الموقع والمكانة الرمزية والروحية للقدس عاصمة فلسطين الأبدية

تابعنا على:   14:00 2017-12-15

بلال أحمد أبو السعيد

القدس ملتقى الأرض والسماء ، فيها عبق روحي وتاريخي ليس له نظير ، إليها سرى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ،ومنها كان معراجه إلى السماء ،وفيها كنيسة قيامة السيد المسيح عليه السلام ،وهي مهوى أفئدة أتباع الديانات السماوية ،و قل أن تدانيها مدينة في العالم في المكانة الدينية و الرمزية والقداسة ،وهي قلب فلسطين جنوب بلاد الشام وعاصمتها ،وفي قلب الوطن العربي والإسلامي موقعاً وتاريخاً ،عربية منذ كانت ،بناها العرب اليبوسيون الذين هم بطن من بطون الكنعانيين من العرب الأوائل ،جاؤوا من شبه الجزيرة العربية ،قبل أكثر من أربعة آلاف عام.

وعلى الرغم من مرور غزاة كثيرين في تاريخها ،إلا أن العرب استقروا في هذه المدينة المقدسة ،منذ الفتح الإسلامي في العام الخامس عشر للهجرة الموافق لعام 636 ميلادية، وهي احتلت مكانة هامة في الدعوة الإسلامية، فقد أشير إليها مرات عديدة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، وكانت قبلة الإسلام الأولى، وإليها تشدّ الرحال ، يقدس كثير من الحجاج المسلمين القادمين من الأقطار الإسلامية حجتهم بزيارتها ، ويحج إليها المسيحيون من العالم أجمع .

وبنى الأمويون فيها قبة الصخرة المشرفة ، والمسجد الأقصى المبارك ، وبنيت المعالم العربية والإسلامية الأخرى، التي تملأ المدينة في العهود الإسلامية المختلفة ،حيث اهتم الخلفاء والسلاطين العرب والمسلمون بالمدينة في مختلف العهود ،وبنوا فيها القصور ،وأعادوا تجديد عمارة الصخرة المشرفة والأقصى المبارك مرات عديدة ، وخاصة بعد الزلازل التي كانت تلحق أضراراً بالبناءين، وبنيت في أنحائها المساجد والمدارس والزوايا والتكايا والربط والأسبلة ،وخاصة في العهود الأيوبية والمملوكية والعثمانية ،وفيها الأديرة والكنائس العظيمة (كنيسة القيامة ،وكنيسة الجثمانية ...).

وقد ظلت القدس عربية الطابع، على الرغم من تعرضها منذ الفتح الإسلامي لاحتلالين أجنبيين ،حاولا تغيير معالمها ، وإزالة الطابع العربي عنها ، الاحتلال الصليبي الذي دام 88 سنة حتى تحررت المدينة على يد صلاح الدين الأيوبي عام 1187 ميلادية . ثم الاحتلال الصهيوني الحالي ،الذي يجثم على صدر المدينة اليوم، وسيندحر عنها بنضال الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية،ويمكن القول أن القدس كانت محط أنظار الغزاة والطامعين عبر الزمن، لأهميتها الروحية والإستراتيجية ،فإلى أهميتها الدينية والروحية ، فإن القدس تتمتع بموقع استراتيجي هام، وسط السلسلة الجبلية التي تشكل العامود الفقري للأرض الفلسطينية ، وترتفع 750 متراً عن سطح البحر المتوسط ، وما يوازي 1150 متراً عن سطح البحر الميت ، حيث يشتد انحدار السلسلة الجبلية، والمدينة مقامة فوق هضبة جبلية ،على خط تقسيم المياه ، بين وادي الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً ، وهي تبعد 22كم عن البحر الميت، و52 كم عن البحر المتوسط ، وترتبط بمجموعة طرق تتصل بمختلف الاتجاهات، وتخترق المرتفعات من الشمال إلى الجنوب،ومن وادي الأردن إلى الساحل الفلسطيني، وهي في ملتقى الطرق بين عمان ودمشق وبيروت والقاهرة ، ولها أهمية عسكرية واستراتيجية كبيرة ، فعبر التاريخ كان من يسيطر على القدس يسيطر على فلسطين كلها .

وهكذا فإن القدس تتمتع بموقع مركزي في فلسطين ،التي لها موقع مركزي في الوطن العربي ، والعالم الإسلامي ،بل والعالم أجمع . فهي تقع على نقطة اتصال قارتي آسيا وإفريقيا ، وغرب الوطن العربي مع شرقه ،وعلى القسم الجنوبي من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط الذي تتصل بشواطئه القارات الثلاث ، وقرب قناة السويس الشريان الرئيسي للموصلات العالمية، وهي بالتالي تشكل موقعا مركزياً في مسرح العمليات الاستراتيجية الدولية، الممتد من أوروبا إلى "الشرق الأوسط" إلى إفريقيا ، وصولاً إلى وسط آسيا والشرق الأقصى ، إضافة إلى قربها من المنابع الرئيسية للنفط في العالم وشرايينه الأساسية ،وبما يؤكد المكانة الفريدة الدينية والعسكرية والاقتصادية والاستراتيجية للقدس ، التي لا يمكن فصلها عن فلسطين ولا فصل فلسطين عنها .

والمدينة القديمة التي لا تتجاوز مساحتها الكيلومتر المربع ،وتضم الكنوز الأثرية الإنسانية العظيمة ، تقع داخل السور الذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1542 ،وفيه سبعة أبواب ،ويقع الحرم القدسي الشريف في زاويته الشرقية ،وقد توسعت المدينة خارج السور في كل الاتجاهات منذ أواسط القرن التاسع عشر ، حيث أنشئت الأحياء الجديدة ،على الجبال المحيطة بها ، مثل جبل المشارف والقطمون والمكبر, والتحمت بالقرى المجاورة لها ، مثل شعفاط وبيت حنينا وسلوان وعين كارم في العقود الأخيرة ،وهي كانت مركز لواء(سنجق)تابع لولاية دمشق في العهد العثماني،ثم أصبحت مركز متصرفية عام 1864 تتبع إدارتها مباشرة للعاصمة استانبول ، وتدار من قبل حاكم الإقليم، وكانت بلديتها تأسست عام 1957 (وفي مصدر آخر عام 1963 ) ،وحين جاء الاحتلال البريطاني لفلسطين أواخر الحرب العالمية الأولى ، جعل من القدس عاصمة لحكومة الانتداب ،والمركز الإداري والسياسي لفلسطين ،التي مثلت في ذلك الحين مركز الإدارة والسيطرة والتموين لكل القوات، والمستعمرات البريطانية في الشرق الأوسط، والشرق عموماً .

القدس كانت على مدى الصراع العربي الصهيوني في مركز هذا الصراع وساحة أساسية من ساحاته، وأن القيادات الصهيونية المتعاقبة كانت تضع القدس في مركز أطماعها، وعلى رأس أولوياتها الاستيطانية العدوانية، وتحاول فرض مزاعمها بأن "القدس كاملة هي عاصمة للدولة الصهيونية ويجب أن تكون يهودية" ، في الوقت الذي يرفض فيه الفلسطينيون والعرب التخلي عن عروبة القدس وعن حقهم فيها ،وهذا ما نجم عنه حالة صدام مستمر تؤدي إلى تحريك الصراع وتأجيجه ،وتعقد مسألة التوصل إلى تسوية بشأنه ،وهكذا فالقدس بما لها من مكانة دينية وتاريخية ،وما لموقعها في قلب فلسطين من مكانة استراتيجية ،تمثل جزءاً جوهرياً من الصراع العربي الصهيوني ،لا يمكن فصلها عنه،ولا فصله عنها ،وهي محرك أساسي من محركاته ،وبالتالي فإن مستقبل ومصير مشكلة القدس لا ينفصل عن مستقبل ومصير الصراع العربي الصهيوني ،وهي ستظل في قلبه مهما طال ،لا بل إن مشكلتها سبب جوهري من أسباب إطالة أمده ، بمعنى أنه إذا جرى التوصل إلى تسويات لبعض مفردات هذا الصراع ،فإن مشكلة القدس سوف تظل عالقة كآخر هذه المفردات وأبرزها .

ومن هنا فإنه لا يبدو أن هناك أفق للتسوية السياسية في هذه المرحلة ، بسسب التعنت الصهيوني وعدم الجديّة الأمريكية والدولية وضعف الموقف العربي العام، وكل الحديث الذي يجري حالياً عن عملية استئناف المفاوضات،لا يعدو كونه جزء من الأسلوب المناور للصهاينة والأمريكيين، وشكل من أشكال إدارة الصراع وليس السعي للوصول بالضرورة إلى تسوية فعلية... ، في ظل نظام رسمي عربي متواطئ ومشارك وانتقل إلى دائرة التطبيع العلني ، والمعاداة لحق شعبنا الفلسطيني تاتي المخاطر من " صفقة القرن" التي يروج لها ترامب والساعية لتصفية قضيتنا الوطنية ، وآخر تجليات الموقف الأمريكي استعداد ترامب بنقل سفارة بلاده للقدس، أو الإعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني رغم كل التحذيرات من الأطراف المختلفة ومخالفة واضحة لكل القرارات الدولية بشأن القدس مما يؤدي إلى خلط الأوراق ووأد "العملية السلمية" .إن الإعتراف بالقدس عاصمة للكيان يُمثّل خطورة كبرى أشدّ من نقل السفارة حيث أنه يُشرعن تهويدها ، وعليه فإن القدس ستبقى ميداناً أساسياً من ميادين هذا الصراع بأشكاله المختلفة، فالصهاينة سيواصلون محاولات فرض الأمر الواقع ، وتصعيد أعمال التهويد والاستيطان ،وهدم البيوت وطرد وتشريد السكان وقمع النضال الوطني في القدس والأرض المحتلة ،وفي الوقت نفسه سيواصل العرب في المدينة تشبثهم ببيوتهم وأملاكهم ووجودهم فيها ، وسيواصلون المواجهة بكافة أشكالها، بما فيها العمليات العسكرية والاستشهادية ،مهما كانت صعوبة الظروف والأوضاع ، (هم يضعون خياماً في الشارع عندما تهدم بيوتهم ،أو يغتصبها المستوطنون ،ويعيش عشرة أشخاص في غرفة أحياناً) ، حيث لم تعد فكرة الهجرة والرحيل موجودة لدى الشعب الفلسطيني الآن ،والظروف الدولية ووسائل الإعلام الحديثة التي تكشف وتنقل الجرائم للعالم في حينها ،لا تتيح للصهاينة القيام بعملية ترحيل لهؤلاء السكان بالقوة الغاشمة وبالمجازر كما حدث عام 1948 ،وأكثر ما يمكن أن يحدث هو مزيد من التضييق وتصعيب الحياة على هؤلاء السكان ، والمزيد من التطويق الاستيطاني ومن تدنيس المقدسات ومحاولات تخريبها وهدمها ،أي مزيد من العبث الصهيوني بالمدينة ومقدساتها ومعالمها والضغط على سكانها .

ومن ناحية عملية التسوية ستظل القدس تشكل عقبة أساسية عند كل استئناف للمفاوضات ،فالصهاينة الذين تغلب عليهم طبيعة المناورة لكسب الوقت وتغيير الوقائع أكثر من الجد في هذا المجال ، تتراوح مواقفهم بين رافض كلياً لبحث موضوع القدس كالأحزاب الدينية واليمين المتطرف، وبين من يمكن أن يعرض نوعاً من الإشراف على المقدسات، والمشاركة الإدارية لبعض الأحياء شرق القدس، مع بقاء المدينة موحّدة تحت السيادة والسيطرة الصهيونية (مثل الذي عرض على عرفات في كامب ديفيد ) ،وهو أمر لا يستطيع أي فلسطيني أو عربي قبوله، ولا توجد إمكانية للتوصل إلى اتفاق حول القدس على الصعيد الفلسطيني في المرحلة الحالية ،وهكذا فإن مصير القدس مرتبط بمصير الصراع العربي الصهيوني ، الذي يبدو مفتوحاً في المدى المنظور.

إن إيماننا بأن المآل النهائي لقضية القدس والقضية الفلسطينية سيكون لصالح الشعب العربي الفلسطيني ، يأتي في الأساس انطلاقاً من أن الوجود الصهيوني قد جاء معاكساً لطبيعة الأشياء ، وهو وجود طارئ على المنطقة وشعوبها ، ومرتبط بمرحلة من تاريخ العالم اتّسمت بهيمنة القوى الاستعمارية الكبرى وخلق ركائز لهذه الهيمنة ،لا بد أن تنحسر لصالح الشعوب وحقها في تقرير المصير ، ومرتبط بحالة التأخر والتخلف والتجزئة التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية ،كنتاج لتلك الهيمنة الاستعمارية التي لا بد أن تنتهي ،وأن المستقبل لا يمكن أن يكون للعنصرية والاحتلال والاستيطان ،خاصة وأن الاستيطان الصهيوني هو الأخير في العالم الذي ما يزال قائماً ، حيث فشلت جميع تجاربه وأنظمته في آسيا وإفريقيا التي كان آخرها النظام العنصري في جنوب إفريقيا ،وانتهى عهد الاستيطان في العالم الجديد وتحولت دوله إلى دول عادية ،وبالتالي فإن النظام العنصري الصهيوني سوف ينتهي ويزول إلى الأبد ،لأنه معاكس لمنطق التاريخ ،وسوف تعود القدس حرة عربية كما كانت عبر التاريخ ، رغم قرار ترامب الهمجي الأرعن الإغتصابي باعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني وبنقل سفارة بلاده إليها ، ياتي هذا القرار في ذروة الهجمة على قضيتنا الوطنية، وتجاوز كل الخطوط ، والقوانين والقرارات الدولية ، رغم التحذيرات من كل صوب ظلّ ترامب مصراً على تنفيذ قراره معلناً ليس الإنحياز التام للصهاينة بل مشاركاً لهم في وعد بلفور ثاني، بمشاركة النظام الرسمي العربي وحالة التراجع المزرية والتواطؤ وحالة التطبيع العلني المتسارعة شجعته لأخذ قراره،لقد أعلنها ترامب بوقف ،،العملية السلمية"وأن أمريكا ليست الوسيط النزيه ، وعلى فتح الباب لصفقة القرن التي ستكون صفعة له ولأعداء الأمة والمتواطئين معها ، وحتى يحدث ذلك لا بدّ أن يستمر الصراع مع العدو الصهيوني بكل السبل والوسائل، وعلينا نحن الفلسطينيون مهمة ملحّة وهي الوحدة الوطنية لتجمع كل المكونات والأطياف الفلسطينية على اساس برنامج سياسي موحد جامع للرؤى والقواسم المشتركة ، وإتمام المصالحة لتفتح الباب نحو المصالحة الأشمل، وينبغي عدم الاستسلام لمنطق وشروط العدو، ولا بدّ من دعم صمود الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة ودعم صمود أهل القدس بكل الوسائل ،وحشد الدعم المالي والسياسي والمعنوي للقدس وقضيتها (والدعم العسكري حين يصبح ذلك ممكناً ) ،وإن تسعير الهجمة الصهيونية على سكان القدس ومقدساتها في الوقت الحال، يظهر كم هو ضروري وملح هذا الدعم ، حتى يستطيع تعويض من تهدم بيوتهم أو يعتقلون أو تقطع أرزاقهم والذين آثروا البقاء والصمود في مدينتهم ،ومن المحزن القول أن هذا الدعم، لا يتجاوز 4 مليون دولار في العام حالياً، فيما يخصص الصهاينة مئات الملايين لتهويد القدس، و يقدم مليونير يهودي واحد( الأمريكي موسكوفيتش) 20 مليون دولار لتهويد القدس، والدعم المقصود ليس مالياً فقط بل الدعم للمقاومة ونهجها ،وتعزيز التضامن العربي ،وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية العرب المركزية الأولى وقضية وجود ومصير هذه الأمة .

اخر الأخبار