارتباطا عميقا , الأمر الذي دفع الكثير من حساده إلى إرجاع شهرته العريضة والطاغية , إلى " القضية " , وليس إلى ما يتمتع به من شاعرية حقه , وموهبة فذة , وثقافة غنية , وحس مرهف , وهو ما جعل الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف يرفع الصوت عاليا , لرفع الظلم الفادح الذي لحق بمحمود درويش , وأطلق صرخته الشهيرة قائلا : " ليس محمود درويش من يتكئ على القضية الفلسطينية , إنما القضية هي التي تتكئ على الشاعر محمود درويش" . ودرويش ضاق ذرعا من حشره حشرا في قائمة ما يسمى " شعراء المقاومة " , فصرخ هو الآخر صرخته المدوية " ارحمونا من هذا الحب " , رافضا المدائح التمجيدية التي يسكبها النقاد والكتاب والشعراء العرب على الشعراء الفلسطينيين بوصفهم " شعراء مقاومة " يستحقون التأييد والمساندة.
* وكما فشل محمود درويش في التوفيق بين الزواج والإبداع , فقد فشل كذلك في الجمع بين الشعر والسياسة , ولم يستطع أن "يحمل بطيختين في يد واحدة " . كما قال هو ذات مرة , فترك السياسة لأصحابها , وعزف عن المناصب بعد أن وصل إلى أعلى المراتب السياسية , فكان عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية , ورئيسا لدائرة الثقافة في المنظمة , فترك المناصب السياسة بعد اتفاق أوسلو واستقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير , على الرغم من أنه ارتبط بعلاقة وثيقة ووطيدة وحميمة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات , وقال عنه إنه يخبئه في القلب , وهو الذي كتب بيان الاستقلال , الذي قرأه أبو عمار في ختام اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني يوم 15 نوفمبر 1988.
*لجأ محمود درويش للشعر لكي يحتمي به من السياسة , إلى أن توقف القلب العاشق لفلسطين , عن نبض الشعر , ويدفن جسد صاحب ديوان " عاشق من فلسطين " في مدينة رام الله , إلى جانب العاشق الكبير رمز فلسطين ياسر عرفات , الذي سبقه قبل ذلك بأربع سنوات , وكأنما أراد القدر أن يجمع بين القامتين الكبيرتين في تراب فلسطين بعد هذه الرحلة الشاقة والشيقة في حب فلسطين .

اخر الأخبار